د.هشام البستاني : تطوّر الأدب والفن يرجع إلى الطليعية والتجريبية
الأردن العربي – حاوره: سعيد بوكرامي وعبد الحميد الغرباوي ونضال بشارة
السبت 19/12/2015 م …
*قاص يرى أن الكتابة اشتباك مع العالم البشع…
صدر مؤخراً عن دار نشر جامعة سيراكيوز في نيويورك – الولايات المتحدة، كتاب «أرى المعنى» للقاص الأردني هشام البستاني، بترجمة إلى الإنجليزية أنجزتها ثريّا الريّس، وكان الكتاب قد فاز قبلها بجائزة جامعة آركنسو الأميركية للأدب العربي وترجمته للعام 2014، وهي جائزة تقدّم بالشراكة بين كلية جيه ويليام فولبرايت للفنون والعلوم في جامعة آركنسو، ودار نشر جامعة سيراكيوز.
هنا حوار أجراه -على مراحل- الكاتبان المغربيّان سعيد بوكرامي وعبد الحميد الغرباوي، والصحفي السوري نضال بشارة، مع هشام البستاني، حول الكتابة وعوالمها، والجائزة ودورها في دعم حضور الأدب العربي باللغة الإنجليزية، ومسائل أخرى.
يذكر أن للقاص هشام البستاني المجموعات القصصيّة التالية: «عن الحب والموت» (الفارابي، 2008)، و»الفوضىى الرتيبة للوجود» (الفارابي، 2010)، و»أرى المعنى..» (الآداب 2012) وإصداره الأخير «مقدمات لا بد منها لفناء مؤجل» (العين، 2014). ترجمت قصصه إلى أربع لغات ونشرت ترجماتها إلى الإنجليزية في مجلات أدبية معتبرة في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا.
• ما هو نصك الأول المنشور؟ وكيف تنظر إليه الآن؟
– نصي الأدبي الأول المنشور هو كتابي الأول «عن الحب والموت»، وقبل هذا الكتاب لم أكن أتجرّأ على نشر نصّ أدبيّ رغم أنني كتبت نصوصي الأدبيّة الأولى عام 1996، وفاز أحدها في العام نفسه (هو قصة «عبر البرزخ»، ومنشورة مع كثير تنقيح في الكتاب المذكور) بجائزة القصّة القصيرة على مستوى الجامعات والمعاهد الأردنيّة. كنت في تلك الأيام أُكثر من نشر المقالات السياسية والفكرية في الصحف والمجلات المحلية والعربية، أما الأدب فكنت –وما زلت- أعتبره عالماً آخر لا مكان فيه للاستسهال والتسويات والمجاملة حتى مع الذات. لذلك كنت أحتفظ بالنصوص القصصيّة لنفسي وبعض أصدقائي، إلى أن أصر هؤلاء على ضرورة نشرها، فدفعت بها إلى الروائي الكبير صنع الله إبراهيم ليحكّم فيها رأيه إن كانت تصلح أو لا تصلح، فجاء جواباً مشجعاً جداً، بل وشرّفني بكتابة تقديم لها كان هو الإيذان الحقيقي لنشر قصصي بعد 12 عاماً من بداية كتابتي لها.
الآن وبعد أن صدر لي أربعة كتب، وتطوّرت أدواتي وتغيّرت اتجاهاتي في الكتابة، ما زلت راضياً عن قصص كتابي الأول، رغم أنني أرى أن أكثرها يحتاج تنقيحاً وغربلة وإعادة كتابة جزئية، وهو مشروع عكفت عليه لأنني أنوي أن أصدر طبعة جديدة بهذه الصياغة الجديدة لمجموعتي الأولى.
• ما هو المنبر الأول الذي نشرت به وكيف كان إحساسك؟
– قبل أن أنشر قطعي الأدبية باثني عشر عاماً، كنت أنشر وبشكل مستمر مقالات سياسية وفكرية في الصحف والمجلات المحلية والعربية، وكان العديد من هذه المقالات قد ترجم إلى لغات عدة كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية واليونانية، لذا كنت قد عاينت لذة النشر للمرّة الأولى غير مرّة، ولم يكن نشر قطعة أدبية ليختلف كثيراً.
أذكر أن أول قطعة أدبية نشرت بشكل منفصل عن كتاب كانت في «أخبار الأدب» المصريّة ضمن ملف أنطولوجي أعددته عن الكتابة الجديدة في الأردن، تلته قصّة نشرت في مجلة «الآداب» اللبنانية، وقصة ترجمت إلى الألمانية وصدرت في عدد خاص بالكتابة العربية الجديدة من مجلة «إينامو» بمناسبة احتفاء معرض فرانكفورت للكتاب بالأدب العربي عام 2009، وكلّها نشرت بعد صدور كتابي الأول.
من النادر أن أنشر قصة قبل نشر الكتاب الذي تحتويه، فأنا أجد أن القصة المنفردة تفقد السياق الذي أضعها فيه داخل الكتاب القصصي الذي يحتويها، فتفقد جزءاً من عمقها.
•ما التجريب في نظرك؟ وهل أنت كاتب تجريبي؟
– التجريب شيء، والتجريبّية شيء آخر. التجريب هو استعمال الأدوات الفنيّة المختلفة على سبيل الاستطلاع واختبار المهارة والإمكانية؛ أما التجريبيّة فهي حالة تجاوزية واعية لكاتب متمكّن لديه من الأدوات والوعي وفلسفة الكتابة ما يجعله يقدّم مشاريع طليعية تجديدية في الشكل والموضوع معاً.
للتجريبيّة أركان : الوعي والقصدية، التمكّن، توفر فلسفة للنسق التجريبي، وانضواؤها ضمن مشروع كتابي للكاتب وأحياناً لمجموعة من الكتّاب (فتصير تيّاراً).
كل كتابة نعدّها الآن «كلاسيكية»، كانت «تجريبيّة» في زمنها، وكلّ تطوّر في الأدب والفن يرجع إلى الطليعية والتجريبية في زمن تكون فيه مذاهب ذلك الزمن في الفن قد ثبتت ورسخت واستنفدت إمكانياتها التخليقية والاستشرافية والجمالية.
لهذا أجد التجريبيّة ليست مهمّة فقط، بل وضرورية أيضاً؛ ونعم، أنا كاتب تجريبيّ، أحاول أن أقدم سياقات في الكتابة تقف على أكتفاف من سبقني وعلّمني، وتمدّ رأسها إلى «الآن» والقادم؛ وأعمل أيضاً في سياق اشتباك الفنون مع الكتابة، لا في سياق الكتابة نفسها بل خارج الكتابة أيضاً، فثمة عروض اشتغلت عليها مع زملاء فنانين آخرين تشتمل على السرد والموسيقى والفن التشكيلي والفيديو آرت والرقص المعاصر، منها على سبيل المثال: «أرى المعنى» (المركز الثقافي الملكي، 2012، بمرافقة عازفة البيانو رانيا عجيلات والفنانين التشكيليين علاء طوالبة ومحمد التميمي)، «الساعة 24:00» (المركز الثقافي الملكي، 2013، بمرافقة الشاعر محمد معايطة والفنان التشكيلي خليل أبو حلتم وعازف الجيتار توفيق جهاد، وعازف الكلارينيت غسان أبو حلتم)، «فينفجر كابوس جديد» (دارة الفنون، 2014، بمرافقة مغني الهيب هوب ’كاز الأمم‘ وفنان الصوت ’المستنقع‘ وفنان المؤثرات البصرية محمد شحرور وفرقة ’زائد ناقص‘)، و»سائل» (المركز الثقافي الملكي، 2014، بمرافقة مؤدية الرقص المعاصر شيرين التلهوني).
• ما هو الكتاب الذي حفزك على الكتابة؟
– ما حفّزني على الكتابة هما قضيّة وكتاب. القضيّة هي تكفير الباحث المصري اللامع نصر حامد أبو زيد وتطليقه من زوجته الأستاذة الجامعية ابتهال يونس، وما تلا ذلك من هجرتهما خارج بلدهما وتداعيات هذا الموضوع الصادم. كنت قرأت عن هذه القضية في الصحف، وبعدها نزلت إلى المكتبات وابتعت كل شيء كتبه أبو زيد حتى تلك السنة. كانت تلك بداية احتكاكي المباشر بالفكر، وبداية اهتمامي بالبحث والسؤال والنقد العميق. أما الكتاب فهو «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، ومن ثم مجموعتاه القصصيتان «الوعول» و»غسق الآلهة»، وفيها أعجبت باللغة الفنيّة التي يكتب بها حيدر، وبمقارباته الشجاعة حول مواضيع متفجّرة مثل الدين والجنس والسياسة، إضافة إلى الشكل الإبداعي المبتكر الذي يستعمله، وهو شكل فريد وحداثيّ وطليعيّ. لذا فأنا أعدّ نصر حامد أبو زيد وحيدر حيدر والدَيّ الروحيّين في الفكر والأدب، وهما الدافع الأساسي وراء خوضي غمار هذين العالمين.
• فزت مؤخراً بجائزة جامعة آركنسو للأدب العربي وترجمته بالشراكة مع الشاعر الكبير سميح القاسم. رحيل شريكك في الجائزة قبل الإعلان عنها يجعل صدى الجائزة في نفسك غير تقليدي، ماذا عن هذا الصدى؟
– رغم أن سميح القاسم شاعر كبير ومعروف على مستوى العالم العربي، ويمثل (مع آخرين كبار) حقبة بحالها هي حقبة «شعر المقاومة الفلسطينية»، إلا أنه –وبكل أسف- غير مترجم إلى اللغات الأخرى. وكتاب المختارات من شعر سميح القاسم -والذي فاز كتابي إلى جواره بجائزة جامعة آركنسو للأدب العربي وترجمته- هو الكتاب الثاني للقاسم الذي سيظهر بالانجليزية.
أحسنت الجائزة بانتقاء القاسم، خصوصاً أن حقبته المقاوِمة ما زالت راهنة لم تُستكمل فلسطينياً وعربيّاً، وستظل مفتوحة على المستقبل، وسنظلّ –كأدباء- نهجس بها، مع اختلاف جذريّ في الأدوات والمقاربات والأشكال الإبداعية التي نوظّفها في التعبير عنها.
على المستوى الشخصي: تعطيني رفقة القاسم في هذه الجائزة ثقة إضافية في مشروعي الكتابي، وتضع على كاهلي عبئاً كبيراً للاستمرار في تطوير إمكانيات هذا المشروع وأدواته؛ مواضيعه وأشكاله.
• كان لك تجربة المشاركة في مهرجان كورك الدولي للقصة القصيرة في ايرلندا عام 2014، ماذا عنها وما الذي يميز بينه وبين مهرجاناتنا العربية، ولماذا برأيك القصة القصيرة مهضوم حقها مقارنة بالشعر وبما يقام له من تظاهرات؟
– مهرجان كورك الدولي للقصة القصيرة من أهم الأحداث العالمية التي تحتفي بهذا الجنس الأدبي، وهو يقدّم جائزة سنوية (مسماة باسم القاص الايرلندي الكبير فرانك أوكونر) لأفضل مجموعة قصصية منشورة للمرة الأولى باللغة الإنجليزية، تعدّ الأعلى في العالم حيث تبلغ قيمتها 25 ألف جنيه استرليني.
الميزة الأساسية أن الاختيار للمشاركة فيه لا يكون على قاعدة المحاباة والشللية والعصبوية، أو جنس الكاتب المدعوّ وشبق الداعي واستيهاماته، بل يخضع لاعتبارات إبداعية فقط.
حق القصة القصيرة مهضوم مقارنة بالرواية لأنها جنسٌ أدبي أصعب على التلقي، فهي مكثفة في جوانب المكان والزمان والشخوص، ولا تلتزم بتراتبية المنطق العادي، ولا تُبنى أحداثها وتفاصيلها على مهل ويسر وبتسلسل سهل، وتحتاج جهداً من القارئ للتفاعل معها وتفعيل بعض جوانبها المضمرة أو المبثوثة على عدة أعماق ومستويات، ولا تستدعي القصة التسلية بل التفكير العميق، لهذا يصعب تسليعها وتحويلها إلى مُنتَج للاستهلاك الواسع، بعكس الرواية.
أما الشعر -وهو شقيق القصة بالنسبة لي، وبينهما من المشتركات ما يفوق كثيراً المشتركات بين نثر القصة ونثر الرواية-، ورغم أن حقه مهضوم فيما يتعلق بالاهتمام به، إلا أن المنزلة التي يُسبغها الشعراء على أنفسهم بوصفهم نوعاً خاصاً من البشر، وما يصنعونه لأنفسهم من هالة يتحركون وسطها، تعوّض عليهم قليلاً هذا «الإهمال»، وهي هالة لا تحيط بالقصاصين فيظلون عراة من الانتشار ومن المنزلة.
• متى تقتنع أو تشعر بأن النص القصصي لديك، أصبح صالحاً ليتداوله القراء بينهم؟
– عندما أقرأه واستمتع وأدهش به وأجد فيه جديداً أدبيّاً. أطبق على نصّي (بالمعنى الجمالي والبنائي، وأيضاً من حيث الموضوع والمعالجة) ما أطلبه من نصوص الآخرين، وأقرأه بعين القارئ الجادّ واسع الاطلاع صاحب الذائقة الانتقائية والمطّلع على المشهد الأدبي العربي والعالمي والمهتم بالفلسفة والعلوم.
إنْ رضي هذا القارئ بما قرأ، وتتم هذه العملية بعد زمن من كتابة النص ليتحقق انفصال معقول بين النص وكاتبه من خلال تلاشي السبب أو المحفّز على الكتابة الأولى، عندها يكون النص صالحاً للمشاركة فأعرضه على أصدقاء أثق بأحكامهم على النصوص ليعطوني انطباعاتهم، وكثيراً ما أستجيب لملاحظاتهم فتخضع النصوص لجولة أخرى من التحرير والتنقيح، وبعدها أكون متحمّساً للنشر فأدفع به إلى الناشر، لكن في كتبي القادمة سأضيف مرحلة أخرى هي ترك الكتاب المكتمل فترة ثانية من الزمن، ومن ثم العودة إليه وقراءته من جديد كعمل واحد.
• ما هو الكتاب الذي تمنيت كتابته؟ ومن هو الكاتب الذي يتجول في عروق كتابتك؟
– ليس من كتب تمنّيت كتابتها سوى كتبي، لأنني وببساطة أحترم أعمال المبدعين الآخرين وأقدّرها عالياً ولا أجد أنه من المنطقيّ والممكن أن يكتبها آخرون. أحبّها كما هي: بأقلامهم وبأسمائهم، ومن هذه الكتب: «المدن اللامرئية» لإيتالو كالفينو، و»رحلة صحراوية» لسفن ليندكفست، و»ملذات الملعونين» لتشارلز بوكاوسكي، و»كأنني امرأة مطلقة» ليحيى جابر، و»امبراطورية الحوائط» لأحمد طه.
أعتقد أن حيدر حيدر يتجوّل كثيراً في عروق كتابي الأوّل، بل إن محاولاتي الكتابية الأولى للقصة كانت تقليداً مباشراً لهذا المعلّم الكبير، وهي محاولات لم أنشرها بل وأمعنت في إتلافها سعياً إلى «قتل الأب» وإيجاد صوتي الخاص. لكن رغم ذلك، ظل حيدر حيدر حاضراً في كتابي الأول، لكن ذلك التأثير الطاغي سيختفي في كتبي اللاحقة، وستبرز فواعل كثيرة أخرى مثل الشعر والعلوم (الفيزياء وعلوم الكون تحديداً) والأفلام واللوحات التشكيلية والرقص المعاصر، وسيجد القارئ الكثير من الهوامش في قصصي والتي تشير إلى هذه الفواعل.
• هل تفرض عليك كتابتك نوعاً من الطقوس؟ وما هو المكان الذي تحب أن تكتب فيه؟
– الطقس الوحيد المطلوب للكتابة عندي هو الهدوء الكامل، لذلك أهرب من المدينة عندما أريد أن أنهي كتاباً، وأنتبذ لنفسي مكاناً قصيّاً مثل جبال عجلون أو أطراف البحر الميّت، أغلق هاتفي وأتعمّد عدم وجود تلفاز وإنترنت في غرفتي وأكتب.
المكان الذي أفضّل الكتابة فيه هو منزلي لما يوفّره لي من هدوء يندر أن يتوفّر في غير مكان. ولكن رغم ذلك لا بدّ من منغّصات: فالجيران يطلقون العنان لأبواق سياراتهم أحياناً، فيما تمرّ سيارات توزيع الغاز بموسيقاها المميّزة العالية، وسيارات شراء الأثاث المستعمل وسيارات بيع الخضار بنداءاتها المختلفة عبر مكبّرات الصوت! وتلك تسبب لي توتّراً لدرجة أنني ضمنّتها في كثير من قصصي وأعمالي الأدبية التي تهجو المدينة وعالمها الملوّث.
• هل الأدب في خطر؟ وماذا علينا أن نفعل من أجله؟
– ربما، وإن كنت لا أجزم أو أقطع. فاستسهال الكتابة المرافق لوسائط التواصل الاجتماعي صار مشكلة كبيرة، ويولّد تشوّهات كبرى من حيث نشر الرداءة وإيجاد جمهور لها، واعتداد الكاتب الرديء بنفسه كنتيجة للاستحسانات (اللايكات) والتعليقات التي تجامله.. وإلى الآن وقعت بين يدي ثلاثة كتب (تدّعي أنها نصوص شعرية وقصص قصيرة جداً) هي مجرد تجميع للـ «ستاتوسات» التي كتبها «المؤلف» على مدار سنة أو أكثر من التفاعل الفيسبوكي السخيف.
أعتقد أن أكثر ما سيتأثر بهذه الموجة الكبيرة من الرداءة هو أشكال التعبير القصيرة مثل القصيدة الومضة والقصة القصيرة جداً، حيث سيضيع سمينها في غث الكم الكبير من الركاكة والإدّعاء.
مسألة أخرى أرى أنها تهدد الكتابة هي الانتشار الكاسح للمرئي والمسموع الاستهلاكيين (الأغاني والتلفزيون.. إلخ)، الأمر الذي يحوّل اهتمام القرّاء عن الكتابة، بل بتنا نعاين الكثير من الكتّاب الذين يرحلون ليس فقط إلى الرواية، بل وإلى كتابة السيناريو، وكلاهما (الرواية والسيناريو) جنسان كتابيان قريبان من المرئي والمسموع الأكثر اتساقاً مع عالم الاستهلاك المعاصر.
• بالعودة للجائزة ثمة تجارب أخرى لك في المجال نفسه من خلال ترجمة بعض القصص لك في أكثر من مجلة أو موقع إلكتروني. لو تسلط لنا الضوء عليها وعلى فرادة كل تجربة؟
– أول قصة ترجمت لي كانت إلى الألمانية، ونشرت في عدد خاص من مجلة «إينامو» خُصص للأدب العربي الجديد عام 2009 بمناسبة احتفاء معرض فرانكفورت للكتاب بهذا الأدب. ثم اختيرت قصة لي هي «التاريخ لا يُصنع على هذه الكنبة» ضمن الملف العالمي الخاص بالقصة القصيرة جداً في مجلة «وورلد ليتيرتشر توداي» (عدد أيلول 2012) والذي احتوى نماذج عالمية من أعمال عشرة كتاب فقط يشتغلون على هذا النوع، ونشرت قصص مترجمة لي في الكثير من مجلات الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا مثل «ذي مالاهات ريفيو» و»ذي ليتيراري ريفيو» و»ذي كومون» وغيرها.
كانت هذه التجارب فرصة فريدة للاحتكاك بعالم لا نعرف عنه شيئاً هو عالم «التحرير الأدبي»، حيث يكون اختيار القصة للنشر إنجازاً بحدّ ذاته نظراً للحجم الكبير من القطع الأدبية المقدمة للنشر في هذه الدوريّات، وبحيث يمثل ما يتم اختياره نسبة 1 بالمئة مما يُرسل للنشر، بعدها يدور نقاش حول القصة بين المؤلف والمحرّر، ويقدِّم المحرر مقترحات للكاتب يأخذ بها أو يرفضها بعد أن يُسبّب الرفض، فتظهر هنا إمكانيات الكاتب وفلسفته الكتابية أو ضحالته وعدم وجود مشروع كتابي لديه؛ أما بعد النشر فثمة مراجعات للمجلة وما نشر فيها، أو حوارات تجري مع الكاتب، أو استضافات أدبية، مما يعني أن الكاتب يدخل جوّاً تثاقفياً غير متاح له في بلده ولغته ومحيطه الثقافي، وهو أمر مأساوي من جهة، وإيجابي من جهة ثانية.
• أعتقد أن من حق مترجمتك ثريا الريّس علينا أن نعرف عنها المزيد، من هي وما إنجازاتها؟
– ثريا الريّس كاتبة ومترجمة أدبية متمكّنة، لغتها الأولى هي الإنجليزية بحكم نشأتها ودراستها الجامعية في بريطانيا وكندا، أما لغتها الثانية فهي العربية، فيتحقق فيها ما أراه من ضرورة أن تكون لغة المترجم الأولى هي اللغة المترجم إليها، ولغته الثانية هي المترجم منها، مع تمكنه من اللغتين طبعاً.
عاشت ثريا ردحاً من طفولتها في الكويت، وجزءاً من صباها في عمّان حيث تسكن الآن، أما والداها فعربيّان. كل هذه العوامل وفّرت لها لا ثنائية لغوية فحسب، بل ثنائية ثقافية أجدها أساسية لمن يريد الاقتراب من الترجمة الأدبية، فهي فعل إبداعي مستقل بذاته ينشغل لا بنقل اللغة بل نقل العوالم والسياقات الثقافية المحمّلة على، والمكثفة في، الأدب. وهي فوق هذا متذوّقة رفيعة للأدب وتمتلك حسّاً تحريريّاً حادّاً، ونُشرت لها كتابات وترجمات في مجلات مهمة مثل «ذي آوتبوست» و»وورلد ليترتشر توداي» و»سكون» وغيرها.
ولكوني أتحدث الإنجليزية بشكل جيد جداً، فقد مكنني هذا من العمل معها بشكل معمّق ودقيق ومشترك، فكان النص يخضع لترجمة أولى من قبل ثريا، يليه نقاش حول ما غمض من كلمات أو سياقات، فتكتمل مسوّدة أولى للترجمة أضع عليها ملاحظاتي، لتنجز ثريا بعدها صيغة شبه نهائية من الترجمة تخضع غالباً لتعديلات بسيطة تنتج عن اقتراحات لمحرّري المجلات الأدبية أو مراجعتها هي نفسها للنص الأدبي لاحقاً قبل النشر في مجلة.
• ما هو تعريفك للكتابة؟
– الكتابة اشتباك يومي مع العالم الخارجيّ البشع والمتهالك، ومحاولة لإنتاج الجمال على أنقاضه. وهي أداة قادرة على إثارة الأسئلة، واستفزاز الاجابات، هذا إن أخلص الكاتب لمهمته شبه الرّسولية –بالمعنى المجازيّ-، المتحرّرة بالكامل والمستقلة بلا حدود.
أما الواقع فهو أن الكثير من الكتّاب مسكونون بالرقيب الداخلي، ومهجوسون بالوصول الى تسويات مع المجتمع والسلطة، ويتميّزون بالتبعيّة، والتسوّل الماليّ، وتسوّل الجوائز، والانتهازيّة، والذاتيّة الأنانيّة الخالصة. لكن المشهد الثقافي لا يخلو بالكامل من الكتاب الحقيقيين، وأعني بهم الكتاب الأحرار الذين يعبّرون عن حريّتهم الكاملة ويصونونها، ويكونون بذلك درجاً لتحرر الآخرين وتحرر المجتمع.
• هل ما زلت تؤمن بجدوى الكتابة؟ إلى أين تقودك؟ ألا تفكر في تطليقها ذات يوم؟
– طبعاً ما زلت مقتنعاً (لا مؤمناً) بجدوى الكتابة والأفكار وتداولها ونقاشها، وإلا لما أجبتك عن أسئلتك هذه! عالم الأفكار والإبداع أساسي لكائنات مثلنا عندها «وعي» وتمتلك إمكانية للتعبير عن هذا الوعي، ويصير التعبير عن الوعي أكثر أساسية عندما يُوظّف كثيرون هذا الوعي من أجل الخراب والدمار والتزوير والتنميط، وإعادة إنتاج الوعي نفسه ليصير متسقاً مع السلعة والاستهلاك.
نحن نعيش في عالم فاق ما تخيّله جورج أورويل في نبوءته الروائية «1984»، بل إن الفنّ نفسه (البوب آرت في مجال التشكيل، والرواية في مجال الأدب كأمثلة) تحوّل إلى سلعة وانضم إلى آليات السوق على يد «فنانين» و»كتّاب» لا يهتمّون إلا بالنجومية وجيوبهم. هؤلاء نوع آخر من كتّاب السلطان، حيث السلطان الآن هو «السوق» مع استمرار السلطان الأول بالوجود والفعالية، وكذلك كتبته التقليديين.
الكتابة هي إمكانيات الفعل والنقد والاستشراف والتأمل والفهم العميق. في حوار أجرته معي مؤخراً مجلة «آبوجي» الأدبية الأميركية، قلت في الجملة الختامية: «نعم، أنا أريد تغيير العالم»، ولا أتخيّل إمكانية لأي تغيير دون تفكير، ولا تفكير دون قراءة وكتابة ومشاركة ونقاش. لهذا فللكتابة دور مركزي وأساسي، وإن طلّقتها يوماً فلن يكون ذلك يأساً من إمكانيات الكتابة، بل سيكون لقناعة بأن ليس لدي جديد أضيفه.
التعليقات مغلقة.