خبز أمي ..! / د. زيد حمزة
د. زيد حمزة* ( الأردن ) الثلاثاء 5/1/2016 م …
* وزير الصحة الأردني الأسبق
مثلما حن محمود درويش الى خبز أمه في رائعته الشعرية المعروفة تعبيراً عن حنينه لأمه وكل الوطن، ودونما تمحك بحواف هذا المعنى الجليل إلا بمقدار التشارك في القيمة الانسانية العظمى للأم ، دعوني اليوم استعير الشكل فحسب كمدخل للاعراب عن بعض شوقي لخبز أمي وكل الخبز الذي كان في زمانها سيد موائدنا الفقيرة البسيطة ( المصنوعة من اطباق القش !) لكنه ما عاد في هذا الايام يحمل نفس الطعم الشهي ولا نفس الليونة واللدونة اللتين كانتا تبقيانه قابلاً للمضغ والبلع بيسر حتى عند الاطفال والمسنين .. وقد يبدو هذا الوصف لاول وهلة نوعاً من الخلط بين الحقيقة ووهم الحنين الى الماضي حين كنا أنا واخوتي نساعد أمي احيانا في اعداد الطحين وعجنه و(تقريصه) أي تقطيعه على شكل كتل شبه كروية ثم(رقّه) بالشوبك ليصبح اقراصاً مستديرة بالسماكة المطلوبة لأرغفة الخبز الكماج، ثم صفّه على طبق القش وتغطيته بشرشف وحمله على الرأس الى الفرن ( إذا لم يحضر اجير الفران) حيث يتم خَبْزُه لتفوح رائحته التي لا يدانيها أي عطر في الدنيا ! لكن الوهم – نعلم يقينا – سرعان ما يتبدد وتبقى حقيقة الطعم المختلف عالقة في الحلق، أم هي الشيخوخة بوهنها وصلت كذلك الى حلمات الذائقة على سطح اللسان وما يساندها من خلايا عصب الشم في سقف الانف التي تميز النكهة المثيرة للشهية، لكن ذلك ما أستبعده بمعرفة دقيقة تقع ضمن اختصاصي الطبي ، أم أن القمح الذي كنا نحمله في الماضي الى مطاحننا هو قمحنا الذي نزرعه ونحصده بايدينا ونعرفه لامعاً كالذهب بغير اصباغ ، اما القمح الذي نستورده منذ عقود فالحكومة هي التي تعرفه وتقرر نيابة عنا أن تشتريه لنا بحُرّ مالنا وان يكون ذا نوعية جيدة فهو ليس إحساناً من احد وليس منحة مجانية لوجه الله ، ولا دخل لحكاية الدعم به.
تلك اسئلة مبهمة وشكوك ظلت تحيرني منذ زمان طويل وانا الاحظ ان طعم خبزنا في هذا البلد لا يختلف فقط عن طعم خبزنا في الماضي بل يختلف ايضاً عن الخبز الذي نتناوله في بلاد أخرى كاوروبا وسواها، ولم يتسن لي ان اعرف السبب وانه ليس المحسنات والمنكهات المضافة حتى عدت أخيراً الى مرجعنا الوطني أي المؤسسة العامة للغذاء والدواء التي رسّخت في نفوسنا عبر السنين الثقة بها وبنزاهتها، فاتضح لي انها تقوم بدورها الرقابي متقيدة بقانونها تماما فلا تسمح بادخال القمح المستورد الا اذا كان ملتزماً بشروط المواصفة الاردنية حسب ال ( Codex Alimentaris ) في دستور الغذاء العالمي ودستور الغذاء الاوروبي وال ISO ، التي تؤهله لان يكون صالحاً للاستهلاك البشري بخلوه من الشوائب والعفن والسموم والحشرات والقوارض والاصباغ والكسر الزائد عن الحد المعين وتُخضعه لاثنى عشر فحصاً مخبريا بما فيها الحسي الفيزيائي ، أما (الجودة) وهي مربط آخر للفرس، فقد تبين لي أنها تتعلق بوجود البروتين في القمح وهو المعروف بالغلوتين Gluten وتشترط المواصفة الا تقل نسبته عن 74 % لكن وزارة الصناعة والتجارة تقبل في عطاءاتها بنسبة أدنى قد تهبط احيانا الى 60 % ولا تعاقب المستورد على مخالفته برفض الشحنة بل تكتفي بعقوبة مالية يدفعها ولا يأبه بان يكرر كل سنة استيراد نفس الانواع من القمح هابط الجودة مع سبق الاصرار والترصد ، مما يشكل مؤشرا مريبا على ان وراء الاكمة ما وراءها.
وبعد.. صحيح ان ضعف نسبة الغلوتين في القمح لا يشكل خطراً على صحة المواطنين لكنه يجعله اقل قيمة غذائية كما يؤثر على قوام العجين (الحيل) ولُزوجته وتلاصقه ولُدونته ويتسبب في تغير طعم الخبز وسرعة جفافه حد الهشاشة والتيبّس والتكسّر، لكن الصحيح ايضاً أن من حق المواطن أن يتأكد من مستوى جودة هذا الغذاء الذي يتناوله يومياً ويدفع ثمنه ( حتى المدعوم منه) وان يطالب الحكومة بان تلغي عقوبة الغرامة المالية على المستورد وان تتمسك بشروط الجودة وتصر على رفض اي شحنة قمح مخالفة لها ..
التعليقات مغلقة.