أمريكا ورطت العرب لتدمير العراق وسوريا والآن ايران / مجدي احمد حسين
مجدي احمد حسين ( مصر ) – الإثنين 26/4/2021 م …
دراسة المستطيل القرآني الحلقة 66
– الوحدة العربية تبدو شرطاً جغرافيا للوحدة الاسلامية
ليكف الاسلاميون عن كراهية العروبة فالخريطة القرآنية عربية!!
هذه الحلقة وكل حلقة يمكن قراءتها بشكل مستقل كمقال منفصل وبدون قراءة باقى الحلقات بالضرورة . وإن شاء الله يتم قريبا تجميع كل الدراسة فى ملف واحد ككتاب .
– رسم كروكي للمستطيل القرآني … معلومات للتذكرة أو لمن لم يقرأ الحلقات الأولى :
ان المستطيل القرآني هو مجرد رسم لكل المواقع الجغرافية التي وردت في القرآن* الكريم وقد تبين أن كلها تقع في القسم الآسيوي من الوطن العربي + مصر(راجع الحلقات الأولى)
*ان شكل الخريطة إذا نظرت لخريطة طبيعية يوضح انها تأخذ شكل المستطيل بالطول.
*أنك إذا ملت بالخريطة الحقيقية يساراً ستدخل مصر في المستطيل على أن يكون مستطيلا مائلاً.
إذا لم ترد أن تميل بالخريطة فسيظل الشكل مستطيلا في آسيا مع اضافة أُذن له (مصر) أي مستطيل بأُذن!!
تاريخ البشرية حتى الآن برهن على أن الأحداث الأساسية والكبرى في العالم حدثت داخل هذا المستطيل الذي أصبح يسمى – في الغرب – الشرق الأوسط، حيث مثل دائما ولا يزال مركز العالم المتوسط الذي لا يمكن لقوة عظمى أن تتركه إلا إذا طردتها قوة عظمى أخرى من داخل المستطيل أو من خارجه!!
لماذا هذه الخريطة الكروكية؟
نحن نعمل معاً ونفكر معاً بصوت عال، ونكتشف معاً البناء الهندسي للمستطيل القرآني الذي لم يكن واضحاً بهذا الشكل منذ البداية – حتى في ذهن كاتب هذه السطور.
فعندما نقول خريطة قرآنية فلا يعني هذا مجرد تجميع لأسماء المواقع واكتشاف أسماء البلدان التي توجد. فالخريطة هنا تعني أكثر من شيئ.
1. هي تعني الترابط والتماسك وتشابك كل عناصرها ومقوماتها لتشكيل قاعدة أو وحدة أو مركز موحد لتعمل معا لخدمة بلادها وفي التحليل النهائي دائما في سبيل الله..فكل عمل صالح ومفيد للأمة والبشرية فهو في سبيل الله
2. لذلك جاءت الخريطة متواصلة غير منقطعة لتكون كتلة واحدة، ومصر مرتبطة بشدة بباقي المستطيل من خلال سيناء أساساً مع وجود خطوط أقل أهمية عبر البحرين المتوسط والأحمر.
3. معنى ذلك أن الأصل أن تعمل هذه المجموعة من الدول بشكل منتظم وجماعي في اطار مشروع واحد لأن كل طرف فيها يعتمد على الأطراف الأخرى، وإذا دخل عنصر أجنبي بينها سيفسد هذه الوحدة وهذا التماسك ويحدث التفسخ لتسيطر القوة الأجنبية. وبالتالي فإن أي طرف يتفق مع طرف أجنبي (خارج المستطيل) بدون تفاهم مع باقي أعضاء المستطيل يرتكب جريمة كبرى في حقهم وفي حق نفسه فهذه عبرة التاريخ في عشرات المرات.
4. الآن بعد آلاف السنين من نشأة الحضارة وبعد 14 قرنا على الاسلام فإن هذا المستطيل أصبح واضحاً ولا يحتاج تكوينه لأي تحليل، فالمستطيل كله عربي ومعظمه (بمعنى تعداد السكان) مسلم، وهو كله عربي بمعنى تكوين السكان والدولة واللغة. وجود أقلية كردية في العراق وسوريا لا يغير كثيرا من الطابع العام للمشهد خاصة وأنهم في المقابل كلهم تقريبا مسلمين سنة.
5. عموما نحن في موضوع العروبة والاسلام لسنا عنصريين فالعروبة لا تفرض على أحد ولابد من استمرار السعي لحل المسألة الكردية بصورة حضارية سلمية. ولا يضير العروبة وجود أقلية عرقية أخرى داخلها ولها كل حقوق المواطنة. كذلك فإن البعض لا يتصور الأكراد غير عرب لأن العروبة عندنا هي اللسان وأحسب أن أكراد سوريا والعراق يتحدثون العربية .(2) وما ظهر في في أوائل القرن العشرين وتواصل حتى الآن وإن ضعفت موجته، أعني الحركات القومية التي نظرت لفكرة الانتماء للعروبة كنظرية وكأن العروبة في حد ذاتها يمكن أن تكون منبعاً للأفكار والنظريات السياسية والاقتصادية، في حين أن العروبة مجرد انتماء لأمة العرب، أعني الحركات القومية والبعثيين العرب والتجربة الناصرية في مصر. ويمكن للاسلاميين أن يختلفوا كما يشاؤن مع هذه الحركات بالحجة والمنطق والدليل وان كانت المعركة كادت أن تنتهي ونحن نريد أن نفتح صفحة جديدة تجمع كل الوطنيين والقوميين والاسلاميين وهذا ما حاولته عدة مؤتمرات في بيروت وقطعت فيه شوطاً لابأس به ولكنه – أي هذا الانجاز- تحطم على صخرة الخلاف في الثورات العربية.
ما يهمني هنا أن أقول للأخوة الاسلاميين أن الله عز وجل اصطفى نبياً خاتماً عربياً وجعل مكة مركز اشعاع دعوته بهدف أن تعم العالمين بعد ذلك شرقً وغربا (لتنذر أم القرى ومن حولها)
وأنا شخصيا لم أكن ادرك قبل هذه الدراسة ورغم أنني من المؤمنين ألا تعارض بين الاسلام والعروبة، لم أكن ادرك أن الخريطة القرآنية عربية بنسبة 100% – النبي صلى الله عليه وسلم عربي، والقرآن عربي ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا )، ولكن لم ألحظ أن الخريطة القرآنية كلها عربية. والعرب هم مادة الاسلام – كما قال سيدنا عمر بن الخطاب- وهم كانوا المكلفين منذ البدء وبطبيعة الحال أن يكونوا هم كتيبة الدعوة الأولى في اتجاه فارس وما بعدها شرقا وفي اتجاه الشام ومصر وما بعدها في الغرب..
من حفظ القرآن حمله وقاتل تحت لوائه ثم نشر العلم الاسلامي الشرعي في مختلف ربوع البلاد وحتى الأندلس غرباً وحتى سمرقند والسند وحدود الصين شرقاً، لم يكونوا سوى العرب، ولم يكن معهم سواهم لأن من دخل الايمان في قلبه وجهر بالاسلام من هذه الشعوب، ما كان بعد قادراً على تقديم العلم الاسلامي للناس، فالأمر يحتاج لفترة من التعلم، تعلم اللغة وتعلم علوم الشرع التي بدأت تُكتب..
لاشك أن المسلمين غير العرب فاقوا العرب بعد ذلك وخرج الجهابذة من صفوفهم حتى كان سيبويه نفسه فارسياً!! خرج أهم علماء الحديث من وسط آسيا: البخاري – مسلم – الترمزي – ابن ماجه – ابن داود – النسائي…الخ
ولكن لا أتصور أن ينتهي الدور الريادي للعرب، بدون عنصرية أو تعالي أو استبعاد للآخرين والخريطة القرآنية من دلائل ذلك. الخريطة القرآنية وهي ليست تركيبة عفوية – حاشا لله- فكل حرف في القرآن مرسوم دوره بدقة .. الخريطة القرآنية تقول انه هنا قلب الاسلام النابض الذي لابد أن تتحلق القيادة الاسلامية العالمية حوله.. هنا في المستطيل: مكة والمدينة والقدس.. هنا الكعبة وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده- وهنا المسجد الأقصى.
قد تنشأ دولة اسلامية هنا أو هناك، ولكن الدولة الاسلامية العالمية والأساسية ستنشأ هنا في المستطيل: الجزيرة العربية – العراق – الشام – مصر.
وأنا اعتبرها من معجزات القرآن السياسية والجغرافية. لأن أحداث العالم حتى قبل نزول القرآن وحتى الآن تؤكد أن كبرى الأحداث العالمية التي حسمت مجرى تاريخ البشرية جرت هنا في المستطيل، الذي سماه الغرب الآن الشرق الأوسط وتبارى ساسة الغرب ليقولوا: هذا أخطر موقع استراتيجي في الكرة الأرضية وهم على حق.
لقد ثبت أن هنا مركز العالم. قد تحدث أحداث رهيبة في العالم، ولكن لا يسيطر على العالم في النهاية إلا من يسيطر على الشرق الأوسط. وقد أكدنا على ذلك في الدراسة حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر وستثبت الأيام التالية ذلك بصورة أكبر.
وستقولون ومع ذلك ما مغزى رسم هذه الخريطة الكروكي؟
الحقيقة لقد كانت فرصة للتذكرة بالنظرية العامة للدراسة بعد عرض الوجبة اليمنية الدسمة ولكن هناك سبب جوهري آخر يظهر في الخريطة وهو إظهار مسألة الأوتاد. فما هي حكاية الأوتاد؟
كما ذكرت في البداية فإن الخريطة القرآنية مترابطة ولابد لشاغليها وهم الآن العرب المسلمون أن يحافظوا على وحدتها ليس لأنها نهاية مشروع الدولة الاسلامية ولكن لأنها حجر الأساس الذي يتم توسع الدولة الاسلامية على أساسه كما حدث في الصدر الأول للدعوة. وكما أن الانسان يتوصل بعقله إلى كثير من الأمور الصحيحة بالفطرة وكما رأينا في مثالنا الأخير (اليمن) فإن اليمن أدركت أنه لا قيمة حقيقية لها بدون السياحة والانسياح في مجمل الجزيرة العربية ثم العراق والشام ومصر وجزر شرق المتوسط، فان الله سبحانه وتعالى يهيئ الظروف لنجاح المشروع الاسلامي والتي لا يستفيد منها سوى الأريب المؤمن.
لا يمكن للمستطيل أن يلعب دور المغناطيس دون أن يكون قوة صلدة صلبة وذلك يعني أن أطراف المستطيل يتعين أن تكون أقوى ما فيه، ويتعين على المناطق الرخوة أن تكون في الوسط (أي في الداخل)، وهكذا اكتشفت خلال البحث أن أطراف المستطيل الأساسية أي أركانه الأربعة أشبه بأوتاد الخيمة وبدون الأوتاد فان الخيمة تصبح في مهب الريح(انظر الخريطة الكروكى فى أول الدراسة ) .
وجود أوتاد الخيمة العميقة الجذور هي الضمان الأكيد لاستمرار وبقاء الخيمة.
على مستوى المستطيل الآسيوي سنجد أن أقوى الحضارات تتمترس في الأركان الأربعة، اليمن في الركن الجنوبي الغربى وقد امتدت أحيانا إلى الركن الجنوبي الشرقى- ولكن بدون ذلك فإن حضارة عاد كانت في الركن الجنوبي الشرقى (الأحقاف) وتبعتها في العصر الحدديث سلطنة عُمان عندما كانت في أوج قوتها التجارية والبحرية في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين. ولا يزال الركنان الشرقي والغربي جاهزان للانطلاق من جديد في إطار الصحوة الاسلامية القادمة – بعد فشل الصحوة الاسلامية السابقة!!
في أقصى الشمال الشرقي نجد حضارة العراق (بلاد الرافدين) في أقصى الشمال الغربي سنجد حضارة الشام في الأرض التي (باركنا حولها).
لا توجد خيم من أربع أوتاد فهي لا تقل عن 5 أوتاد وقد تزيد لذلك كانت مصر وحضارتها هي الوتد الخامس لخيمة المستطيل القرآني..
عندما عملت هذه الأضلاع الخمسة معا حافظت على تطورها واستقرارها، وأفضل صورة لذلك حالة الوحدة الحضارية التجارية اليمنية التي بسطتها اليمن في المستطيل بدون حروب ولا نزاعات تذكر، وأيضا حالة الحضارة المصرية التي تمددت دفاعياً في الشام حتى أطراف تركيا والعراق، واهتمت أيضا بالبعد التجاري والبحري والثقافي في التعاون مع بلدان المستطيل (الفينيقيين في البحر والثقافة) أو مع البلاد المحيطة (كالتجارة مع بلاد بونت – الصومال). وكانت هذه أزهى عصور المستطيل في العهد القديم قبل الاسلام.
ولكن ما أفسد هذا المناخ أن الآشوريين سعوا لاحتلال مصر ونجحوا، رغم أن مصر لم تحاول ولم تحتل العراق، وقام الرعاة بأدوارهم السلبية بالهجوم على مصر (الهكسوس). وجاء الطامعون من على أطراف المستطيل من آسيا الصغرى وفارس واحتلت شعوب آسيا الصغرى الشام على الأقل، بينما اجتاح الفرس كل المنطقة واحتلوا مصر. وهذه هي الفصول السيئة والسوداء ولكن تعطي لنا دروساً ثمينة أضاعت من البلاد عدة قرون!! وأهم درس أن تتحد شعوب المستطيل ضد أي عدوان أجنبي على أي طرف. ولكن لم يكن ذلك ممكنا في هذا الوقت لأنه لم تكن هناك عقيدة واحدة تجمع شعوب المنطقة. وحتى العروبة لم تكن قد تكونت بعد. أما الآن فان العروبة مع عقيدة الاسلام تعطينا الأساس المكين للوحدة وصد العدوانات الشريرة التي تستهدف السيطرة على مركز العالم. وهؤلاء لا يمكن اغراؤهم بحديث ساذج عن السلام..
والآن لابد من اعادة صياغة العلاقات بصورة ايجابية مع الجارتين: ايران وتركيا ، ان ايجاد صيغة تحالفية مبدئية لمصلحة كل الأطراف ستعود بالخير واليمن على الجميع.
حديث المستطيل القرآني هو حديث الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتكس) والجغرافية السياسية تعلمك أهمية ايجاد صيغة ايجابية مع جارك. نحن نقول في الحياة العادية أنك يمكن أن تغير صديقك أو حتى زوجتك أسهل من تغيير جارك! وان جارك هو قدرك وعليك أن تتعامل معه بصورة ايجابية ومتوازنة بدون أي اضاعة للحقوق. ولكن في الحياة العادية هناك احتمال ولو ضئيل لتغيير الجارعن طريق بيع المنزل وشراء منزل في مكان آخر، أو ترك المكان المستأجر والسكن في مكان آخر، ولكن أزمة السكن في مصر وغيرها هي التي تطرح مسألة صعوبة الخلاص من الجار.
أما في واقع الجغرافيا السياسية فإن تغير الجار هو المستحيل بعينه، لأن الشعب لن يهاجر ويترك الوطن بسبب سوء جاره، فهذا احتمال غير واقعي.
ان الذي سيخرب (المنطقة) هو السياسة السعودية الخاضعة للتوجيه الأمريكي. منذ قيام ثورة ايران 1979 وهي دولة جارة للسعودية عبر الخليج وكذلك مع باقي دول الخليج، فهناك اصرا رمتوالي على عدائها – عدا فترة قصيرة كان التركيز فيها على عراق صدام حسين أيضا وفقاً للتوجيه الأمريكي!.
وأخيرا فان ايران وهي جارة رغم أنف السعودية إلا أن الأخيرة مصرة على التصعيد معها وكأن الحرب ستقوم غداً، وترفض أي محاولة لتحسين العلاقات بين البلدين.
فما الذي سيستفيده العرب (أهل المستطيل) من إشعال الحرب مع ايران، سيتم تدمير المنطقة كما دُمرت العراق وسوريا وأفغانستان ولكن التدمير سيكون أشمل بكثير وأمريكا البعيدة مهما أرسلت قوات فإن أرض الولايات المتحدة ستظل سليمة.
لابد من ايجاد صيغة تعايش بين الخليج والسعودية وايران لمصلحة العرب والمسلمين. السعودية تحاول اسقاط النظام الايراني منذ عام 1979 أي منذ 40 سنة ولم تنجح فلماذا الاصرار على الفشل والخراب والتدمير. مع الأسف هي أوامر أمريكية.
ونفس الشئ ينطبق على العلاقة مع تركيا رغم خلافي مع كثير من السياسات التركية في المنطقة. الهدف من الدراسة اذن تنمية الفكر الاستراتيجي بما في ذلك فرع الجغرافيا السياسية.
***
والآن نعود إلى الأحداث في قلب جزيرة العرب بل هي الأحداث التي لم تبدأ بعد – وبدأت بحضور سيدنا ابراهيم، قبل ذلك ليس لدينا أي مؤشرات من القرآن الكريم أو أي مصدر آخر عن الحياة في القلب الداخلي للجزيرة العربية، القلب الساكن دوماً ، رغم أن الحياة تعج من حوله في المنطقة وفي الحلقة السعيدة المحيطة بالجزيرة العربية.
اذا نظرت إلى الخريطة الحقيقية أو الكروكية ستجد أن المنطقة الرخوة الضعيفة هي معظم وسط الجزيرة (وفي القلب نجد والحجاز) وشمال الجزيرة الذي يمتد بصورة طبيعية إلى قلب الشام والعراق من خلال التمدد الجغرافي الطبيعي للصحراء (بادية الشام – وصحراء العراق) وهي تشكل مساحة كبيرة من البلدين أو ما يسمى الآن: العراق – سوريا – الأردن- جنوب فلسطين. وبالمناسبة فإن الصحراء ممتدة حتى أقصى الشمال السوري والعراقي. في رحلة شبابية عام 1970 ركبت القطار من حلب إلى القامشلي على حدود العراق بهدف الوصول للموصل، وخط القطار يسير في أقصى الشمال محازياً للحدود مع تركيا، وكانت كلها صحراء قاحلة طوال الطريق. الصحراء عريضة وتتجاوز الألف كيلومتر في الوسط وقد استخدمنا هذا الطريق مراراً أثناء حصار العراق ومنع الطيران إليه أو استخدمناه كشباب لضيق ذات اليد قبل الحصار. والسفر في الوسط بالاتوبيسات. ويمكن أن يوصف
بأنه أقصى الرحلات البرية ارهاقاً. (أقصد بالوسط الخط البري بين دمشق وبغداد)بل ان صحراء الجزيرة العربية تنعطف يسارا ثم جنوبا وتلتحم بشبه جزيرة سيناء!
وهكذا ترى أن معظم مساحة المستطيل في هذا القلب الممتد من أقصى الشمال إلى ما قبل الجنوب اليمني: وهي منطقة رخوة، ولكنها غير مستهدفة لأنه لا يوجد بها ما يغري بالعدوان. الصحراء الكثيفة والعريضة بين العراق والشام خلقت نوع من الانفصال عبر التاريخ وتمايز في شخصية وتطورات كل أمة على جانبي الصحراء. بين حضارة الرافدين وحضارة الزراعة المطرية مع عدد من الأنهار الصغيرة وجزء من نهر الفرات في الشام، ولكن هذه الكثافة الصحراوية من الشمال حتى وسط المستطيل حيث مكة مثلت درعاً حاميا وحصناً لا يكاد يمكن اختراقه كما لا يوجد أي اغراء للقيام بهذه المغامرة. ولم تحدث عبر التاريخ ولا مرة واحدة من الشمال، وحدثت مرة واحدة من المعتوه أبرهة من الجنوب..
جمعت مكة بين خاصيتين لا يمكن تكرارهما في أي مدينة أو قرية أخرى: 1 – موقعها في وسط المستطيل تماماً وهو موقع متوسط للعالم بأسره كما أثبت جغرافيون مسلمون وأشرنا لذلك من قبل أثناء الحديث عن بئر زمزم. 2 – موقعها الحصين بغطاء وحماية كثيفة من مئات الكيلومترات من الصحراء والتي تزيد عن ألف كيلومتر حتى أقرب حدود لمركز حضاري شمالي (سوري أو عراقي). ولا شك أن الغزاة سمعوا عن قصة ضياع جيش قمبيز الفارسي بأكمله في صحراء مصر الغربية ولم يتم العثور عليه حتى الآن والغالب أن عاصفة رملية مع رمال متحركة قد ردمت الجيش عن بكرة أبيه.
وكما ذكرنا فان الصحراء الغربية المصرية هي جزء من الصحراء العربية الكبرى وظروفها ومستوى جفافها قريب من قلب صحراء الجزيرة العربية.
دعونا نقفز تاريخيا لتأكيد نفس المعنى الاستراتيجي – الجغرافي – السياسي للجزيرة العربية. في عهد دولة المدينة كانت الصراعات تشتد في المناطق الحدودية بين دولة الاسلام التي امتدت شمالاً حتى دومة الجندل وبين الدولة الرومانية التي بدأت تحارب دخول عرب الشام المتنصرين في الاسلام وتعدمهم وتعلقهم على المشانق وهو التصاعد الذي أدى إلى غزوة (سرية) مؤتة وغزوة تبوك وبعث أسامة بن زيد . بين هذه الغزوات كانت العلاقات المتوترة تجعل المسلمين في حالة تأهب دائم في المدينة، فلا يوجد نظرياً ما يمنع الرومان عن القيام بغزو مفاجئ للمدينة للقضاء على دولة الاسلام. مع تقدير أن الغزاة إذا جاءوا سيكونون غالباً من الغساسنة وهم العرب المتنصرة الذين يتولون حماية الحدود الجنوبية للدولة الرومانية. وتم تعيين عدد من الصحابة للحراسة الليلية والاستطلاع حتى لا تباغت المدينة بأي هجوم غادر. وفي إحدى الليالي الليلاء جاء أحد هؤلاء الحراس في وقت متأخر وربما قبل الفجر وأخذ يدق باب بيت عمر بن الخطاب بصورة قوية وفي هذا الوقت غير المناسب. فاستيقظ سيدنا عمر من نومه فزعاً وقال وهو يفتح الباب: هل وصل الغساسنة؟ قال الصحابي بل أخطر! لقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه!! وتبين فيما بعد أن الطلاق لم يحدث ولكن رسول الله اعتكف عنهن في غرفة مخصصة للتخزين، وذهب إليه عمر وأخذ الموضوع بمنتهى الجدية ولكن ليس هذا موضوعنا. فأنا أروي هذه القصة لأوضح كيف كان غزو الغساسنة – الروم خطرا قائماً، ومع ذلك فإن واقع الأمر أن هذا الخطر لم يحدث أبداً فيما بعد، وأصبحت معارك فتح الشام على أراضي الامبراطورية الرومانية ذاتها..
كانت مكة وتوأمها المدينة في حرز حصين، كانت معدة لتكون العاصمة الروحية للمسلمين وهي محاطة بأقصى الضمانات الطبيعية قبل أن تضاف إليها قوة المسلمين
التعليقات مغلقة.