رحلة البحث عن حكمت الأمين… / نور الأمين
نور الأمين ( لبنان ) السبت ) 26/12/2015 م …
ها هو الرجل الملتحي ينظر إلينا من جديد، لقد اعتدت على رؤية وجهه ونظراته، ها هو جالسٌ في مكانه المعتاد؛ داخل إطارٍ معلق على حائط. صورته موجودة في كل مكان، في غرفة الجلوس، في بيت جدي، ولدى الأقارب، الصورة ذاتها للرجل الملتحي، بملامحه الهادئة ونظرته الثاقبة. هكذا تعرفت على عمي الدكتور حكمت الأمين من خلال الصورة.
في السنوات اللاحقة أضفت إلى الصورة بعضاً من القصص التي سمعتها. مرت السنوات واحتفظت في داخلي بصورته وبعضٍ من هذه القصص، بالإضافة إلى الكثير من التساؤلات، والفضول لمعرفة الرجل الذي في الصورة، ولمعرفة الطبيب “الإنساني” كما يقولون، ولمعرفة المناضل اليساري خلال أصعب فترات مرت على جنوب لبنان.
كل هذه التساؤلات دفعتني للقيام برحلة من نوع مختلف، للبحث عن حكمت الأمين عشية الذكرى ال26 لاستشهاده. رحلة بدأت قبل شهرين، التقيت خلالها أكثر من 10 مقربين من حكمت، من العائلة، والأصدقاء، ورفاق النضال، تحدثوا بإسهاب عنه، وعن دوره الطبي تحديداً، كما لم يكشف من قبل، بعد أن كان حكمت رمزاً لقضية غامضة، ومن دون أي تفاصيل.
في معظم الشهادات عن حكمت، دوماً الإنطلاقة كانت من الطب. ذلك أنه بعد أن إنتسب في العام 1964، إلى الحزب الشيوعي اللبناني، سافر إلى الإتحاد السوفياتي حيث درس الطب العام، وطب الأطفال، قبل الإنتقال إلى جنيف للتخصص في طب القلب والشرايين، حيث تعرف الى الدكتورة انطونيت، التي أحبته، ولحقت به إلى لبنان حيث تزوجا وعاشا في منزلٍ أهله في كفررمان.
خلال تواجده في الخارج تابع حكمت نشاطه السياسي، حتى عودته في العام 1973 طبيبا. وعلى الرغم من نشاطه السياسي، إلا ان الطب بقي أولوية لديه، فباشر بعد عودته العمل في مستوصف في منزله. ويؤكد من يعرفه أنه من هذا المستوصف بدأت رحلة “الطبيب الإنساني”، كما يصفوه، قبل أن يتطوع ويصبح من الأطباء المداومين في معظم مستوصفات المنطقة، ليكسب ثقة، ومحبة، وإحترام الجميع؛ خصوصاً أن الجميع كان يقصده لشخصه بعيداً عن إنتماءاته السياسية، كما كان يستقبل الفقراء من دون أي مقابل”، ليحصل لاحقاً على لقب “طبيب الفقراء” كما يقول صديقه خليل ريحان.
بعد أن أدرك حكمت “الطبيب” واقع المنطقة في ظل الحرب، قرر في العام 1976 إنشاء مركز طوارئ حرب في منطقة النبطية، تحت إسم “النجدة الشعبية”، عبر تمويل شعبي، أساسه “مشروع الليرة”، وفقاً لصديقه محمد مكه، بحيث تبرع كل بيت بليرة لبدء العمل في المشروع، الذي أصبح لاحقاً حقيقة إنتقلت لاحقاً الى مدن وقرى أخرى.
بعد الإجتياح الإسرائيلي في العام 1978 بقي حكمت، الطبيب الوحيد، لتلبية نداء الإغاثة. ويقول خاله ابراهيم نورالدين: جميعنا غادرنا بينما هو أصر على البقاء، وفي يوم مررنا للإطمئنان عليه، وطلبت منه الإنضمام إلينا، لكنه نظر قائلاً: ” إنت تقول ذلك!، وفي هذه الظروف، وماذا ان وقع حدث ما، لن أغادر، وسأبقى هنا”.
بدأت فكرة إنشاء مستشفى تطرح نفسها بقوة بين حكمت ورفاقه من الحزب الشيوعي اللبناني والنجدة الشعبية. قدمت دراسة لقيادة الحزب، التي اصدرت قرار الموافقة بعد نحو سنتين. سافر حكمت والدكتور محمد حنينو إلى الكويت لجمع التبرعات. واستطاعوا لقاء وزير الصحة الكويتي آنذاك عبد العزيز خلف. وعندما رأى الكويتيون جدية العمل تبنوا المشروع.
بعد إجتياح العام 1982 وخلال عملية بناء المستشفى، تأزم الوضع ووجهت التهديدات إلى المستشفى وإلى حكمت بالإسم ، لكن حكمت “كان شجاعاً ولا يهاب شيء، وكان يلبي نداء أي مريض”، بحسب علي الأمين، قريب حكمت.
بين حكمت الناشط السياسي، وحكمت الطبيب، نجح في المزاوجة، في توقيت حرج سياسياً، بعد أن سيطرت بعد العام 1982 قوى الأمر الواقع على المنطقة، وبعد أن سادت عمليات الإغتيال والتهديد، فتعرض إلى التهديد ومحاولات إغتيال نجا منها، قبل أن يغادر في العام 1986 منطقة النبطية، ليستقر في مركز الحزب في صيدا، حيث تابع عمله الطبيعي.
على الرغم من دوره الإجتماعي كطبيب إلا أن حكمت كان المسؤول عن العلاقات السياسية والإجتماعية في الجنوب في الحزب، لكن حتى الحلقة الضيقة لم تشعر يوماً بأن هذا الطبيب هو ذاته المسؤول عن العلاقات السياسية، خصوصاً أنه لم يكن سعيداً بالمناصب السياسية، بل يفضل عليها دوره كطبيب. ويقول الصحافي حازم الأمين: “كنت أراه دائماً مبتسماً وطبيعياً”. وفي هذا الوقت، الذي كان فيه مبعداً، يلاحق أمور المساعدات ويتأكد من وصولها إلى بلدته، وفق ما يؤكد أخوه أنور الأمين.
اصر حكمت بعد أعوام على العودة. اصراره دفع بقيادة الحزب إلى إصدار قرار يقضي بعودته، رغم تحفظها على خطورة الأمر. وفي 26 كانون الأول من العام 1989، نفذ الحزب الشيوعي عملية ناجحة في تلة برغز. يومها وخلال إجتماع جمع قيادات الحزب الإشتراكي والحزب الشيوعي، تلقى خاله محمد علي نور الدين إتصالاً من حكمت، واتفقوا أن يمر إلى المركز، لكنه خلال الإجتماع حلقت طائرات الإستطلاع فوق المركز فقرروا فض الاجتماع تحسباً. ويقول القائد العسكري في الحزب الشيوعي آنذاك زياد صعب: “أمرت كل من لا عمل له بالمغادرة”. وفعلياً غادر الجميع، لكن حكمت وصل، قبل ثوان من وقوع غارة إسرائيلية استهدفت المركز، لتنهي رحلة حكمت، الطبيب، الأب، الرفيق، الإنسان.
إستشهاد حكمت شكل حالة من الصدمة في الجنوب، خصوصاً أنه راكم خلال عمله كطبيب، محبة استثنائية، يشير اليها كل من التقيت به، بما أنه قدم نموذجاً جديداً من الطبيب، بمفهوم إنساني. وفي يوم التشييع منع موكب التشييع الحاشد من دخول كفررمان، لكن ضخامة الحشد والإصرار دفع القوات الإسرائيلة الى رفع شارة بيضاء على تلة الطهرة، قبل أن تقصف البلدة فور إنتهاء مراسم التشييع.
تحققت أمنية حكمت بالعودة ولكنه عاد إلى مثواه الأخير. بني المستشفى الذي حلم به لكنه لم يحظَ بفرصة دخولها. حملت إسمه وبعد سنوات نصب له تمثال في باحتها، من صنع الفنان شربل فارس، الذي يقول إنه عاش صراعاً لتصوير حكمت الشهيد، الطبيب، الأب، والصديق الذي فقده.
في ذاكرة كثر: حكمت الأمين “الشهيد البطل”، و”حالة لم تتكرر”، و”حكاية”، و”طبيب الفقراء”، و”بطل”، و”طبيب إنساني”، أما بالنسبة لي فهو قدوة. وخلال رحلة البحث حاولت أن أجدك في عيون كل من عرفك، وعرفت أنك لم تكن تبحث عن الألقاب، لكن بالنسبة لي ايضاً أنت “العم”.
التعليقات مغلقة.