نصّ إبداعي من الداخل الفلسطيني … رحلة في ربوع السهل الأخضر! / فتحي فوراني

 

فتحي فوراني ( فلسطين ) الخميس 7/1/2016 م …

(إلى الأحبة والأصدقاء في “عرّابة” الزمن الجميل)

فكيف للإنسان أن يحب شيئًا لا يعرفه؟! وكيف نعشق وطنًا إذا كنّا لا نعرف ملامحه ولون عينيه الكحيلتين؟! كيف نعشقه إذا لم نعرف ناسه وعاداتهم وتقاليدهم وفولكلورهم وحكاياتهم الشعبية؟

*كيف نعشق وطنًا لا نعرفه!؟*

من جميع أنحاء الوطن.. جاؤوا..

من أقصى الشمال وحتى بئر السبع.. إلى المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة.. جاؤوا..

وأهل الناصرة يفتحون قلوبهم وبيوتهم لاستضافة طلائع الأجيال الصاعدة الذين تغرّبوا وجاؤوا لكي يشقوا الطريق ويبنوا مستقبلهم العلمي.. ويحققوا الأحلام!

كان بيتنا المتواضع موئلًا دافئًا لإخوتي وأصدقائي وزملائي وأحبتي طلاب القرى الذين يسكنون في غرف مستأجرة في مدينة البشارة. وكانت والدتي -رحمها الله- تقوم بواجب الأمومة تجاه الضيوف “المغتربين” وتعاملهم معاملتها لأبنائها.. فيشعرون أنهم في بيتهم وبين أهلهم. إنهم أصدقاء ابنها.. إنهم أبناؤها!

**

من ضمن هؤلاء الأصدقاء والزملاء والأحبة.. كانت تربطنا علاقة مميزة مع “الجبهة العرّابية”. هؤلاء من عرّابة البطوف جاؤوا!

 ويأبى “العيش والملح” إلا أن يلبي الدعوة.. فنشدّ الرحال إلى الشمال ونحلّ في عرابة البطوف.. ونتعرف على أهلنا وأبناء شعبنا هناك.. ونتعرف على وطننا الذي لا نعرفه!

**

نسمع بسهل البطوف وبطيخه البلدي.. أشهر البطيخ حلاوة وحمرة في هذا الوطن الطيب..

وفي المواسم الخضراء يمدّ سهل البطوف يده الحاتمية.. فيبعث إلينا كل سنة بالوفود الخضراء التي تصبّ في ساحة ترابية مقابل عين العذراء.. هناك تنتصب تلة جميلة عالية زاخرة بالكنوز الحمراء. ويكون الصفوري أمين أبو نعاج.. حارسًا هذه التلة الخضراء!

*نعترف بجهلنا.. علمًا ومعرفة وتجربة!*

نسمع بعرّابة البطوف.. قرية بعيدة من قرى الشمال.. تختبئ بعيدًا بعيدًا وراء الجبال!

ونسمع بطيبة أهلها وذكاء أبنائها.. ولا نعرف إلا كوكبة تعدّ على أصابع اليدين من زملاء الدراسة في المدرسة الثانوية البلدية التي خرّجت من معطفها أجيالا تلو أجيال وأرسلتهم سفراء إلى هذا الوطن وإلى جميع أنحاء الدنيا!

ونعترف أننا مقصّرون في معرفة الوطن.. فالطريق طويل.. ونحن بحاجة إلى الكثير من “فتّ الخبز” علمًا ومعرفة وتجربة وانفتاحًا على الدنيا.. ولدينا رغبة جامحة لتصفية الحساب مع الثقوب الثقافية والمعرفية التي تحاصرنا من الجهات الأربع.

فكيف للإنسان أن يحب شيئًا لا يعرفه؟!

وكيف نعشق وطنًا إذا كنّا لا نعرف ملامحه ولون عينيه الكحيلتين؟!

كيف نعشقه إذا لم نعرف ناسه وعاداتهم وتقاليدهم وفولكلورهم وحكاياتهم الشعبية؟

كيف نحبّه إذا لم نملأ خوابينا من زيته.. ونأكل من خبز طوابينه.. ونملأ أصابعنا من شوك صبّاره؟!

وكيف ندافع عنه إذا لم نستظلّ بظلّ صنوبره ونملأ رئتينا بنسيمه العليل؟!

وكيف ندافع عنه إذا لم نزرع أرضه قمحًا ووردًا وعلتًا وصبرًا وزعترًا وتينًا وزيتونًا!؟

وكيف ندافع عنه إذا لم نمتع أنظارنا بجمال سهوله ووديانه وجباله وأنهاره وآثاره التاريخية والحضارية؟!

وكيف.. وكيف.. وكيف!؟

*شدّوا الرحال.. إلى الشمال!*

أربعة أصدقاء من طلاب الصف الحادي عشر العلمي يشدّون الرحال ويركبون المغامرة إلى “عالم وراء الضباب”!

إنه الشمال.. شمال الوطن.. جنة الله على الأرض في وطن الآباء والأجداد!!

من الناصرة ينطلق الفتية.. فينزلون في المحطة الأولى.. قانا الجليل..

أمامنا سرب من شجر الصبّار يشكل سورًا طبيعيًا من صنع رب العباد.. ويقف حارسًا على البوابة الجنوبية لسهل البطوف. ويروي الرواة أنه يعود إلى عهد عاد.. وهو سياج طبيعي تزينه أكواز الصبر الخضراء والبرتقالية التي تحتضن الحواكير الكناوية..

هنالك ثغرة بين صبرتين تحولت إلى “بوابة” طبيعية تفضي إلى سهل واسع الصدر.. من أجمل سهول الوطن!

يجتاز الفتية “حاجز الصبر”.. فيمسكون بطرف الطريق المؤدي إلى السهل الواسع الذي يفتح صدره على مدّ النظر.. من هذا السهل ينبعث فوح مقاثي البطيخ والشمّام.. وتراب الوطن الأسمر!

إنه سهل البطوف.. لوحة رسمها فنان بريشة مغموسة من خضرة تقف أمامها مصلوبًا على مشارف الدهشة!

*ويجهز الأصدقاء على “الضحية” الحمراء ذات الرداء الأخضر!*

وتبدأ الرحلة السهلية الخضراء.. مشيًا على الأقدام!

وتسير قافلة الفتيّة.. ميمّمة شطر القرية التي تطمح لأن تصبح “مدينة” والتي تربض هناك بعيدًا بعيدًا.. في أعالي جبال الجليل..

– هناك! “خبط العصا”.. حوالي عشرة كيلومترات!!

يشير الصديق المرشد بإصبع يده اليمنى.. وينصب كفّ يده اليسرى فوق جبينه مظلّة لعينيه المتعبتين.. ويتابع:

– هناك.. وراء تلك الجبال..

**

يسير الفتية.. في الربوع الخضراء..

الطريق مزروعة محطات محطات.. وفي كل محطة “يلقون عصا الترحال”..

– من أين الشباب؟ تفضلوا.. إستريحوا.. أهلا وسهلا!

وينطلق العربي الأصيل حارس المقثاة إلى بطيخة “وسيمة” تبدو على ملامحها آثار العزّ.. “فيَروزها” ويقلّبها بيديه ويلطمها على خدها لطمات ناعمة.. ثم يلامسها ويداعبها ويدغدغها ويغازلها فاحصًا مدى أصالتها ومدى صلاحيتها لتقوم بواجبها و”تبيّض وجهها” تجاه الضيوف القادمين من المدينة.. من الناصرة!

وهل يمكن أن يكون الحارس النبيل غير ذلك؟

– ألله.. ما أطيبها!

  ويجهز الأصدقاء على “الضحية” الحمراء ذات الرداء الأخضر! تتوزع “الخطيئة” في “رقاب” الفتية الأربعة! ويسدل الستار.. ويا دار ما دخلك شر!

وتسقط البطيخات واحدة تلو أخرى.. شهيدة تلو شهيدة.. يطول الطريق.. وتطول قائمة “الشهيدات”!

 

 

 

 

*هلمّ أيها الأبشيهي ولا تدع الفرصة تفوتك!*

تمضي خمس ساعات.. ويستريح “السيارة” في محطات محطات.. فيحطّون رحالهم في واحات ظليلة.. تزينها عرائش البطيخ.. فينزلون أهلا ويطأون سهلا.. كل عريشة ولها حارسها ولها بطيخها.. ولها شمامها.. ولها قهوتها السادة.. ولها حاتمها الطائيّ!

عريشة البطيخ.. مملكة صغيرة عامرة.. محدودة الأطراف ونبع ثرّ من الطرائف الفولكلورية.. شربة ماء من إبريق الفخار.. أو الشَّربة.. فنجان عبّادي يحتضن “المحبوبة السمرا”.. ألقهوة السادة سيدة اللقاء ولا سيدة بعدها.. إستراحة.. نسيم البطوف العليل.. دردشات.. حكايات.. طرائف شعبية.. حياة القرية.. حياة المدينة..

هنا نلتقي فصلًا آخر من “المستطرف في كل فن مستظرف”.. لم يكتبه الأبشيهي بعد..

هلمّ أيها الأبشيهي ولا تدع الفرصة تفوتك!

وتنزف “دماء” البطيخ على طول الطريق التي تشق صدر السهل الواسع إلى عرابة!

– هناك.. في الأفق.. على رأس الجبل.. لقد اقتربنا!

*نحن على موعد مع الخيول العربية الأصيلة!*

ومن بعيد نلمح الخيول العربية الأصيلة “ترمح” وتعدو بخيلاء فوق التلال العرّابية!

أخيرا وصلنا.. وحططنا الرحال!

ننظر إلى مشارف القرية.. نحن على موعد مع الخيول العربية الأصيلة!

**

هل أحدثكم عن ديوان الشيخ إبراهيم السعدي؟

هل أحدثكم عن “المفكر” الذكي وخفيف الظل جمعة الخطيب؟

هل أحدثكم عن “علبة التتن” حليفة المعسكر السوفييتي التي قدمت شهادة دامغة ودليلا قاطعًا على تفوّق “روسيا” على أمريكا؟

في المرة القادمة.. لنا لقاء مع هؤلاء الأحبة!

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.