في نقد مقولات العولمة الرأسمالية … الجزء الأول / د.هشام البستاني

 

د.هشام البستاني ( الأردن ) الجمعة 18/12/2015 م …

*كيف تسعى المراكز الرأسمالية إلى إزالة جميع الضوابط التي تمنع رؤوس أموالها من الحركة؟

** مدخل: في تعريف المصطلح الذي استهلك وأُهين

العولمة مفهوم صار يتحدث فيه الجميع، يسبغون عليه تعريفاتهم ورؤاهم الخاصة دون الاستناد إلى خلفيّات معرفيّة معمّقة، وحوّلوه إلى ما يشبه الظاهرة التي جاء في سياقها: مسلّعاً وسطحياً ومُستهلكاً و”ذاتياً”: فصار تارة يستعمل في سياق الإشارة إلى التكنولوجيا وانتشارها الكاسح (خاصة تكنولوجيا الاتصالات والإعلام الحديثة مثل الإنترنت والفضائيات)، وتارة إلى عالمية الفكر أو الفكرة، وتارة إلى تحوّل الكوكب إلى “قرية صغيرة” يسهل على قاطنيها التواصل والتعارف والحوار؛ بينما قسمها آخرون إلى عولمات متعددة ومتمايزة: عولمة اقتصادية، وعولمة ثقافية، وعولمة عسكرية، وهكذا.. يتعاملون مع كل دائرة من هذه الدوائر وكأنها منفصلة مستقلة عن الدوائر العولمية الأخرى، وعن الأساس الذي أفرزها، أي الرأسمالية؛ ومن الرأسمالية بالتحديد نستطيع أن نبدأ بالتعريف.

العولمة هي ميكانزمات أو آليات عمل الرأسمالية في سياق تاريخي معيّن هو عالم انهيار المنظومات المقاومة (دول “اشتراكية”، نقابات عمالية، حركات تحرّر…الخ)، والمشاريع البديلة؛ أو لنقل أنها آليات الرأسمالية في شكلها الكاسح غير المنضبط (دون أن ننسى أن شرط انضباط الرأسمالية هو شرط خارجي: المقاومة والصراع ضدّها)؛ شكلها القويّ المهيمن؛ وبحيث تسعى المراكز الرأسمالية الكبرى إلى إزالة جميع الضوابط والقوانين والمعوّقات التي تمنع رؤوس أموالها من الحركة من مكان إلى آخر لتعظيم أرباحها من خلال المضاربة في الأسواق المالية المختلفة، والاستغلال المزدوج لعمّال الأطراف (من خلال “الاستثمار” في بلدان توفر الأيدي العاملة الرخيصة غير المحميّة) وعمّال المراكز (عبر ابتزازهم بنقل مراكز الإنتاج إلى الأطراف) على حدّ سواء؛، وتوفير تكاليف مصاريف كثيرة مثل مصاريف المحافظة على البيئة في البلدان التي لا توجد بها حماية قانونية للبيئة والإنسان ومصاريف البنى التحتية من ماء وكهرباء وأرض، وهذه توفرها الدول الفقيرة بأسعار مخفضة (تشجيعيّة) لـ”اجتذاب الاستثمارات”.

تُفرض سياسات العولمة (فتح الأسواق) على دول الجنوب من خلال مؤسسات تدّعي أنها دولية، وهي في الحقيقة تمثل مصالح الدول الكبرى، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها. هذا الفرض يأتي على شكل شروط سياسية/اقتصادية من قبل هذه المنظمات من أجل إقراض الدول الفقيرة التي تسعى لإحداث “تنمية” في مجتمعاتها. ثمة تسلسل تاريخي نستعرضه بعجالة لنفهم الظاهرة ونتائجها أكثر: استعمَرت الدول الكبرى دول الجنوب واستعبدت شعوبها ونهبت ثرواتها وهيمنت على مواردها (وما تزال)، واستعملت كل ذلك لإحداث قفزات كبيرة في مجتمعاتها وتنمية قدراتها البشرية والاقتصادية والعسكرية، وهو ما زاد من امكانياتها في الهيمنة أيضاً. نتيجة لذلك أصبحت دول الجنوب المنهوبة دولاً فقيرة –مُفقرة إن أردنا الدقة-، وفاقمت “التركة الاستعمارية” من فقرها: الجغرافيا المفتّتة والمفككة للـ”دول” التي خلّفها الاستعمار وصمّمها لتكون مفرغة من أية امكانية لتحقيق الاستقلال والسيادة والتنمية؛ والأنظمة السياسية القمعية التي ارتبط معظمها بالاستعمار السابق ارتباطاً عضوياً، وهي في جلّها أنظمة فاسدة استكملت حلقة النهب والارتهان.

كلّما أرادت الدول المُفقرة القيام بـ”برامج تنمية” احتاجت قروضاً كبيرة، عندها تقوم الدول الكبرى التي نهبتها بإقراضها إيّاها من حصيلة النهب (أي تُقرضتها الأموال التي نهبتها منها في الأساس)، وكنتيجة لاستشراء الفساد والقمع في بنية الأنظمة الحاكمة لدول الجنوب، فإن أغلب هذه القروض يستقر في جيوبها وجيوب الشرائح المرتبطة بها، دون إحداث “التنمية” المطلوبة، مما يستدعي المزيد من القروض، وهكذا، إلى أن غرقت دول الجنوب في الدين، وأصبحت عاجزة لا عن سداد الديون فقط، بل حتى عن سداد فوائدها. هنا دخلت الدول الكبرى مرّة أخرى -من الباب المُشرع هذه المرّة- بحجة مساعدة الدول المُفقرة على سداد ديونها المتراكمة، لتفرض عليها تبنّي برامج “إعادة الهيكلة الاقتصادية”، وتعني “إعادة الهيكلة” أموراً أساسية ثلاثة: انسحاب الدولة من مسؤولياتها التقليدية في المجال الاجتماعي مثل الصحة والتعليم وغيرها، وتحويل كل ذلك إلى القطاع الخاص (المدفوع بتحقيق الأرباح)؛ خصخصة القطاعات الصناعية والخدمية التي تملكها الدولة والتي أنشأتها بأموال المواطنين حتى يتوفر مقدار من الأموال لسداد فوائد الديون المتراكمة الناتجة عن الفساد وفشل خطط التنمية؛ وتعديل القوانين الاقتصادية بحيث تُلغى أية قيود أو ضوابط على حركة رأس المال، وتقدّم له ميّزات إضافيّة (مثل الإعفاءات الضريبية والأسعار التشجيعية للبنية التحتية مثل إيجارات الأراضي والماء والكهرباء، وهي كلها أمور تُدفع بالأصل من جيب المواطن بشكل ضرائب، وتذهب لتوفير بنى تحتية لمشاريع معفاة من الرسوم والضرائب).

عند إلغاء القيود والضوابط القانونية للاستثمار وحركة رأس المال، وعندما تخلع الدولة كل ما قد يمكنّها من تنظيم اقتصادها، ستعجز الشركات المحلية أو رأس المال المحلي عن منافسة الشركات الكبرى التي تملك ميزانيات ضخمة وإمكانات وخبرات هائلة مدعومة بدول كبرى ذات جيوش جرارة وإرادات سياسية لا تنضبط إلا بما يحقق مصالحها. فتسيطر الشركات الكبرى هذه المرة، دون استعمار مباشر في أغلب الحالات، على المشهد الاقتصادي كاملاً في البلدان الفقيرة؛ فتهيمن على الصناعات الاستخراجية والتحويلية وغيرها من الصناعات، إضافة إلى القطاعات الخدمية عالية الربح مثل الاتصالات، وتحقق وفورات هائلة من خلال اعتمادها على الأيدي العاملة الرخيصة غير المحميّة، ومن ثم تقوم ببيع منتجاتها بإعادة التصدير في نفس الدول وبأسعار كبيرة جداً بعد أن تُخرج منافسيها المحليين من السوق بالإغراق أو تخفيض الأسعار لمدة محدودة أو بشراء المنافسين وغيرها من الآليات.

العولمة، إذن، هي ظاهرة اقتصادية في الأساس، آلية متعلقة بالرأسمالية، لم تأت هكذا –لوحدها- كظاهرة منفصلة مستقلة، بل هي نتيجة للتطور “الطبيعي” للرأسمالية، أي استجابة الرأسمالية للتغيرات التي طرأت على الواقع الموضوعي: ازدياد قوّتها الكبير مقابل الضعف الشديد لمعسكر القوى التي تُصارع ضدّها. لكن تعزيز الظاهرة الاقتصادية يتطلب استدعاء أدوات أخرى مساندة مثل أشكال الدعاية والبروباغاندا الداعمة للأنماط السلوكية الاستهلاكية؛ وابتداع قراءات “فلسفيّة” تؤسس للهيمنة وتبرّرها وتحاول تثبيط المقاومة ضدّها، وتضلّل المتضرّرين منها؛ ونشر مجموعة كبيرة من المصطلحات والمفاهيم النظرية الدعائية الموجهة تحديداً الى بلدان الجنوب، وذلك لخدمة هدفين رئيسيين: الأول دفع الجنوب لتبني نظم اقتصادية/سياسية تسهّل اختراق المراكز لها والحاقها بنيوياً بشكل كامل؛ والثاني: تغيير المفاهيم المعرفية والاستراتيجية عند جمهور المتأثرين سلباً بالاختراق والإلحاق (وهم معظم البشر)، وبحيث تتبنى الظواهر المقاومة الصادرة عنهم خطاباً منعكساً عن الخطاب الدعائي، وهو ما يُسهّل إجهاض هذه الظواهر، أو توظيفها، أو إبقاءها تراوح مكانها دون أن تتقدم.

مقولات العولمة: 1- السوق الحرّ

الخرافة النظريّة الكبرى التي ساقتها الرأسمالية على العالم هي ما تسميه “اقتصاد السوق الحر” (Free Market Economy)، وهي مجرّد مفهوم مخصص فقط للدعاية التي تدفع باتجاه فتح العالم بشكل كامل أمام بلدان المراكز وشركاتها، على النقيض الكامل مما تمارسه دول المراكز نفسها؛ هذا إضافة إلى أن السوق لا يمكن أن يكون حراً من الأصل. هذه الخرافة تستدعي خرافة أخرى تقول بأن دور الدولة في المراكز والأطراف قد انتهى، وأن الكلمة اليوم هي لـ”حكومات خفية من أصحاب الشركات المتعدية للحدود”، رغم أن الدولة –كبنية سياسية- تحضر بقوة في عالمنا المعاصر، وهي الأداة الأولى (في الدول الرأسمالية) للتدخل في الأسواق الداخلية (لحمايتها) والخارجية (للهيمنة عليها)، وهي الأداة الأولى (في دول الأطراف) لإنفاذ البرامج الاقتصادية الإلحاقية وقمع أي معارضة ضدها.

الأب الروحي لنظرية السوق الحر هو عالم الاقتصاد النمساوي فريدريش فون هايك. في مواجهة اقتصاد كينزي تتدخل فيه الحكومات للحفاظ على استقرار الاسواق، رفض فون هايك اي تدخل حكومي على الاطلاق في السوق، معتبراً أن السوق قادر بميكانزماته الذاتية على تصحيح نفسه بنفسه، وتحقيق التوازن والسعادة والرفاه والحرية لجميع الأفراد، وأن السوق الحر من أية قيود هو الضمانة الأمثل لرأسمالية تحقق الازدهار للبشر.

كان التطبيق الاول لمدرسة “السوق الحر” على مستوى العالم في الجنوب لا في الشمال، وتحديداً في تشيلي السبعينيات تحت قيادة الديكتاتور الدموي أوغستو بينوشيه الذي أطاح –بدعم مباشر من المخابرات الأمريكية- بالرئيس الاشتراكي المنتخب ديمقراطياً سالفادور اليندي.

منذ أن بدأ نشاط  منظمات مرتبطة بالحرب الباردة لمواجهة “الخطر الشيوعي” تحت ذريعة مواجهة “التوتاليتارية” (مثلاً مؤسسة فريدوم هاوس – Freedom House)، والبروشورات والأدبيات الصادرة عنها تدعو للديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وحرية السوق؛ وبحيث جُعلت حرية السوق شرطاً لا بد منه لتحقق الحريات الأخرى، لا استقامة لها دونها؛ لكني لا أجد ما يدعو للاستغراب بأن تكون تجربة “السوق الحر” الأولى هي ضمن نظام يحكم بالحديد والنار، بل إن هذه التجربة الأولية تؤكد أن حرية السوق لا علاقة لها بالحرية أساساً، ناهيك عن تعلقها بحرية الرأي والتعبير وحقوق الانسان.

كان العقل المخطط لتجربة تشيلي هو أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاجو ميلتون فريدمان، أحد أهم دعاة السوق الحر، إضافة الى تلامذته اللاتينيين الذين آُطلق عليهم اسم “أولاد شيكاجو” (Chicago Boys) نسبة إلى كلية الاقتصاد في جامعة شيكاجو التي تتلمذوا فيها على يد فريدمان. لقد منيت “مُعجزة” فريدمان في تشيلي بفشل ذريع رغم الدعاية الهائلة التي قالت غير ذلك. يورد جريج بالاست العضو الامريكي الوحيد في مجموعة “أولاد شيكاجو” المؤشرات التالية على هذا الفشل ضمن كتابه (The Best Democracy Money Can Buy):

عام 1973 عندما استحوذ بينوشيه على السلطة كان معدل البطالة هو 4.3%. أما في العام 1983، وبعد عقد من تطبيقات السوق الحر، وصلت البطالة الى 22%. انخفضت الأجور الحقيقية بنسبة 40% خلال حكم الجنرالات. قبل استلام بينوشيه الحكم، كان 20% من التشيليين يعيشون تحت خط الفقر، هؤلاء تضاعفوا الى 40% عندما غادر بينوشيه الحكم. وليوقف العربة المتدهورة -يقول بالاست- لجأ بينوشيه إلى النماذج الاقتصادية الكينزية والاشتراكية (تأميم البنوك والصناعات وعلى رأسها صناعة استخراج النحاس – العصب الاساسي لاقتصاد تشيلي).

تجارب السوق الحر في دول المراكز كانت لاحقة على التجربة الفاشلة في تشيلي، فبصعود مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة اوائل ثمانينيات القرن الماضي، دخلت العديد من أطروحات فون هايك وفريدمان حيز التنفيذ في المراكز. فثاتشر كانت السباقة إلى خصخصة (Privatization) المؤسسات والشركات المملوكة للقطاع العام في بريطانيا، وريغان كان الرائد في إزالة القيود القانونية التي تحدّد (تنظّم) النشاط الرأسمالي (Deregulation). لكن هل سار “تحرير الاسواق” في المراكز الرأسمالية الى نهاية الطريق كما كان الأمر في تشيلي؟ وهل دفع ذلك الدولة إلى الانسحاب الكامل من السوق وتركه ساحة “مفتوحة” أو “حرة”؟

اثر انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية بداية التسعينيات، و”بقاء” أو “انتصار” النسخة الكينزية أو نسخة دولة الرفاه ذات التأثر الكبير بالاشتراكية من الرأسمالية، أصبح العالم ساحة مفتوحة بدون عوائق أمام رأس المال، وصار لا بد من تحول نظري في المراكز الرأسمالية: داخلي باتجاه إعطاء رأس المال مزيداً من المرونة والحماية، وخارجي بتمهيد الطريق له للاستحواذ والربح دون ضوابط. في سياق ذلك، تم دفع دول الجنوب دفعاً لتبني مفهوم “السوق الحر” الحقيقي من خلال اشتراطات سياسية واقتصادية للاقتراض من مؤسسات تسمى تمويهاً “دولية” مثل البنك وصندوق النقد الدوليين (ما يسمى خطط “التصحيح” أو “اعادة الهيكلة”)، او من خلال الابتزاز والرشاوي والعمولات وتوزيع الوكالات على ممثلي السلطة وتَشَكُّل ما يسميه جيمس بتراس “الطبقة الرأسمالية المتعدية للحدود الوطنية” (Transnational Capitalist Class) – طبقة كمبرادورية مرتبطة عضوياً برأس المال في المراكز، أو من خلال التدخل السياسي والغزو العسكري المباشر.

 

أسواق الجنوب “الحرة” (كما يريدها الشمال الرأسمالي) يجب أن تكون أسواق مفتوحة بالكامل بلا ضوابط قانونية لحمايتها، وبدون أي تدخل من قبل الدولة لضبطها او التحكم بها، بلا حواجز جمركية، بلا معاملة تفضيلية للسلع الوطنية، بلا قيود على الاستثمار القادم من المراكز، بلا قيود على حرية حركة رأس المال الداخل والخارج، وبدون أي دعم حكومي لأي قطاع أو سلعة أو خدمة، وبشرط ألا تكون الدولة نفسها لاعباً رأسمالياً – أي لا تملك أية قطاعات أو شركات أو مؤسسات. أي ببساطة اقتصاد سوق حر حقيقي. فهل يطبّق الشمال المعادلة التي يروّجها في دول الجنوب؟

سأورد تالياً نماذج من الدول الرأسمالية الكبرى، نفس الدول التي تروج للاقتصاد الحر بحرارة كبيرة، تثبت أن اقتصاداتها ليست حرّة على الاطلاق، وأن حرية السوق التي يراد لها أن تكون في الجنوب هي مجرد أداة للاستحواذ عليه، وسيجد القارئ أن أمثلة التدخل الحكومي في الأسواق الرأسمالية الكبرى ليست طارئة أو استثنائية، بل هي السمة العامة والاساسية:

خلال الأسبوعين التاليين لانهيار الأسواق المالية عام 2007-08، أقرت الحكومة الامريكية خطة بقيمة 700 مليار دولار لإنقاذ الأسواق المالية المنهارة في الولايات المتحدة، فيما ضخ البنك المركزي الياباني 800 مليار ين في أسواقه المالية، بينما أممت الحكومة البريطانية بنك بنغلي آند برادفورد ضمن إجراءات أخرى لاحتواء إنهيار الأسواق المالية، وأممت الحكومة الآيسلندية ثالث أكبر بنك في البلاد وضخت فيه 600 مليون يورو ضمن إجراءات حمائية أخرى لمنع انهيار الأسواق.

عام 2006، ضغطت الحكومة الامريكية لمنع صفقة بيع إدارة ستة من موانئها لشركة إماراتية (وهي شركة موانئ دبي العالمية)، وهو ما أدى إلى انسحاب الشركة الإماراتية من الصفقة في النهاية. وفي نفس العام تدخلت الحكومة الفرنسية “بكل ثقلها” لتمنع شركة “إنيل” الإيطالية من الاستحواذ على شركة “سويز” الفرنسية التي تعمل في مجال الكهرباء والماء، وأصدرت تعليمات باندماج “سويز” في شركة “جاز دو فرانس” الحكومية الفرنسية، وصرح رئيس الوزراء الفرنسي آن ذاك دومنيك دو فيلبان أن هذه الخطوة مهمة للغاية بسبب “الأهمية الاستراتيجية للطاقة بالنسبة لفرنسا”، فيما وصفت إيطاليا هذه الخطوة بأنها ترقى إلى “عمل من أعمال الحرب”، ووصف فالفيو كونتي الرئيس التنفيذي لشركة “إنيل” الإيطالية الخطوة الفرنسية بأنها ترقى لحد تأميم شركة “سويز”.

في إسبانيا، وفي نفس العام 2006، عرقلت الحكومة هناك عرضاً قدمته شركة “إي أو إن” الألمانية لشراء شركة “إنديسا” الإسبانية للكهرباء، ثم أعلنت أنها ستوسع السلطات التي تمنع الشركات الأجنبية من تملّك أصول إسبانية للطاقة. وقد حكمت محكمة العدل الأوروبية بعدها بأن الحكومة الإسبانية قد تجاوزت القانون الأوروبي في هذه القضية مما يثبت لجوء إسبانيا إلى حماية قطاعاتها وأسواقها حتى ولو بطرق “غير قانونية”.

وبينما تدعم بلدان الشمال قطاع الزراعة فيها بمليارات الدولارات سنوياً، تقوم بالضغط بكل قوتها في منظمة التجارة العالمية من أجل رفع حماية دول الجنوب عن الزراعة فيها! ويورد جريج بالاست أن الولايات المتحدة هي أكبر بلد فيه ملكية حكومية في العالم، فمثلاً: تمتلك الحكومة الفدرالية الأمريكية ما يزيد عن الـ 2.85 تريليون دولار من رأسمال الشركات الأمريكية، فإذا أضفنا المؤسسات التي تمتلكها الدولة أو الحكومات المحلية مثل شبكات المياه، يصبح الإجمالي الحكومي المُستثمر في الولايات المتحدة كممتلكات عامة يتجاوز بحجمه سوق الأسهم. وهذا الكلام قبل الازمة المالية العالمية وانهيار الأسواق الذي استحوذت فيه الحكومة الأمريكية على المزيد من القطاعات.

وثمة أدوات أساسية التالية تتبناها دول الشمال الرأسمالية كأدوات مركزية من أجل التدخل في الأسواق لصالحها، وتثبت أن المؤثر الأول في الأسواق والاقتصادات هي الدول الرأسمالية لا السوق، وهي:

1- تحديد أسعار الفوائد من قبل البنوك المركزية – وهو تدخل حكومي بارز يؤثر بشدة على الاقتصاد، فمثلاً: خفض سعر الفائدة يؤدي إلى خفض قيمة العملة وبالتالي تشجيع التصدير وتشجيع شراء المنتجات المحلية داخلياً، كما يؤدي إلى زيادة الضخ النقدي في الأسواق عبر الاقتراض مما يؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية؛ أما رفع سعر الفائدة فيؤدي إلى ضبط زيادة الإنفاق في الأسواق وتحفيز التوفير وضبط زيادة العرض من المنتجات وضبط التضخم؛ إضافة إلى أن تغيير سعر الفائدة على الدولار الامريكي تحديداً (وبالتالي التغير المرافق لقيمته) يؤدي إلى ارتفاع أو انخفاض أسعار كل السلع على المستوى العالمي لأنها ببساطة تُقَيّم بالدولار.

2- عمليات سوق العملات (Money Market Operations)، أي تدخل البنوك المركزية في سوق العملات بواسطة شراء أو بيع العملات المحلية، لكي يتم تعديل سعرها مما يؤثر على حركة التجارة العالمية. إضافة الى ذلك، لا يوجد أي سوق عملات مُعوّم أو حر بالكامل (Free Floated Market) بل إن جميع أسواق العملات هي أسواق تدخل كامل أو تدخل جزئي (Managed Floated Market).

3- الضرائب والرسوم، وتحدد أو تقترح عادة من قبل وزارات المالية في الدول، وهي عملياً تدخل حكومي لسحب وموازنة الطلب والعرض على المال للتحكم في حالة الاقتصاد وتجنب السقوط في حالات من الركود أو التراجع أو التضخم. وتعتبر كل الضرائب بمثابة “حركات تصحيح” اقتصادية، كما أنها تتدخل في تحفيز أو تثبيط الإنتاج في قطاعات معينة.

4- معاهدات التجارة البينية أو الإقليمية (مثل النافتا وغيرها)، وهي تدخّل لتشجيع التبادل التجاري بين مناطق معينة وتفضيل التبادل التجاري البيني بينها، أو تُصمم لضمان النمو ضمن قطاعات خدمية أو صناعية محددة ضد دول أخرى تنتج تلك السلع إو تقدم تلك الخدمات بشكل أكثر كفاءة أو أرخص من المتوفر ضمن منطقة المعاهدة.

5- المقاطعة والحصار الاقتصادي، وهي أداة تدخّل حكومية كبرى في السوق تُمنع بموجبها  دولة أو دول من إدخال بضاعتها ومنتجاتها (أو سلع محددة) إلى دولة أو دول أخرى.

6- الدعم المباشر لقطاعات أو صناعات محلية لمنع المنافسة من الخارج أو لإغراق المنافسين في الخارج أو كليهما، مثل دعم القطاعات الزراعية في دول الشمال الرأسمالية التي تحدثنا عنها سابقاً.

7- إنشاء الحكومات أو تشريعها لإنشاء صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي التي تتطلب اشتراكاً إجباريا فيها من قبل المنتفعين في أغلب الاحيان، وهذه المؤسسات تسحب النقد من الأسواق (تقلل العرض النقدي)، ولديها أجندة سياسية تتمثل بالاستثمار في قطاعات معينة ضعيفة لضمان نموها، وللهيمنة على القطاعات الاستراتيجية دون الإيحاء بسيطرة حكومية مباشرة.

8- التدخل في أسواق المال مثل ضمان أصول الشركات أو ديونها أو شراء هذه الديون لصالح الخزينة أو إقراض الشركات أو تبديل ديون الشركات بأذونات خزينة البنوك المركزية (علماً بأن أذونات خزينة البنوك المركزية هي بحد ذاتها تدخل من خلال الإيحاء البنوك التجارية لشرائها أو بيعها).

10- هيئات تنظيم أسواق رأس المال (مثلاً SEC في الولايات المتحدة) وهي تدخل حكومي مباشر لحماية صغار المستثمرين من عمليات التزوير والتلاعب.

هكذا، وببساطة شديدة، نستطيع القول أن العمليات الاقتصادية كلها تقريبا تقوم على التدخل، وأن نموذج “السوق الحر” هو ليس نموذجاً لا قياسياً ولا كونياً، إنه نموذج يُروَّج فقط لفتح الأسواق والهيمنة، خصوصاً في الاطراف، فيما تَستخدم المراكز الرأسمالية كل ما لديها من خيارات وحيل ووسائل من أجل حماية أسواقها وضمان فعالية ومرونة رؤوس أموالها للاستحواذ على مزيد من الأسواق الخارجية، والجنوبيّة منها على وجه الخصوص (أسواق العالم الثالث) لأنها الأقل حماية والأكثر قابلية للخضوع للابتزاز والأكثر اختزانا للموارد والثروات.

التجارة الحرة هي إحدى أدوات الدعاية الذكية لمشروع الهيمنة – الأساس الموضوعي للرأسمالية الباحثة دوماً عن الربح. والسوق الحر هذا لا علاقة له بالتنافسية، بل بالاختراق والإغراق والاحتكار، ولا علاقة له بالحرية، بل بالاحتلال والقهر، ولا علاقة له بالرفاه، بل بالاستغلال، ولا علاقة له بالتبادلية، بل الحركة باتجاه واحد: من الداخل المحميّ إلى خارج ينبغي ألا يكون كذلك. والسوق الحر هو وصفة نظرية مفذلكة ببراعة للإلحاق العضوي ومنع أي شكل اقتصادي بديل من التبلور، والأزمة المالية الأخيرة وما حصل خلالها من ضخ لمئات المليارات من الدولارات واليوروات الحكومية في أسواق المراكز الرأسمالية الكبرى ما هي إلا الفضيحة المجلجلة لخرافة السوق الحر.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.