انهيار الجسد السوفييتي والنهوض بروسيا مجددا في عصر بوتين ( الحلقة الأولى ) / د.فايز رشيد

 

د.فايز رشيد ( الأردن ) الأحد 13/12/2015 م …

ربع قرن زمني مضى على انهيار الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، أصبح العالم فيها ذا وجه مختلف عمّا كان عليه. بدوري عشت اثنى عشر عاماً في موسكو ومينسك.

الأولى، في الفترة بين 1972– 1979 أثناء دراستي للطب في العاصمة السوفييتية، كانت موسكو في أوجها، وكذلك التجربة الاشتراكية فيما عُرف بالاتحاد السوفييتي. كل ذلك بالرغم من الجمود الحركي الذي أصاب الحزب وبدورها التجربة، وبخاصة في عهد بريجنيف ستالين (المومياء الحيّ) في أواخر أيامه، فأدى كل ذلك إلى البيروقراطية حتى في المؤسسات المركزية للدولة، وإلى انفضاض الناس عن الاشتراكية، تفشت البيروقراطية في الحزب والمجتمع! هذه ستقود حتماً إلى سلسلة من الأمراض الاجتماعية الأخرى: الانتهازية، الحرص على الأنا واهمال المصالح العامة، انتشار الرشاوى والفساد.

أحداث كثيرة مرّت بين العامين، منذ تخرجي عام 1979 حتى عام 1985، حين جاءتني فرصة للتخصص في جمهورية روسيا البيضاء (بيلاروسيا)، وفي معهد مشهور لرفع كفاءة الأطباء في العاصمة مينسك.

كنتُ قد زرتُ هذه المدينة في أواسط السبعينيات من القرن الزمني الماضي ليومين، وأعجبتني بهدوئها وجمالها!.

عشتُ في مينسك خمس سنوات من عام 1985 حتى صيف عام 1990. كان الاتحاد السوفييتي آنذاك يعيش أبأس فترة مرّ بها بفعل بيريسترويكا ( الهيكلة أو الإصلاح الاقتصادى) وجلاسنوست ( سياسه الدعايه القصوى والانفتاح والشفافية في انشطة جميع المؤسسات الحكومية) . تلك السياستان اللتان تلازمتا مع انهيار الاتحاد السوفييتى فى عهد الرئيس ميخائيل جورباتشوف.

لا بضائع في الأسواق ولا حتى مواد غذائية سوى الخبز والبطاطا. صدقت نبوءة بيريجنسكي في انهيار الاتحاد السوفييتي، ليس بفعل عوامل خارجية تدخّلت في التجربة مباشرة، ولكن أيضا بعدة عوامل داخلية، بطريقة غير مباشرة، مما ساعد على إسقاطها.

غبت عن مينسك عشر سنوات، كنت أتابع خلالها تجربة بيلاروسيا في الاستقلال، بعد الانفصال عن الجسد السوفييتي إثر انهياره. كنتُ أسمعُ أنها الجمهورية الأقرب إلى ما كانت عليه التجربة الاشتراكية. كنتُ أقرأ عن الأمن المستتب فيها، وعن توفر كل السلع حتى الأجنبية في أسواقها. لذلك أحببت العودة إلى المدينة في زيارات متكررة

بداية العام الحالي 2015 راودتني فكرة كتاب جديد ، عمّا بقي من الاتحاد السوفييتي من مظاهر، بعد 25 عاماً على انهيار التجربة! راودتني أيضاً فكرة زيارة موسكو بعد آخر زيارة لي لها في عام 1990 قبل مغادرتي إلى عمان.

شجّعتني على كتابة هذه الرواية: خطوات الرئيس بوتين في إعادة روسيا إلى الحلبة الدولية. كنتُ قبلاً قد زرتُ أوكرانيا، بحكم عدم وجود رحلة مباشرة إلى مينسك، فإما عن طريق كييف أو فيينا أو عواصم أخرى.

حزمت حقائبي في رحلة استمرت شهرا تقريباً (في الفترة ما بين 18 مايوـ 12 يونيو 2015) إلى البلدان الثلاث. قابلت كثيرين، أجريتُ لقاءات عديدة مع مسؤولين رسميين وغير رسميين، مع خبراء مختصين ومعلقين سياسيين، طلب البعض منهم عدم ذكر اسمه في الكتاب الجديد، وبعضهم لا يخشى ذلك.

حقبتان رئيسيتان مرّت بهما روسيا بعد الانهيار، الأولى، حين تسلّم الرئيس يلتسين منصب الرئاسة، فقد ساهم بتحويل روسيا إلى دولة عالم ثالثية، تعتمد في ميزانيتها الأساسية على المساعدات الأميركية الغربية، وعلى ما تجود به تلك الدول على روسيا من قمح تشتريه بالعملة الصعبة، انتشرت المافيات في موسكو، وهي كانت بمثابة السلطة الأخرى. فرضت حكمها من خلال غرامات وخوّات باهظة تفرضها على كل المنتجين، حتى الصغار منهم! موسكو في ذلك الزمن، عجّت بالعصابات الإجرامية، لم يكن مواطن روسي في مأمن على روحه، كان يتم القتل من أجل روبلات قليلة لا تساوي بضعة دولارات. على الصعيد الآخر، باع يلتسين غالبية المؤسسات التصنيعية الإنتاجية بأسعار بخسة إلى كبار الرأسماليين، الذين نموا كالفطر بعد الانهيار.

سيطر الأوليجاركيون (الطغمة المالية) على 90%من الاقتصاد الروسي، وبالتالي على سياسات روسيا الخارجية. وصل الأمر برئيس روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي الشرعية إلى حضور اجتماعات الرؤساء الأوروبيين وهو ثملْ! إلى الحد أنه وبعد إحدى زياراته الأوروبية، ترنح مرّة على سُلّم الطائرة وهو يخرج إلى مستقبليه من الحكومة في مطار موسكو! تلك الفترة وصلت فيها روسيا إلى الحضيض.

اضطرّ غالبية مقاتلي الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) من الروس، إلى بيع أوسمتهم ونوط الشجاعة التي تلقّاها كثيرون منهم، لشجاعتهم في القتال والدفاع عن الوطن السوفييتي. كثيرون من الشيوخ انتشروا في محطات مترو موسكو يشحذون كوبيكات قليلة من أجل شراء رغيف خبز ,يسدّون به رمق جوعهم. في تلك الفترة خرجت عشرات بل مئات الآلاف من الفتيات الروسيات إلى العديد من دول العالم جزء منهن عمل في النوادي الليلية في عواصم كثيرة. بعضهن عمل في مطاعم وبارات. أما معظمهن، فقد انتشرن على قارعة الشوارع يبعن الهوى!.

حفلت تلك الفترة أيضاً، بانتشار النفوذ الصهيوني، وكان له تأثير كبير في السنوات الأخيرة من الحقبة السوفييتية. هذا الوضع الروسي الهشّ، شكّل مرتعاً لتحكّم المنظمات الصهيونية في عصبين رئيسيين ، هما: الاقتصاد والإعلام في روسيا!. أولى الكيان الصهيوني أهمية كبيرة إلى الوضع الروسي، وحاول الاستفادة منه، على الطريقة الشايلوكية بأكبر قدرٍ ممكن! وصل الأمر بيلتسين إلى قصف مقرّ مجلس النواب (الدوما) بالمدافع! أيّ رئيس هذا الذي يقصف برلمان بلده (سلطته التشريعية) بالقذائف والصواريخ؟ إنه بوريس بلتسين، الذي وصل إلى مرتبةٍ قيادية في الحزب الشيوعي السوفياتي! يحكي كثيرون من الخبراء الذين قابلتهم، عن ولاء يلتسين السابق لجهات غربية، وفي هذا الكتاب، سأحاول إلقاء الضوء ولو قليلاً على هذه القضية.

حاول يلتسين إزاحة المعالم التاريخية للحقبة السوفييتية، حيث جرى استبدال اسم مدينة ليننجراد، باسمها القديم، سانت بطرسبرج، تم استبدال أسماء العديد من المدن والبلدات والقرى، التي سُميت بأسماء الشيوعيين! استبدلوا أسماء الشوارع والأحياء التي سُمّيت بأسماء كفاءات روسية, فقط لأنها كانت منتسبة للحزب الشيوعي! غيّر يلتسين معالم الساحة الحمراء، وبنى الكثير من الكنائس على أرضها، بما في ذلك مدخلها. حاول جاداً إزاحة جسد لينين المحنّط من ضريحه المشهور وهدمه, ووقوف جنديين يُسْتبدلان كل ساعةٍ، كان وقوفهما وعملية استبدالهما ومنظرهما مشهوراً على صعيد العالم، يأتي السيّاح من كل أنحاء العالم لمشاهدتهما ورؤية جسد لينين! كان صفّ الانتظار طويلا، كان امتداده يصل آلاف الأمتار، وينتظر من يريد زيارة الضريح ودخوله ساعات طويلة! هبّ الشعب الروسي اعتراضاً على إزاحة معلمٍ رئيسي من معالم موسكو، فتراجع يلتسين عن خطوته.

هذه كانت أبرز سمات الحقبة اليلتسينية في التاريخ الروسي.

عام 2000 تم انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً لجمهورية روسيا الاتحادية. هو خريج كلية الحقوق، أدّى خدمته العسكرية في جهاز أمن الدولة. عمل في ألمانيا الشرقية خمس سنوات. تدرّج في المناصب في جامعة ليننجراد ومجلس مدينتها، وصولاً إلى منصب النائب الأول لرئيس حكومة المدينة. منذ عام 1994 أصبح نائباً لمدير ديوان الرئيس الروسي ورئيساً لإدارة الرقابة العامة في الديوان من عام 1997–1999. تسلم منصب أمين مجلس الأمن في روسيا الاتحادية عام 1999 وذلك باختيار من الرئيس يلتسين. تولى اختصاصات رئيس روسيا الاتحادية بالوكالة منذ 31 ديسمبر 1999 بعد استقالة الرئيس يلتسين. انتخب في 26 مارس 2000 رئيساً لروسيا الاتحادية. تولى منصبه في 7 مايو من ذات العام وأعيد انتخابه للرئاسة في عام 2004. تولى من بعده الرئاسة ميدفيديف رئيس الوزراء في فترتي ولايته، وأصبح هو رئيساً للوزراء في عملية تناوب، كان ذلك بفعل قوانين الدستور الروسي التي لا تسمح للرئيس بالاستمرار في منصبه أكثر من ولايتين. وفي عام 2012 تم انتخابه مجددا رئيساً لروسيا. سيكون ممكناً أيضاً أن يترشح لولاية رابعة في انتخابات عام 2016 . يتولى مدفيديف الآن منصب رئيس الوزراء.

أجرى بوتين سلسلة من التغييرات الجذرية في روسيا، تناولت عدة جوانب رئيسية: السياسة الخارجية، فهو أعاد الاعتبار لروسيا كقوة عالمية رئيسية في طريقها ـ إن لم تحدث متغيرات دراماتيكية ـ إلى تشكيل قطب عالمي آخر، في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية. الجانب الثاني: إعادة شريان الحياة إلى بعض مؤسسات القطاع العام، وإيلاء المزيد من الاهتمام بالموارد الروسية وبخاصة: البترول والتجارة في حقل التصنيع العسكري، كما قام بسجن العديدين من أصحاب رؤوس الأموال، الذين أصبحت ميزانياتهم بالمليارات خلال فترة قليلة بعد الانهيار، مما أدّى إلى عودة الميزان التجاري الروسي إلى وضعه الإيجابي وإلى حد وجود فائض في الخزينة.

الجانب الثالث: إعادة الأمن إلى روسيا،وبخاصة في العاصمة موسكو، من خلال القضاء على رؤوس المافيات وصولاً إلى تفجير سياراتهم واغتيال العديدين منهم، مما عمل على استتباب الأمن في موسكو, وقد أصبح شبيها بحالته في الحقبة السوفييتية.

هذا الوضع اعتُبر غير ملائم للولايات المتحدة، التي حاولت ولا تزال التأثير على روسيا لإضعافها وإلهائها في حروبٍ وقضايا جانبية، إن أبرز الإشكالات التي واجهتها روسيا، منذ تسلم بوتين للسلطة، تتمثل فيما يلي:

محاولات كثيرة قادتها أميركا والعديد من الدول الغربية، لإحاطة روسيا بدول تابعة للغرب، تشكل مستقبلاً قواعد استراتيجية لحلف الأطلسي، وبشكل خاص أوكرانيا، هذه الدولة المجاورة لروسيا، وهي إحدى جمهوريات ثلاث، تشكل تتابعاً جغرافياً فيما بينها: روسيا، بيلاروسيا وأوكرانيا. أحد الخطوط الحمراء للسياسية الخارجية الروسية، التي يقودها بوتين: منع الولايات المتحدة والدول الغربية من إمكانية نصب صواريخ وأسلحة استراتيجية موجّهة إلى روسيا في جمهوريتي: أوكرانيا وبيلاروسيا. الأخيرة وبطبيعة نظام الحكم فيها تشكّل تكاملاً جيوسياسياً مع روسيا، وبذلك ما من مشكلة مع هذه الدولة.

أما الجمهوريات الآسيوية، التي كانت منضوية في الاتحاد السوفييتي، وعلى الأخص منها أوزباكستان وكازاخستان، فتشكل عمقا استراتيجيا لروسيا. في كازاخستان يجري إطلاق الأقمارالصناعية الفضائية الروسية، وتجريب دوري للأسلحة الاستراتيجية، عدا عن كون هذه الجمهوريات بمثابة خط الدفاع الأول عن روسيا.

ومن أبرز الاحداث التي شكلت تحديا مع الغرب في عصر رئيس روسيا الحالي فلاديمير بوتين :

* حرب أوسيتيا الجنوبية:

بدأت هذه الحرب رسمياً يوم 8 أغسطس 2008، بهجوم عسكري من جورجيا على مقاطعتي اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، بعدها قامت روسيا بهجوم مضاد سريع على جورجيا. تقع أوسيتيا الجنوبية وسط الأخيرة، وحدودها محاذية لجمهورية أوسيتيا الشمالية. حكمت روسيا أوسيتيا الكاملة عام 1878، أُلحق القسم الشمالي منها بروسيا، والجنوبي بجمهورية جورجيا. تحول الأخيرة دون توحد أوسيتيا الشمالية والجنوبية، وقد بدأ التوتر بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية مع اتجاه الأولى إلى الانفصال عن الاتحاد السوفياتي. بعد الانهيار عام 1991 أعلنت أوسيتيا الجنوبية نيتها إعلان هذه المنطقة، منطقة تابعة للنفوذ الروسي، وهو ما اعترض عليه البرلمان الجورجي، لتبدأ المواجهات بين الأوسيتيين الجنوبيين والشرطة الجورجية، ما أسفر عن مقتل الكثيرين.

يقول الأوسيتيون، أنه ومنذ استقلال جورجيا، بدأت الأخيرة في ممارسة الضغوطات عليهم، حيث فرضت مع بداية سنة 1991 استعمال اللغة الجورجية على كل الإدارات الأوسيتية، وهذا يعتبرونه تحدياً كبيراً لهم، فهم يطالبون باستعمال لغتهم الأوسيتية. بعد ذلك تعرضت عدة قرى أوسيتية إلى الإحراق والتدمير، مما أدى إلى سقوط قتلى كثيرين منهم. توصل الجانبان عام 1992 إلى اتفاق سلام بينهما، ووقفًا لإطلاق النار لكنه ظلّ هشّاً. تجددت المواجهات، وفي عام 2004 تم الاتفاق على تجديد وقف إطلاق النار. في الأثناء أجرت أوسيتيا استفتاءا لمواطنيها في عام 2006 للتصويت على تقرير المصير، وهو ما رفضته جورجيا بشدة، واعتبرته روسيا تعبيراً حرّاً لإرادة الاستقلال لهم. اجرى تنظيم انتخابات رئاسية جاءت بالرئيس ديمتري ساناكويف. ظلّت الأجواء بين أوسيتيا الجنوبية وجورجيا متوترة. هاجمت الأخيرة أوسيتيا الجنوبية في 8 أغسطس 2008، واعتبرت نفسها في حالة حرب معها، وقامت بسحب جنودها (الذين يشاركون في قوات الأمم المتحدة) من العراق. بعد ذلك قامت القوات الروسية بهجوم عسكري سريع، وقصفت أهدافاً عسكرية في جورجيا، الاتحاد الأوروبي قام بتوجيه تحذير إلى روسيا. استمرت المعارك العنيفة في أوسيتيا الجنوبية، خضعت بعدها العاصمة تسخينفالي إلى سيطرة الجيش الروسي، وقامت جورجيا بسحب قواتها من أوسيتيا، وطالبت الولايات المتحدة بإجراء وساطة بينها وبين روسيا.

تحدثت أنباء ومصادر كثيرة أخرى في تلك الفترة عن حملات إبادة قامت بها القوات الجورجية في العاصمة الأوسيتية أسفرت عن سقوط 1600 قتيلاً.

* أحداث أوكرانيا وانضمام شبه جزيرة القرم

أسفرت انتخابات عام 2004 الرئاسية في أوكرانيا عن فوز رئيس الوزراء فيكتور يانكوفيتش المؤيد لروسيا ضد مرشح المعارضة فيكتور يوشتشينكو‏ بفارق بسيط. طعن الأخير في نتائج الانتخابات. صاحبَ ذلك تحركاً واسعاً قام به المؤيدون للمعارضة من الداعين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. التحرك سُمّي بـ (الثورة البرتقالية)، التي احتل منظموها الميدان الرئيسي في العاصمة كييف، والذي يُعرف بـ (الميدان الأوروبي). قدم مرشح المعارضة دعوى قضائية ضد السلطة الحاكمة للمحكمة العليا في أوكرانيا يتهمها فيها بتزوير الانتخابات. الأحداث أوصلت فيكتور يوشتشينكو وحليفته يوليا تيموشنكو إلى السلطة، حيث أصبح الأول رئيسياً لأوكرانيا، والثانية رئيسة للوزراء وأصبح يانكوفيتش في المعارضة. الأخير عاد إلى منصب رئيس الوزراء في عام 2006، وذلك باسم تحالف الوحدة الوطنية.

جرت انتخابات في عام 2010 فاز فيها فيكتور يانكوفيتش، وذلك بعد توجيه اتهامات عديدة للرئيس يوشتشينكو بالفساد واستغلال السلطة. جدير بالذكر أن التحالف بين الأخير ورئيسة الوزراء انفكّ بفعل التناقضات الكبيرة بينهما. جرى توجيه اتهامات أيضاً بالفساد واستغلال السلطة لتيموشينكو وأودعت في السجن.

كان طموح الرئيس بوتين في تلك الفترة، إقامة اتحاد أوروبي ــ آسيوي(أوراسي) بين روسيا، أوكرانيا وبيلاروسيا، إضافة إلى بعض الجمهوريات الآسيوية الأخرى، التي كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي.

ظلّت المعارضة الأوكرانية منزعجة من الرئيس الشرعي يانكوفيتش وأبقت على مطالبتها له بالانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي، وإلى حلف الناتو (وقد هيّج الغرب المعارضة الأوكرانية بتأكيداته المستمرة بإمكانية قبوله بانضمام أوكرانيا إلى كل من الاتحاد والحلف). قدّمت روسيا في تلك المرحلة دعماً لأوكرانيا بقيمة 15 مليار دولار، في الوقت الذي لم تقدم فيه أي من الدول الغربية دعماً ولو بسيطاً لكييف. معروف أيضاً أن روسيا هي التي تزود أوكرانيا بالغاز، وتبيعه لها بأسعار تفضيلية، وتدفع لها تعويضاً مجانياً بالغاز عن ثمن مرور أنابيب الغاز في أراضيها من الذي تصدره لأوروبا.

في نهاية عام 2013 بدأت احتجاجات الميدان في كييف من قبل المعارضة، للمطالبة من جديد بدخول أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، بعد تعليق حكومة الرئيس فيكتور يانكوفيتش التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد.

نتيجة للاحتجاجات جرى توقيع اتفاق بين المعارضة والرئيس في 21 فبراير 2014، وفيه استطاعت الأولى تحقيق العديد من الإنجازات: إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة ــ إطلاق سراح تيموشنكو حليفة الغرب، العودة إلى دستور 2004، بما يعنيه ذلك من تقليص صلاحيات الرئيس لصالح البرلمان.

قام الرئيس بتنفيذ كافة المطالب، إلا أن خطوة دراماتيكية قام بها البرلمان الأوكراني، إذ صوّت على عزل الرئيس، وقد وصل المحتجون إلى قصر الرئاسة. تخّلى يانكوفيتش بدوره عن مقر إقامته في كييف للمحتجين، ووصف الاحتجاجات بالانقلاب. جدير ذكره، أن الكثيرين من الموالين ليانكوفيتش صوتوا لصالح عزله. البرلمان صوت لصالح إطلاق صراح يوليا تيموشينكو من السجن، كما أصدر مذكرة اعتقال بحق يانكوفيتش بتهمة القتل الجماعي ، وقام بتعيين رئيس البرلمان الكسندر تورتشينوف رئيساً بالوكالة حتى تنظيم انتخابات رئاسية جديدة. جرى تنظيم الانتخابات التي أتت بالرئيس الحالي بترو بوروشنكو. على الصعيد الآخر، فإن قسماً كبيراً من الأوكرانيين هم من أصول روسية يعيشون في شرق أوكرانيا، وغالبيتهم تتجمع في محافظتي دونيتسك ولوغانسك.اندلعت معارك كثيرة بين هؤلاء (الذين تسميهم السلطات الأوكرانية بالانفصاليين) وبين السلطة المركزية. أوكرانيا تتهم روسيا بتسليح (الانفصاليين ) يعتقد الكثيرون بأن هدفهم الانفصال عن أوكرانيا وتشكيل دولة خاصة بهم وهو ما ينفونه، ويطالبون فقط بحقوقهم وجعل اللغة الروسية لغة رسمية في مناطقهم). جرت معارك كثيرة بين الجانبين أدّت إلى التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في (اتفاقية مينسك الأولى). اتفاقية مينسك الثانية جرت في فبراير من العام 2014 بحضور كل من الرئيسين الأوكراني والروسي، والفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الالمانية أنجيلا ميركل وفيها جرى: تأكيد وقف إطلاق النار في شرقي أوكرانيا، ترسيم خطوط التماس، سحب الأسلحة الثقيلة من خطوط المواجهة من قبل الطرفين، إطلاق سراح الأسرى، نشر مراقبي منظمة الأمن والتعاون الأوروبي على طول خطوط المواجهة، سحب القوات الأجنبية من الأراضي الأوكرانية، قيام السلطة المركزية بإعطاء صلاحيات واسعة, لمناطق الدونباسن المسيطر عليها من قبل الأوكرانيين من أصل روسي، ضبط الحدود بين روسيا وأوكرانيا من قبل الدولتين.كما اتفق على تنفيذ كافة البنود خلال عام واحد.

حشدت روسيا من جهتها قوات كبيرة على الحدود مع أوكرانيا، التي اتهمت الأولى بالتوغل في أراضيها. الوضع لايزال غير طبيعي ومضطرب بين البلدين رغم أن الأجواء تبدو هادئة.

* انضمام شبه جزيرة القرم الى روسيا

شكّلت القرم جزءاً من روسيا منذ القرن 18، مع أن الروس الاثنيين لم يصبحوا المجموعة السكانية الأكبر في القرم حتى بدايات القرن 20 بعد الثورة الاشتراكية. تمتعت القرم بحكم ذاتي تحت اسم: جمهورية القرم السوفييتية الاشتراكية ذاتية الحكم. ظلت منضوبة تحت جمهورية روسيا السوفييتية الاتحادية تحت اسم (منطقة القرم).

في عام 1945 قام ستالين بتهجير الأكثرية التترية في القرم إلى مناطق أخرى في الأراضي السوفييتية، وألغى الحكم الذاتي لها. في عام 1954 إبّان تسلّم نيكيتا خروتشوف للسلطة في الاتحاد السوفياتي، قام بنقل صلاحية منطقة القرم من جمهورية روسيا السوفييتية إلى جمهورية أوكرانيا السوفييتية، وأعيد الحكم الذاتي إليها في السنة الأخيرة من وجود الاتحاد السوفييتي عام 1991.

تنامت بعدها طموحات ساكني القرم من الروس بالعودة إلى السلطة الروسية، والانفصال عن أوكرانيا وبخاصة بعد بدء أحداثها في عام 2004.

قامت القوات الروسية في 27 فبراير 2014 بالسيطرة على شبه جزيرة القرم . كان ذلك وسط تصاعد التوترات والأحداث في أوكرانيا. جاءت السيطرة التي يعتبرها الروس (إعادة الجزء إلى الكل) بعد ابتعاد أوكرانيا عن روسيا، الأمر الذي ارتأت فيه الأخيرة ضرورة إعادة جزء من أراضيها إليها، وذلك دفاعاً عن مصالحها الجيوسياسية، وكي لا يتحوّل جزء استراتيجيتي من أراضيها نقطة انطلاق لاعتداء مستقبلي عليها، فشبه الجزيرة يحاذي البحر الأسود، الذي تشترك في حدود روسيا معه دول كثيرة فيها قواعد أميركية وقوات عسكرية تابعة للناتو.

يبقى شيء مهم في هذا المدخل وهو الدور الصهيوني المتصاعد في كل من أوكرانيا، بيلاروسيا وروسيا .وسنتطرق إلى تفاصيله عند تناول كل بلد على حدة في سياق الكتاب، كذلك سنتطرق إلى الكثير من الخفايا السياسية والأحداث التي ستشكل مفاجآت للقارئ، الأمر الذي سيعمل لربما ووفقما ذكرنا سابقاعلى تغيير بعض القناعات والمسلّمات لدى العديدين!

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.