التفكير الجديد وحتمية التغيير الجوهري / فهد الريماوي
فهد الريماوي* ( الأردن ) الثلاثاء 22/12/2015 م …
*رئيس تحرير جريدة “المجد” الاردنية…
تهلهلت حكومة النسور وترهلت وتهرقلت حتى باتت تتخاصم مع نفسها، وتتخبط في قراراتها، وتتعثر كالبطة العرجاء في اضيق خطاها، وتسرف في استنزاف ما تبقى من رصيد طاقاتها، وتقدم لمنافسيها ومعارضيها والمتربصين بها افضل الفرص للنيل منها والتهجم عليها.
منذ مستهل عهدها قبل نيف وثلاث سنوات، انطوت هذه الحكومة على جملة عيوب مصنعية ونقاط ضعف جوهرية، اولها تركيبتها او تشكيلتها التي لم تأت من خارج الصندوق المعتاد في سائر التشكيلات الوزارية السابقة، وثانيها صلاحيتها التي انحصرت في الجانب المالي والاداري، ولم تشمل ادنى قدر من الولاية الدستورية والمشاركة السياسية، وثالثها اداؤها الذي بقي متواضعاً وروتينياً وخالياً من التجديد والابداع اللازمين لمواجهة التحديات الجمة التي تحدق بالاردن وتعصف بالاقليم كله.
ورغم ان هذه الحكومة قد اكتسبت صفة ”الحكومة البرلمانية”، واطالت الجلوس على اكتاف الدوار الرابع، وحظيت بدعم موفور من مؤسسات القصر والجيش والامن، الا انها لم تأت بجديد، ولم تُخرج الزير من البير، ولم تكن صاحبة رؤية خاصة او مشروع مميز، ولم تتجاوز او تتفوق على الحكومات السابقة في شيء نوعي يُحسب لها ويُسجل في صفحات تاريخها، بل لعلها اقترفت العكس تماماً حيث ضاعفت الاعباء المعيشية، ورفعت ارقام المديونية، وصادرت المزيد من الحريات السياسية والاعلامية، وزادت من منسوب القلق والتذمر والاحباط وحدة الطبع والمزاج لدى الشارع الشعبي.
ليس معنى ذلك ان حكومة النسور تخلو من المزايا وتفتقر الى المهارات، ولكن معناه ان كل ما امتلكت من مهارة وشطارة ودهاء ظل مقتصراً على خدمة ذاتها، ومنحصراً في تلبية مصلحتها واطالة عمرها.. فهي استاذة في فن استرضاء القمة الرسمية على حساب القاعدة الشعبية، وفي تكتيك تحييد مراكز القوى كي لا تضع العصي داخل دواليبها، وفي لعبة الانحناء امام العاصفة والاختباء خلف القصر، عوض التصدي للدفاع عنه وتحمل المسؤولية، وقت الشدة، بدلاً منه، وفق ما كانت تفعل الحكومات السابقة.
اكثر من ثلاثة اعوام انفقتها هذه الحكومة العادية والرمادية في سرقة الوقت، وتصريف الاعمال، وتسكيج الاوضاع، وتلبيس الطواقي، وادارة العجز والفشل، حيث لا ارضاً قطعت ولا ظهراً ابقت.. لا انجازات حققت ولا تحديات قهرت.. لا جملة مفيدة اضافت ولا جملة معترضة حذفت، وما تراجعها القسري والاضطراري عن رفع اسعار اسطوانات الغاز ورسوم الترخيص سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، والمؤشر المتأخر على منظومة القرارات المرتجلة والمدبرة بليل من وراء ظهر الشعب المطحون.
ليست حكومة النسور وحدها التي آلت الى هذا المآل، وتمخضت عن نتاج هلامي هزيل، بل كل الحكومات السابقة وصلت الى مثل هذه النتيجة، وكل الحكومات اللاحقة سوف تنتهي الى مثل هذه النهاية، ما دامت تتشكل بنفس الذهنية الفوقية، ومن ذات الصندوق المعهود، وبموجب تلك التوصيات والتزكيات الاجنبية، وبدون اقل اعتبار للرأي العام والارادة الشعبية والقوى والاحزاب والتيارات الوطنية.
لا جدال ان هذا النمط من الحكومات التقليدية المتكررة اصبح ينتمي الى الماضي، ويشكل عبئاً ثقيلاً على الحاضر والمستقبل، ويضر ويدمر اضعاف ما ينفع ويعمر، ويلهث خلف الاحداث ويصدع لها، بدل التقدم عليها والتحكم في حركتها والاستعداد المسبق لملاقاتها.
لدينا في الدولة الاردنية جيش مقدام، واجهزة امنية متمكنة، وشعب واعٍ وشديد الحرص على سلامة الوطن برغم اية هنات وملاحظات.. ولعل اضعف حلقات الدولة هي ”حكومات الاقلية” الهابطة علينا بالمظلات، والرابضة فوق قلوبنا وصدورنا منذ زمن طويل، والمسؤولة عن سلسلة الازمات والاخفاقات والمديونيات التي تثقل كاهل البلاد والعباد، والمؤهلة للاقامة في متاحف الادوات القديمة الى جانب الترس والفأس والمحراث الخشبي.
ذات يوم بعيد توقفت مطولاً امام حكمة بليغة للفيلسوف الفرنسي بيار بورديو قال فيها : ”ان اكثر اشكال الاقناع ضراوة، هي تلك التي تفرضها علينا طبيعة الاشياء”، ولعل ”طبيعة الاشياء” ان تقنعنا في الاردن بان هذا الطراز المتهالك من الحكومات الشللية والبيروقراطية لم يعد له مكان في هذا الزمان، سواء حمل اسم ”حكومة برلمانية” او لم يحمل.. كما تقنعنا ان موعد انتاج الحكومات الوطنية النوعية ذات الابعاد الشعبية قد ازف منذ مدة، ولم يعد بالتالي يحتمل المزيد من التأجيل والتأخير.
وسط كل هذه الاحوال المحلية والعربية والاقليمية البائسة والمعاكسة، ومع بدايات العام الجديد الموشك على البزوغ.. نحن في امس الحاجة الى تفكير استشرافي وبانورامي مختلف عما سبق، والى نقلة جدية وشمولية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على ان تنهض بها وتتولى تحقيقها حكومة ”اشغال شاقة” ومهمات ثقيلة تغوص في جوهر قضايانا وعمق ازماتنا، وتطرح برامج ومشاريع نوعية واستراتيجية بعيدة المدى.. ولسنا في وارد حكومة استنادية جديدة فاقدة للعزيمة الوثابة والروح النضالية والرؤية الريادية، ومنشغلة على مدار الساعة بالمستجدات اليومية، والمعالجات الآنية والسطحية، والحسابات الصغيرة المكتظة بالكسور العشرية.
وبالمجمل، مطلوب خطة عمل طموحة، او مشروع استراتيجي شامل، تتشكل على اساسه حكومة وازنة تضم افضل الكفاءات، وتمثل اوسع التيارات، وتمتلك حرية صنع القرارات، وتعتبر نفسها في حالة طوارئ دائمة، ليسهل عليها قهر المصاعب وخوض غمار التحديات.. ذلك لان معظم قضايانا المركزية وهمومنا المتراكمة لم تعد قابلة للمماطلة والتسويف، فكلما اهملناها وتجاهلناها، ازدادت تفاقماً وتعقيداً، واقتربت من ساعة الصفر ولحظة الخطر.
تذكروا اننا قيد التهديد الامني والتسلطي من البغدادي شرقاً ومن نتنياهو غرباً، ورهن التهديد المالي والاقتصادي الداهم بعد تضاؤل المعونات الخليجية، واضطراب حركة الصادرات جراء اغلاق المعابر الحدودية السورية والعراقية.. وليس لنا من مخرج مناسب او علاج جذري لهذا البلاء سوى الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس، والوقوف موقف صراحة وصدق، والمساواة في الغرم والغنم، وقطع دابر الفساد دون تردد، وتطوع المؤسسات السيادية والمراتب العليا لخفض نفقاتها وامتيازاتها حتى تشكل قدوة للناس، وتشمير المواطنين كافة عن ساعد الجد والعمل والانتاج وفق خطة مدروسة ومتدرجة، شأن ما حصل في ماليزيا وكوريا وسنغافورة والصين والهند والبرازيل وبقية الدول التي نهضت بالاعتماد على قوة العمل، وسواعد الشعب، وحصافة ونظافة القيادات.
يبقى في البال، قبل نهاية هذا المقال، خاطر عابر يتمثل في لفت انتباه الحاكمين والمحكومين معاً الى ان رياح ”الربيع العربي” الهوجاء قد كشفت زيف حكومات الولاء المطلق، وفضحت حقيقة جوقات الاعوان والاتباع المنافقين والمتسلقين، واثبتت ان هذه الزمر الانتهازية كانت حريصة على مصالحها الذاتية، وليست مخلصة لاوطانها وقادتها واولياء نعمتها.. ذلك لانها انكرتهم قبل صياح الديك، ونقلت البندقية الى الكتف الآخر فور ان دارت الدائرة عليهم.. والامثلة على هؤلاء المنقلبين كثيرة ومثيرة للغثيان، بدءاً من المدعو رياض حجاب، رئيس وزراء سورية المنشق، ومروراً بالمدعو احمد شفيق، رئيس وزراء مصر الهارب، والرئيس التونسي الساقط المنصف المرزوقي، صنيعة زين العابدين بن علي، والرئيس اليمني الالعوبة منصور هادي،.. وليس انتهاءً بازلام القذافي واركان حكمه من عينة مصطفى عبد الجليل، وعبد الفتاح يونس، وعبد الرحمن شلقم.. الخ.
التعليقات مغلقة.