سيرة قائد شيوعي عراقي … سلاماً للقائد الانصاري توما القس (أبو نضال) / كمال يلدو

 

كمال يلدو ( العراق ) الأحد 20/12/2015 م …

صحيح إن اخبارهم لا تتناقلها محطات الراديو أو الفضائيات المحلية، ولم يحضوا يوماً بإطلاق اسمائهم على احد الشوارع او احدى الساحات العامة او المدارس، لكن الاصح من ذلك إن احداً لا يمكن أن ينافسهم على سجلهم وتأريخهم الوطني المشرف في مقارعة الدكتاتورية والانظمة الرجعية التي توارثت على حكم العراق وعلى مدى عقود من السنين، وهم الأكثر معرفة بأن بناء الوطن لايمكن دون الاستعانة والاستفادة من كل الجهود والقوى الوطنية المخلصة، وإن عراقاً لا يمكن أن ينهض ويدوم إذا حُكم بعقلية عنصرية شوفينية او طائفية او دينية اقصائية، هذا الوطن ملك لكل ابنائه ، وحينما توضع القوانين التي تراعي وتحترم ذلك، يكون البلد قد اختار السكة الصحيحة ودونها، فالمشهد الحالي يفصح عن نفسه بكل جلاء، وهو كاف للحكم وتقييم القوى التي تحكم البلد.

***

 

ولد القائد الأنصاري توما القس داود (أبونضال) عام ١٩٣٠ في ناحية (كاني ماصي) التابعة لقضاء العمادية، ودرس الابتدائية فيها، ثم انتقل الى مدرسة إعداد المعلمين الريفية في منطقة الرستمية في بغداد، وقبيل تخرجه عام ١٩٤٨ ، كان قد اشترك في انتفاضة الشعب التي طبعت تلك السنة، فاصيب برأسه في التظاهرات، إلا انه اكمل دراسته بعد تعافيه وتخرج بتفوق.

القائد الانصاري أبو نضال ـ توما القس مع الفقيدة ام نضال

إقترن بالسيدة (شاميران بنيامين) وأنجبت له بنتان ـ نضال وندى ـ وولدان ـ منير و داود ـ ولهم الآن (٨) احفاد . رحلت سيدة البيت قبل حوالي ثمان سنوات في دهوك بعد معاناة وعذابات طويلة سببت لها الكثير من الامراض نتيجة رحيل ابنها الغالي (منير).

القائد الانصاري توما القس مع العائلة

كان تعيينه الأول عام ١٩٥٠ في مدرسة بقرية (بيدو) قرب كاني ماصي، ثم نُقل الى قرية (هيي) وعاد الى كاني ماصي حتى عام ١٩٦٠ . ومع بداية انتكاسة ثورة ١٤ تموز واستلام زمام المبادرة من قبل الرجعية المعادية للثورة حيث امتدت تلك الريح الصفراء الى قريته، حينما قام (مفوض الشرطة) بتدبير حادثة شغب ضد التقدميين أدت في النهاية الى اعتقال حوالي (٣٠) من المعلمين والطلاب بحجج واهية ومبيتة. وقد أدت تلك الحادثة الى اعتقاله لمدة (٤) أشهر في العمادية وبعدها الى تلعفر وليكون القرار النهائي النفي (ضمن السلك التعليمي) الى مدينة السماوة بين الاعوام ١٩٦١ ـ  حتى انقلاب شباط ١٩٦٣ حيث قرر حينها الالتحاق ب (قوات الانصار) في الجبال بدلاً من ان يكون فريسة سهلة لجهاز الارهاب البعثي: “الحرس القومي”. ساهم في تأسيس اولى القواعد الانصارية بمدينة السليمانية (كلكا سماق) ثم انتقل الى منطقة (برواري بالا) حتى بيان ١١ آذار عام ١٩٧٠، الذي ضمن الحكم الذاتي للشعب الكردي، إذ عاد الى سلك التدريس في السماوة ايضاً. وفي العام ١٩٧٥ عيّن في (المجلس التشريعي للحكم الذاتي) ممثلاً عن الحزب الشيوعي العراقي، ثم تعرض للاعتقال (لفترة قصيرة) عقب حل هذا المجلس، ثم توجه بعدها لمهنته المحببة في التدريس مجددا، وبعد انهيار الجبهة الوطنية مع البعث عام ١٩٧٩ ، التحق ب (الجبل) مجددا وقصد مناطق ( بهدينان ـ زيوا ـ كاني هيسة) حتى هجوم صدام بالاسلحة الكيمياية على مناطق كردستان فيما سميّت ب (الانفال) نهاية ١٩٨٨، حيث اضطر للنزوح الى المخيمات في تركيا، وبعدها الى سوريا حتى انطلاق انتفاضة عام ١٩٩١ حيث عاد الى دهوك وسخّر جلّ وقته في خدمة الحزب الشيوعي مع القائد الانصاري الراحل توما توماس ـ ابو جوزيف ـ والعديد من الكوادر والشباب .

قرب نهر دجلة عام ١٩٩١ ـ ابو نضال مع توما توماس وعادل حبة

وبينما كان القائد (أبو نضال) يقارع الدكتاتورية في جبال كردستان، كانت عائلته قد اضطرت للمعيشة في بغداد، وهذا لم يمنع سلطات البعث من مضايقتها وإرهابها وبالتالي اعتقال ابنه (منير) لعدة شهور بغية الضغط عليه ومساومته على حرية ابنه، ولم تنفع تلك السياسة ، فلجأوا الى وسيلة خبيثة كأفكارهم، حيث أرسلت المخابرات العراقية وعبر مرتزقتها في المنطقة من ضعاف النفوس بقنينة كحول (بطل ويسكي) الى أبو نضال وقيل انه “هدية” من ابنه منير في بغداد حيث لم يكن قد علم بإعتقاله آنذاك، وعلى الرغم من المحاذير المعروفة لدى قوات الانصار من هكذا (فخ) إلا ان “أبو نضال ” قد وقع فيه، فشربه مع صحبه في احدى الليالي وتبين لاحقا بأنه كان ملوثا ب (سـم الثاليوم) الذي كان يستخدمه حزب البعث في التخلص من خصومه، حيث تظهر عوارضه بعد أيام، وكانت هذه الحادثة سبباً في سحبه الى الخطوط الخلفية وبالتالي ارساله للخارج لغرض العلاج، وبعد أن تماثل للشفاء، يبدو ان الثاليوم كان قد فعل فعلته حيث أدى ذلك السم الى خلل في السمع لدى “ابا نضال”.

عن احواله في هذه الايام (اواخر ٢٠١٥) يقول شقيقه السيد “يورم القس داود توما”: إن ابو نضال بصحة لا بأس بها قياسا لعمره ومعاناته الكبيرة، وهو يعيش الآن في دهوك مع عائلة شقيقتي “نضال” حيث تقوم هي وزوجها بتدبير اموره والعناية به، أما بالنسبة لي ، يكمل شقيقه: فأن أبو نضال يعني الكثير ، فهو شقيقي الاكبر ، إذ يزيدني حوالي (٩) سنوات عمراً، لكنه كان نبراسا لحياتي، وتأثرت كثيرا بأفكاره (قبلاً ولليوم) وأعتز بها، وكنت في المصائب جنبا لجنب معه، ومن الطريف القول إني قمت ب (دفن) بعض الكتب في فناء حديقتنا ايام العهد الملكي وانتشار التفتيشات عليها، وكنت اقوم بين فترة وأخرى بأستخراج أحدها وقرأتها، لا بل اني قمت وبعد انقلاب البعث عام ١٩٦٣ بالالتحاق بقوات الانصار التي كانت قد تشكلت للتو، ولعل اكثر ما كان يسعدني ويفرحني هو موقف الاهالي في تلك القرى التي كنا نزورها، والذين كانوا قد سمعوا او عرفوا شقيقي يقولون : “بس أبو نضال وبس”، وهذا شرف ووسام كبير عن هذا الانسان الرائع، الذي ضحى بالكثير من أجل المبادئ السامية وتحقيق شعار الحزب في “وطن حر وشعب سعيد”.

ويكمل الاستاذ يورم القول: لعلي هنا لا اكشف سراً حينما اقول ما سمعته مرة من شقيقي، بأنه كان قد تأثر كثيرا بأفكار الاستاذ الرائع “عزيز سباهي” الذي اتمنى له كل الصحة والعافية، حينما كان أخي في (مدرسة اعداد المعلمين) بالرستمية عام ١٩٤٧، وساهم بعدها في تشكيل اولى الخلايا الشيوعية في منطقة “برواري بالا” والقرى المحيطة بها، ان هذا تأريخ مشّرف لانسان مناضل وكادح ، ضحى بالكثير من أجل حزبه وشعبه، وبقت اياديه نظيفة طوال كل تلك العقود من الكفاح والمسؤولية.

يورد القائد الانصاري الراحل “توما توماس ـ ابو جوزيف” في ذكرياته التي نشرها مشكورا (موقع الناس) عدة مرات اسم القائد الانصاري “توما القس” ويتوقف ملياً اما حادثة (قنينة الويسكي) المشهورة، ويمضي ابعد ليكشف (ابو جوزيف) عن حالات كثيرة دنيئة لجأ لها نظام البعث المقبور في محاربة الانصار الشيوعيين مستخدماً طريقة التسميم وذلك من خلال (الحليب) تارة و(المعلبات) أو اية سلع اخرى يمكن ان يحتاجها المقاتلون، حتى وإن ادت (سهوا) الى سقوط ضحايا من القرويين المسالمين، فلا يهم، وكان المهم عندهم قتل الانصار!

أما القائد الانصاري “أبو باز” فيقول عنه: تعرفت على المناضل “ابو نضال” في اوائل الثمانينات عندما اقتسمنا العمل الانصاري في (قاطع بهدينان) وكان يتحمل مسؤلية إدارية في القاطع، إلا ان علاقتنا الرفاقية كانت قبل حتى ان اشاهده وجها لوجه، فقد علمت من الحزب إن “ابو نضال” قد تعرض للاعتقال من قبل البعث اواخر السبعينات بعد فشل فكرة (المجلس التشريعي) رغم علمهم بأنه كان ممثلا للحزب الشيوعي، حيث قمنا آنذاك بجمع مبلغا من المال لمساعدة عائلته وعدم تركها أسيرة الحاجة. ولعل فترة نضاله في منطقة (برواري بالا) والمناطق المحيطة بها، كانت واحدة من المحطات المنيرة في حياته، فقد كانت له منزلة خاصة لدى سكان تلك القرى، وكانوا يأتون ليسمعوا له، وكانوا يحبونه كثيرا ويحترمونه، وكان معروفا عندهم بأنه من عائلة معروفة وأنه كان معلما ايضا.

أبو نضال في القامشلي ١٩٨٨ مع وردا بيلاتي وزوجته وابنته ميسون وابنة ابو مسار

ولا يسعني اليوم، أنا والنصير الرائع (وردة بيلاتي ـ ملازم أبو ميسون) إلا ان نتمنى الصحة لرفيقنا الغالي “ابو نضال” ونبعث سلامنا لباقي افراد العائلة في دهوك (نضال وزوجها) وفي السويد (ندى وعائلتها وإبنه داود) وبمواساتنا في رحيل الغالية (شاميران بنيامين) و ابنه النصير البطل (منير) .

اما شقيقه الاصغر السيد (نبيل القس داود توما) فيتذكر الكثير من الحوادث عن القائد (ابو نضال) و يقول: لقد كنتُ الاصغر في العائلة، وقد قُتل والدي المرحوم (القس داود) وأنا لمّا كنتُ (٩) سنوات من العمر اثناء هجوم ومعارك مع المجرمين الطامعين بأراضينا وحيواناتنا في (كاني ماصي)، فأصبح منذ ذلك اليوم شقيقي الاكبر (توما) هو الاخ والاب والمعلم والصديق، وما زال لليوم يحملُ ذات المكانة في قلبي ومشاعري. الكل كان يقول عنه إنه شجاع وذكي وإنسان طيب ومحب، وحتى الذين لم يتفقوا معه سياسياً فقد كانوا يحبونه، وأشعر بسرور بالغ حينما يتحدث الناس عن أخي الكبير بهذا المستوى. ويُكمل السيد (نبيل) كلامه: اقوم تقريبا بزيارته في دهوك كل عام، وهو على العموم بصحة جيدة قياساً الى عمره (٨٥ عاما) ويتمتع بذاكرة حادة أبهرت رفاقه أكثر من مرة، وقد شهدتُ واحدة في عيني السنة الماضية حينما زاره مجموعة من رفاقه من منظمة العمادية للحزب الشيوعي الكردستاني لغرض الاطمئنان عليه، وكان قد أنجز للتو خارطة للمنطقة ضمنها القرى والجبال مع اسمائها التي كانت مسرحاً لنضاله لسنين طوال وقال لهم: “هذه الخارطة تضم حوالي (٢٥٠) قرية كنّا قد ناضلنا فيها وحاربنا الدكتاتورية ايام الكفاح الانصاري ، وربما بتُّ على الاقل لليلة واحدة فيها”. لقد تركت تلك الخارطة رفاقه مذهولين وهم يقولون له (إن الكومبيوتر لا يمكن ان يرسمها بالدقة التي قمت انت بها).

القائد الانصاري أبو نضال بين رفاقه

رغم مضي حوالي سبعة عقود منذ أن تعرف المناضل توما القس (أبو نضال) على تلك الافكار النيرة ، حينما كان تلميذا في معهد إعداد المعلمين بالرستمية، فإنها لم تغادره ولا هو غادرها، فقد نشرها بكل امانة اينما حل ، ودافع عنها دفاعاً مستميتاً ،وقاوم كل مغريات الحياة وقايضها بالتضحيات الجسيمة من اجل الشعب العراقي، وتحمل قساوة الجبل والحصار وحروب الحكومات الغاشمة والسجون، ومحاولات الاغتيال اللئيمة التي دبرّها البعث الفاشي ضده، وكذلك مع المعارك والهجوم بالكيمياوي الذي تعرضت له مناطقهم، والتي أدت ايضاً الى استنشاقه لتلك الغازات القاتلة، ومثلما هو ضحى، فقد ضحت عائلته الكريمة زوجة وأبناء وبنات، نعم انه ايقن تمام اليقين بأن خلاص هذا الوطن وشعبه لن يكون إلا حينما يكون للشيوعيين دورا كبيرا في بناء الوطن ، ومن خلال إقامة النظام المدني الديمقراطي العلماني، ومن اجل تحقيق شعارنا العتيد (وطن حر وشعب سعيد).

** الذكر الطيب للراحلة الغالية (شاميران بنيامين) والنصير البطل (منير توما القس)
** التحية والمحبة لباقي افراد العائلة الكرام وعوائلهم (نضال، ندى، داود)
** مزيدا من الصحة للقائد الانصاري المبدئي الشجاع توما القس (أبو نضال)

 


قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.