“حالة إنكار” … أن تصل متأخراً كأنك لم تصل / عريب الرنتاوي

 

عريب الرنتاوي ( الأردن ) الإثنين 28/12/2015 م …

“حالة الإنكار” التي ميزت أداء كثيرٍ من المعارضات السورية حيال الانتشار الكثيف للسلفية الجهادية بمدارسها المختلفة، ما زالت مستمرة حتى اليوم، وإن بأشكال مختلفة، على الرغم من أن القاصي قبل الداني، بات يعرف تمام المعرفة، أن هذه الفصائل الإرهابية، قد نجحت في اختطاف “الثورة” و”المعارضة” السوريتين على حد سواء، وتمكنت من بسط سيطرتها على أجراء واسعة من سوريا.

في تقرير أعده مركز دراسات سوري “معارض” مقرب من المخابرات التركية، وأمكن الاطلاع على محتوياته وخرائطه، يتبين أن تنظيم “داعش” يسيطر على 43 بالمائة من الأراضي السوري، فيما “المعارضة المعتدلة” تسيطر على 12 بالمائة من من مساحة سوريا، 7 بالمائة منها تخضع لسيطرة “النصرة” التي يعدها المركز فصيلاً معارضاً معتدلاً، لتتوزع بقية الـ 5 بالمائة على فصائل أخرى كأحرار الشام وجيش الإسلام وما تبقى من كتائب “الجيش الحر”.

وحدات حماية الشعب، وبصورة أوسع “قوات سوريا الديمقراطية تسطير على 13 بالمائة من أراضي سوريا، أي بما يزيد عن مساحة سيطرة مختلف المعارضات السورية الأخرى، ومع ذلك لم تجر دعوتها إلى مؤتمر الرياض، بحجة زائفة ظاهرها أنها “موالية” للنظام السوري، أما باطنها، فيتصل بـ “الفيتو” التركي على تمثيل الأكراد في العملية السياسية، بوصفها تنظيمات “إرهابية” من وجهة نظر أنقرة.

التقرير لا يقر للنظام بالسيطرة على بقية المناطق السورية والمقدرة بحوالي 32 بالمائة من المساحة الكلية للبلاد، فهو يدرج 12 بالمائة من هذه المناطق في خانة غريبة عجيبة، عنوانها: لا سيطرة لأحد عليها، ما يُبقي للنظام حوالي خُمس مساحة سوريا فقط، وهذا ما يجري ترويجه في الخطاب الإعلامي المعارض والداعم للمعارضة، على أية حال.

بالمعنى السياسي لهذه التقسيمات، يمكن القول أن داعش والنصرة، التنظيمان المصنفان بإجماع دولي نادر، على أنها تنظيمان إرهابيان، يسيطران على نصف مساحة سوريا، يتميز بكون أجزاء واسعة منه، صحارى وبوادي وقفار خالية، أما النصف الثاني فيتوزع على النظام ومعارضة ديمقراطية، ويتميز باحتوائه على أكثر من 80 بالمائة من الشعب السوري المقيم على أرضه، حيث تبدو مناطق “داعش” على وجه الخصوص، شبه خالية من سكانها الأصليين.

“حالة الإنكار” هذه، وتعمد اللعب بالأرقام وتزويرها إن اقتضى الأمر، ليست جديدة على قوى رفضت منذ بداية اندلاع الأزمة، التحذيرات المتتالية من مغبة قيام الجماعات الأصولية بامتطاء صهوة الاحتجاجات الشعبية، ونجاح الأصولية المسلحة في اختطاف “الثورة” والمعارضة، وهذا ما يبدو مستمراً حتى يومنا هذا.

قبل إغلاق ملف “حي الوعر” في حمص على سبيل المثال، كانت المعارضة تتحدث عن تمركز الجيش الحر في هذا الحي، وحده دون سواه، وكانت الدعوات لوقف “هجمات النظام البربرية” على الحي، تتذرع بحكاية المعارضة “المعتدلة”، ولكن مع بدء تنفيذ الاتفاق وخروج المسلحين، تبين لنا أن هناك أكثر من 300 مقاتل، يتوزعون على “داعش” و”النصرة”، وأن أغلب من غادر هذا الحي هم هؤلاء وعائلاتهم… أسوأ ما في هذه القصة، أن قادة “الجيش الحر” أعربوا من إسطنبول بالطبع، عن دهشتهم لوجود كل هذه الأعداد من “مبايعي” التنظيمين الإرهابيين … لا أدري أين كان هؤلاء، وكيف يزعمون قيادة جيش لا يعرفون مكوناته؟!

أمس، وبصورة مفاجئة، بدأ تنفيذ اتفاق “مخيم اليرموك” وضواحيه الملتهبة، فإذا بـ “داعش” يفاوض على مغادرة ما يقرب من خمسة الآف “مجاهد” محسوب عليه مع عائلاتهم إلى اطراف “تدمر” في الطريق إلى “الرقة”، عاصمة الخلافة، مع أن المتتبع لمجريات أزمة المخيم وجواره، كان يلحظ حجم “التوظيف” للكارثة الإنسانية التي حلّت بـ “مقاومته المعتدلة”، مع إضافة بعد درامي فلسطيني إليها … اليوم، وبعد أن تكشفت الحقائق، رأينا أن المخيم وجواره: القدم والتضامن والحجر الأسود، إنما كانت معاقل منيعة للتنظيم الإرهابي، وأن حكاية “المعارضة المعتدلة” و”الجيش الحر” لم تكن سوى مادة إعلامية جيدة، يجري توظيفها في الحرب النفسية وفي الدعاية السوداء التي امتهنتها بعض الفضائيات، إنفاذا لتوجيهات “غرف العمليات” الأمنية والعسكرية” التي تدير الحرب في سوريا وعليها.

ولن تتسع مساحة هذه المقالة مهما طالت واستطالت، لسرد بقية الوقائع التفصيلية والقصص المشابهة في ساحات أخرى وعلى جبهات أخرى … فمن ينصت للإعلام الذي نصّب من نفسه منصة للدعاية “الجهادية”، يلحظ تعمد الخلط بين الإرهابيين والمعارضين المعتدلين، كما يلحظ التركيز على الأسماء التي تتخفى تحتها الجماعات الجهادية، فيصبح “جيش الفتح” أو “الجبهة الشامية”، بديلاً عن “النصرة” و”احرار الشام”، وتصبح قوافل “الداعشيين” المغاردة لمخيم اليرموك، “قوات معارضة”، وتصبح الحملات التي تستهدفهم، موجهة حصراً ضد “المدنيين الأبرياء”، ويجري تجاهل شبه كامل لقوات “سورية الديمقراطية”، التي تتقدم اليوم صوب الرقة، وتضم الأكراد بالأساس وفصائل محسوبة على المعارضة التي لم تخضع لإملاءات محور أنقرة – الرياض – الدوحة.

“حالة الإنكار” هذه، كانت مكلفة على سورية والمعارضة نفسها، لكن الدعاية المضللة التي رافقتها طوال الأعوام الخمسة الفائتة، لم تعد تجد من يصدقها اليوم، بعد أن تعرف العالم، على طبيعة القوى المصطرعة على الأرض، وأوزان وأحجام كل منها … قديماً قيل: “أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً” … هذا القول أسقطته الأزمة السورية، فالذين اكتشفوا الحقيقة متأخرين أو اعترفوا بها بعد خراب البصرة وحمص وإدلب، لن يصلوا إلى أهدافهم المنشودة على ما يبدو، فقد اجتازتهم عجلة التاريخ والجغرافيا والسياسة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.