الرواية الكاملة لاستهداف سمير القنطار في جرمانا

 

كتب محمد الخضر ( الأربعاء ) 23/12/2015 م …

الساعة الحادية عشر والنصف من مساء السبت الماضي، يمرّ خبر صغير على مواقع التواصل الاجتماعي السورية عن إستهداف مدينة جرمانا بأربعة قذائف صاروخية مع وجود إصابات، خبر إعتيادي لا يثير الانتباه، فالبلدة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من دمشق تلقّت أكثر من 5 آلاف قذيفة وصاروخ محلي الصنع وعشرات التفجيرات بعبوات وسيارات مفخخة على مدى خمس سنوات من الحرب.

تمضي ساعتان لا يلقي أحد فيهما بالاً للقصف في ليل حالك تغيب فيه الكهرباء عن معظم أحياء دمشق وريفها… رسالة قصيرة تبدد المشهد برمته .. مدحت صالح الأسير المحرر أيضاً وعضو سابق في مجلس الشعب السوري يسألني بصيغة العارف “ما عرفت شو صار بجرمانا ؟ ساخراً من الخبر الأولي عن قذائف صاروخية، ومضيفاً: في شيء أكبر،ممكن تكون غارة إسرائيلية والهدف مبنى كان يتواجد فيه الأسير اللبناني سمير القنطار”.

الساعة قاربت الواحدة والنصف بعد منتصف الليل ..درجات الحرارة تصل إلى الصفر مئوية ،عشرات العناصر من الدفاع المدني والإسعاف والأمنيين أمام مبنى لا يبعد عن طريق مطار دمشق الدولي أكثر من مئتي متر ..استخرجت الجثة الأولى وكانت لفرحان الشعلان أحد كوادر خلايا المقاومة في الجولان وعضو اللجنة التنفيذية لفرع الاتحاد الرياضي في ريف دمشق والأخرى لشاب يدعى تيسير سوعان… فيما تركز البحث عن جثمان القنطار ..لم يشأ أحد أن يتبنى الخبر .. مع أنه من المؤكد أن الرجل كان في الطابق الثاني من بناء مؤلف من ست طبقات في حي الحمصي الشعبي في مدينة جرمانا.

يرجّح صالح ، وهو أسير سوري سابق في السجون الإسرائيلية ، أن يكون الرجل قضى في القصف، لكن لا يمكن الجزم لأن الدفاع المدني لم يصل للجثمان بعد .. تمضي الدقائق طويلة هذه المرة .. تبدل صفحات التواصل من روايتها للحدث بدأ الحديث عن غادرة إسرائيلة أو قصف صاروخي بعيد ..لكن رواية كاملة لم تصدر أبداً الا بعد صدور بيان حزب الله في ساعات الصباح الباكر من يوم الأحد 20 كانون الاول. تحدّث البيان عن غارة للطيران الحربي الإسرائيلي على مبنى سكني في جرمانا في ريف دمشق ما أدى إلى استشهاد الأسير المحرر سمير القنطار وعدد من المواطنين السوريين. لا بيان أو خبر رسمي سوري عن الاستهداف الذي طال القنطار ..إدانة رسمية من مجلس الوزراء تبعه مجلس الشعب والقيادة القطرية لحزب البعث للجريمة الارهابية حسبما جاء في البيانات الثلاثة ..بعد منتصف النهار صدرت رواية سورية مقتضبة للقصف .. اللافت انها لم تتحدث عن الغارات الإسرائيلية ،تحدثت عن قصف إرهابي صاروخي تسبب بارتقاء البطل القنطار وعدد من الشهداء الأخرين على الأطراف الجنوبية لمدينة جرمانا. الوصول إلى حيّ الحمصي  من قلب العاصمة دمشق لا يتطلب وقتاً طويلاً في ساعات الصباح ..حواجز أمنية وأخرى للدفاع الوطني على مداخل المدينة ..يطلبون البطاقة الشخصية ومهمة العمل ويسجّلون الأسماء وتاريخ الدخول ..أقل من نصف ساعة يستغرقها الطريق الحي ..لا تزال فرق الدفاع المدني عند الساعة العاشرة صباحاً تقوم على إزالة الأنقاض.  يقول ضابط رفيع المستوى يتولى الإشراف على العملية إن البحث عن الجثامين انتهى قبل الرابعة فجراً .. تم رفع جثمان القنطار وكانت أذيته بشكل خاص في جنبه الأيمن وبطنه ..ويضيف منذ ساعات الصباح بدأ العمل لمعالجة الدمار الكبير وإزالة الأنقاض من المكان ..عدد الضحايا المسجّلين كان ثلاثة القنطار والشعلان وسوعان.. وهناك إثني عشر جريحاً منهم ستة تم تخريجهم من المشافي لأن إصاباتهم بسطية والبقية يتلقون العلاج. البناء بدا مدمراً بالكامل وطبقاته فوق بعضها البعض، يتجمع عشرات المدنيين والأطفال في ظل شمس تبدد برودة الطقس ..الشقة المستهدفة  اختفت بشكل كبير باتت أنقاضاً  باستثناء آثار كنبات حمراء اللون، وحدها شاشة تلفزيونية لا تزال معلقة على جدار الطابق الأخير من البناء المدمّر. يروي لي أحد الجيران أنهم ظنوا الأمر بادىء الأمر بأنه قصف بالصواريخ المحلية، لكن قوة الصوت والهزة التي أحدثتها وأصوات الصراخ في الخارج دفعتهم للنزول فوراً .. كان مشهداً رهيباً.. غبار وبناء ضخم بات أنقاضاً. مهندس يقطن في الطبقة الخامسة من بناء لا تفصله عن البناء المستهدف سوى أمتار قليلة يشير الى أن الأمر بدأ بخفوت بضوء ضوء الشاحن “الليدات” قبل أنّ يحدث صوت مفزع وهزة أوقعت لوحات وأصابت باب صالون شقته الفخمة بتأثيها بخلع واضح “أرعب أصوات متتالية لم نقو على الحركة خلالها .. لنر عاصفة من الغبار والدمار في البناء المجاور”. نحيب سيدة تواسي أخرى على حجم الخسارة التي تكبدتها العائلة يبدد صمتاً في شقة تخترقها أشعة الشمس لتبعث فيها الحياة تقول: “خسرت أختي كل شقاء العمر . هذا البناء لزوجها الذي أمضى عمره في أبو ظبي جاء الى هنا وأقام هذا البناء وبات اليوم ركاماً “، يقاطعنا زوجها تعليقا على إنقطاع التيار الكهربائي  .. “تصور لا يحترمون أحداً ولا يقدرّون موقفا  كل هذه المأساة والناس تريد أن تلملم خسائرها وتوضب بيوتها .. وهذا لا يعنيهم كأنهم من كوكب أخر”.

يؤكد الجيران الذين توزعوا على شرفات بعض الشقق المسكونة  معرفتهم بأن القنطار كان يتردد على الشقة المستهدفة .. لكن أحد لا يعرف متى يأتي أو يغادر .. لا مظاهر مسلحة على الإطلاق في البناء او جواره القريب .. باستثناء حواجز لضبط مداخل المدينة ولا تتعلق بالبناء تحديداً وأقربها على بعد نحو مئتي متر..البناء مفتوح على الجنوب على طريق المطار، لا أبنية أمامه بل ساحة واسعة وإلى الطرف المقابل من طريق المطار بلدة بيت سحم التي تسيطر المجموعات المسلحة عليها ودخلت في مصالحة مع الجيش السوري منذ نحو عامين ..تقول إحدى الزميلات الاعلاميات “كيف يتواجد شخص بهذه الأهمية في بناء لا يبعد أكث من 500 متر عن بيت سحم”؟! يجمع الشهود على حدوث وميض قويّ، لكن حريقاً او إشتعالاً للنيران لم يحدث .. يضيفون أن ناراً بسيطة اشتعلت ببعض الأكياس التي وضعت كمتراس في الطابق الأرض للبناء .. لكن الأضرار كانت بفعل قوة الإرتجاج بالدرجة الأولى .. أضرار طالت حوالي خمسة سيارات كانت اثنتان وضعتا في الساحة وأخريان في مدخل البناء .. يهمس آخرون أن حصيلة الضحايا أكبر من ذلك، لكنهم لا يستطيعوا أن يؤكدوا..عنف الضربة وحجم الدمار فقط يدلان على ذلك.

أحد الموظفين تحدث عن امرأة رمتها الضربة عدة أمتار في أحد الممرات الخلفية  في بناء مجاور ..لكن أخرين يشيرون الى أن البناء بذاته لم يكن كله مسكوناً .. وبالفعل لدى الدخول الى البناء المجاور وقد انشغل أصحابه بحصر أضرارهم  نجد شققاً كثيرة إما على العضم لم تسكن وتجهز بعد  أو أنها مهجورة يظهر ذلك من آثار الغبار والحمايات الحديدية التي أتى عليها الصدأ. يوم طويل وقاسي… أسئلة المتجمهرين كثيرة كيف وصلت تلك الصواريخ الى هدفها في حيّ شعبي وضمن شقة صغيرة على بعد نحو 90 كم من الحدود مع فلسطين المحتلة ؟ أبو فرحان الشعلان يجيب على جزء من السؤال وقد انشغل باستقبال المعزين بابنه، الشهيدان ابني والقنطار كانا ملاحقان من “إسرائيل” منذ نحو خمسة أشهر، يبدي الرجل فخره بإبنه الذي قدّم روحه ودمه انسجاماً مع إيمانه بأن إسرائيل هي العدو متحدثا عن بطولاته وتكريس كل وقته وحياته للدفاع عن وطنه.

نغادر جرمانا وسط إزدحام أصبح مطبقاً عند ساعات الغروب، لا شيء يدّل على خوف او قلق بين مئات الآلاف من قاطنيها أو الوافدين إليها، محلات عامرة وشوارع تكتظ بالسيارات، لون الحزن وحده  يلف المنطقة، برد وأصوات مولدت للكهرباء وملامح وجوه متجهّمة، خمس سنوات من الحرب ألقت بثقلها على أرواح السوريين قبل أجسادهم . 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.