الثقافة لمواجهة التكفير والظلامية / د. يحيى أبو زكريا

 

د. يحيى أبو زكريا ( السبت ) 12/12/2015 م …

يعتبر الحوار مبدءاً مقدّساً في تاريخ الحضارات والفلسفات، وحتى في الديانات السماوية، والشعوب والأمم التي احترفت الحوار كمسلكية ثقافية واجتماعية وحياتية استطاعت أن تترك بصمتها في المسرح الحضاري والإنساني.

والحوار البنّاء هو ذلك الحوار الذي يراكم العملية الحضارية والثقافية، والتي بدونها يكون شكل الحياة باهتاً حزيناً أحادياً، فمثلما تقوم الطبيعة على التنوُّع الخَلقي والنوعي والشكلي واللوني، وهذا يزيد الحياة بهجة وتألُّقاً، فكذلك المشهد الثقافي يكون راقياً ومتألقاً كلما كان متنوعاً ومتعدداً.. ويصبح المثقف في هذه الحالة هو المدماك الذي يقوم عليه المشهد العام.

فكيف يا تُرى يكون شكل حياتنا بدون قصيدة جميلة، وبدون كتاب مؤنس، وبدون أفكار حيّة، وبدون مسرح متألّق، وبدون رواية إنسانية مؤثرة، وبدون حوار الثقافات، وبدون التعددية الفكرية والإيديولوجية، ستكون حياتنا عندها، وبدون الثقافة حياة جافة بدون معنى ولا مغزى.

ولأجل ذلك، كانت الثقافة هي السلاح الذي اعتمده الإنسان في تأكيد ذاته وحريته، وتأكيد أنه خُلق ليعيش حراً.. وعلى امتداد التاريخ البشري استُخدمت الثقافة لمواجهة الظلم وإحقاق العدل، لمواجهة الديكتاتورية وإحقاق الديمقراطية والحرية، ويؤكّد التأريخ تاريخ الإنسان مهما كان لونه وشكله ودينه وقوميته أن المبدعين والمثقفين هم الذين قادوا التغيير، وهم الذين مهّدوا للتطورات الكبرى التي عرفها التاريخ، والفلاسفة والأنبياء والشعراء والكُتّاب والروائيون ما هم إلاّ بشرٌ من نوع خاص؛ هم بشر يحملون همّاً ثقافياً، ويهدفون إلى تغيير حياة الإنسان نحو الأفضل. فمن أرسطو وسقراط، إلى ابن رشد ودانتون ومونتسكيو وأوغست ستراندبيري وغيرهم وقف المثقفون في وجه الديكتاتوريات، فالشاعر الجزائري مفدي زكريّا لطالما تحدّى الظلم بقصائده، ونجيب محفوظ المصري لطالما تحدّى واقعاً غير مألوف برواياته، ولطالما تحدّت فيروز بصوتها في لبنان أصوات المَدافع والدبّابات، ولطالما شكّل شعر نزار قبّاني السوري حالة نادرة من إرادة التغيير، كما أن قصائد محمود درويش وفدوى طوقان في فلسطين كانت مواكبة لنضال الشعب الفلسطيني، ولطالما نددت القصائد الوطنية السورية بجبروت الظلامية والأصولية الراغبة في استئصال الآخر المخالف.

مصير البشرية سيكون مظلماً بدون ثقافة تعددية، والقصائد والأشعار والروايات والأفكار التي تحدّت العسكريتاريا في العالم الثالث ستتحوّل إلى منارات لأجيال الغد، وأكبر دليل على ذلك أنّ الأفكار والثقافات كانت وراء كل التغييرات الكبرى الإيجابية التي عرفها التاريخ، أما الحروب فقد أنتجها الساسة والعسكريون والمصابون بجنون العظَمة.

لقد أدرك الظلاميون حقيقة الأدوار الكبرى للمبدعين والمثقفين، فسجنوهم وعذبوهم وقتلوهم ودفنوهم أحياء، متناسين أنهم بذلك يقتلون أنبل ما في الوجود، وفي الوقت نفسه يرخون العنان لصيحات مدوّية تفضي إلى أكبر تغيير، ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نقول إن سقراط وابن رشد والسهروردي وغيرهم قد ماتوا، فالثقافة لا تموت.. قد تغيب لحظة، لكن عندما تسطع أشعتها، فلا أحد يستطيع أن يحجبها بعد ذلك.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.