دخول «داعش» إلى المشهد الفلسطيني… الضربة القاضية على «القضية»!
الأردن العربي – حسين طليس ( الثلاثاء ) 12/1/2016 م …
لا نبالغ إذا ما قلنا ان عنق القضية الفلسطينية وضع اليوم في المقصلة بإنتظار أوامر الإعدام.
قد لا يكون الحديث عن “مؤامرة القضاء على القضية الفلسطينية” أمرًا جديدًا، ولطالما كان ذلك الهدف الأكبر الذي يسعى العدو الإسرائيلي لبلوغه منذ نشأة كيانه، لكن الواقع القائم اليوم، وما استجد من تطورات، تفرض الإعتبار أنّ “إسرائيل” باتت في أقرب مراحل بلوغ هدفها. حيث المعطيات المساعدة، التي لم تتوفر في أقسى الأوقات التي مرت على القضية الفلسطينية. حتى زمن “المصالحات” العربية – الإسرائيلية، لم يكن بهذه الخطورة. فحينها لم يكن لـ”إسرائيل” والفلسطينيين معًا.. “داعش”.
في أقل من شهر واحد، أجرى تنظيم “الدولة الإسلامية” الإرهابي، تعديلًا جوهريًا في عقيدته المعلنة، حوّل بموجبه أولوياته “الجهادية” من تأجيل المعركة مع “إسرائيل” إلى حين القضاء على “أعداء الداخل” المتمثلين بـ”الروافض الشيعة” و”المرتدين” و”الطغاة” وغيرهم ممن يشملهم “حدّ داعش”، إلى تهديد ووعيد بتحويل فلسطين الى مقبرة لليهود. هكذا ومن دون مقدمات قالها البغدادي متوجهًا إلى “إسرائيل”: “إننا نقترب منكم يومًا بعد يوم”.
تصريحات البغدادي أثارت موجة من التساؤل المشكك في صدق نوايا التنظيم، وقد صبّت معظم الأجوبة في خانة الحشد والإستقطاب الذي يمارسه التنظيم إعتمادًا هذه المرة على جاذبية القضية الفلسطينية، وذلك بعد الضربات التي تلقاها مؤخرًا في سوريا والعراق. فيما غلب على التحليلات إستبعاد تنفيذ تلك التهديدات، إنطلاقًا من قناعة تفيد بأنّ التنظيم يعمل وفق أجندة صهيونية ومن المستحيل أن يقدم على استهداف “إسرائيل”.
إلّا أنّ ما جرى منذ يومين في مصر، ولم يحظَ بإهتمام إعلامي مناسب، خالف التوقعات، “داعش” إستهدفت “إسرائيل” بالفعل. علنًا وعبر وكالة أنباء تابعة لها (أعماق)، تبنّت داعش إستهداف حافلة سياح إسرائيليين (أغلبهم من عرب 48) بعدة أعيرة نارية لم تحصد قتلى، لكنها استثمرت في سياق “الإستجابة لنداء الخليفة أبو بكر البغدادي بإستهداف اليهود”، حسب ما أعلنت الوكالة، وهو ما يحمل إعلاميًا الرسالة نفسها حتى وإن لم تكن دموية بما يكفي، وتفيد أن التنظيم جاد في تهديداته. فما الذي تبدّل حتى استغنت داعش عن التأسي بـ”صلاح الدين” الذي حارب “الروافض” قبل دخول فلسطين لمحاربة “الصليبيين”؟ وماذا عن الأجندة الصهيونية التي حالت دون استهداف “إسرائيل” كل تلك المدة؟
إذا ما ابتعدنا عن التحليلات السياسية المأدلجة، والتي غيبت فرضية إستهداف التنظيم الإرهابي لـ”إسرائيل” لارتباطه بها، فإنّ دخول “الدولة الإسلامية” إلى الساحة الفلسطينية، أمرٌ متوقع، بل جاء متأخرًا نسبةً للمعطيات التي جعلت من القضية الفلسطينية تربةً خصبة لـ”تمدد” التنظيم. حيث أن إستثمار “الإحباط” يعتبر من أساسيات أي فكر إرهابي متطرف، يسعى للإنتشار وإيجاد البيئة الحاضنة، في حين أن الشعب الفلسطيني محبط بالفعل.
عقود طويلة من التخلي العربي والدولي عن الفلسطينيين وقضيتهم، بلغ ذروته في السنوات الخمس الماضية، مع إنشغال شعوب العالم العربي بمستجدات “الربيع” الذي عصف بالمنطقة وجعل من فلسطين “القضية المنسية”، ليصل إلى حد “التجاهل المعلوم” في الأربعة أشهر الأخيرة، أصاب حتى أصحاب القضية أنفسهم، ليتخلى الفلسطينيون عن بعضهم في سبيل ملفات محيطة باتت أكثر جذبًا وأصلح للإستثمار.
أربعة أشهر، والشباب الفلسطيني يعدم في الشوارع بشكل يومي وعلني. أطفال ينزفون حتى الموت أمام عدسات الصحفيين وأحذية المستوطنين، يذلّون وينكل بهم، وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم. إستبداد بوليسي إسرائيلي حوّل تنقلات الفلسطينيين في شوارعهم إلى معاناة يومية، وملأ السجون والمحاكم برماة حجارة قاصرين، فيما الإستيطان مستمر باجتياح أراضيهم ولا أفق واضح لأي عملية “سلام”.
كل ذلك وسط صمت دولي وعربي معهود، وبات اليوم محليًا مفاجئًا من قبل الفصائل المسلحة التي لم تبادر إلى إطلاق طلقة واحدة في سبيل نصرة “المنتفضين” من الشعب الفلسطيني. 150 شهيدًا منذ اندلاع إنتفاضة السكاكين، أعدموا رميًا بالرصاص في الشوارع والأزقّة، لم يدفعوا أي تنظيم مسلح ممن يستمدون شرعية بقائهم ونشاطهم من فكرة “مقاومة الإحتلال”، إلى تحريك ساكن ازاء ما تمارسه حكومة الإحتلال بحق أبناء الضفة الغربية وغزة.
بل على العكس، ففي حين أنّ حركة “حماس” اكتفت بإطلاق بيانات “الإدانة والمباركة”، متفرغّة للإنغماس في الملفات الإقليمية بعد أن قدّم قادتها السياسيون الإنتماء “الإخواني” على الإنتماء الفلسطيني المقاوم، فإنّ السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، ذهبت في التواطؤ عبر “تنسيقها الأمني” إلى حد قمع التظاهرات ضد الإحتلال واعتقال أعداد كبيرة من الناشطين المشاركين فيها، والتبليغ عن منفذي عمليات الطعن. الأمر الذي ترك الفلسطينيين أمام خيار السيارة أو السكين، للإنتفاض على واقعهم أولًا، ثم على الإحتلال وممارساته.
وسط هذا الواقع، تدخل داعش على الساحة الفلسطينية، من الباب العريض عبر إستهداف العدو الإسرائيلي، لتقدم نفسها خيارًا ثالثًا أمام الفلسطينيين إلى جانب الدهس والطعن، ونصيرًا في زمن التخلي، علها تجد التعاطف والتأييد اللازمين للإستثمار في القضية الفلسطينية، وأسر قلوب الفلسطينيين والعرب بنغمة “الجهاد ضد اليهود”.
لا شك أنّ تلك الخطوة ستعيد ترتيب المفاهيم القائمة، وقد تعيد تكوين النظرة العامة إلى التنظيم الإرهابي، في ظل مجريات إقليمية باتت الطائفية والمذهبية فيها صبغةً طاغية ومعيارًا أول في تحديد واتخاذ أي موقف. وللأسف، فإنّ نمط التفكير الذي ساد في المنطقة، وجد طريقه الى المجتمع الفلسطيني، فقسم المقسم، واختلف الفلسطينيون في نظرتهم الى الملفات، وفي حين بات البعض ينظر إلى حزب الله وإيران مثلًا على أنهم “الشيعة” الذين “يقاتلوننا نحن السنة”، بعد أن كان يرى فيهم البقية الباقية للقضية الفلسطينية، فلا شك أنّ هذا البعض، سيجد في داعش أملًا للقضية الفلسطينية وحاميًا لـ”أهل السنة”، فيشكل البيئة الحاضنة.
لا شك في أنّ الرهان على الوعي الفلسطيني، لا زال يمثل أملًا في تبديد الرغبات الداعشية، وإغلاق الطريق على طموحات المتطرفين، إلا أنّ لـ”إسرائيل” كلامًا آخر، قد لا ينفع معه إحصاء نسبة استجابة الفلسطينيين للمخطط، إذ يكفي حكومة العدو، عملية واحدة تلحق الضرر المطلوب في الداخل الإسرائيلي، وتحقق الصدى المرجو عالميًا ومحليًا، لتكون قد حجزت حصتها الأكبر من التحولات الإستراتيجية التي تعصف بالمنطقة كلها، عبر القضاء على القضية الفلسطينية إلى الأبد.
لطالما كانت “شيطنة” القضية الفلسطينية، هدفًا دائمًا لـ”إسرائيل”. وقد بذل الصهاينة جهودًا كبيرة طيلة عمر الصراع العربي الإسرائيلي، في سبيل نزع الصفة التحررية عن المقاومة الفلسطينية، وإلباسها لبوس الإرهاب، من أجل سلبها التأييد الشعبي العربي والعالمي الذي تحظى به، وتبرير استهدافها بشتى الوسائل الإجرامية حتى القضاء عليها. وقد شهدت المرحلة الماضية سعيًا إسرائيليًا حثيثًا، في سياق حملة التشويه، لربط المقاومة الفلسطينية بالإرهاب الذي ضرب المنطقة، وتشبيه عملياتها بالممارسات الإرهابية، ورصدت لذلك جهود كبيرة، ظهرت في التصريحات الرسمية، حيث ما فتئ رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو يقارب ويقارن عمليات المقاومة الشعبية في فلسطين بممارسات التنظيمات الإرهابية، وكذلك فعل وزراء حكومته في تصريحاتهم، التي كان آخرها تناول عملية الهجوم على مقهى في تل أبيب، إنطلاقًا من تشبيهها بالعملية الإرهابية التي طالت مقاهي باريس مؤخرًا. كذلك فقد فاض الإعلام الصهيوني بتلك التشبيهات، وسعت التقارير الصحفية سعيًا كبيرًا لأجل ترسيخ تلك الصورة، لا سيما في تعليقهم على عمليات الطعن. حتى ان الإعلام العالمي دخل تلك الحملة، وأبرز فصولها كان الصورة التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، تظهر عنصرًا من كتائب القسام إلى جانب صورة أخرى للإرهابي الداعشي “جون”، في إطار استعراض التشابه لما أسمته “الإسلام الراديكالي” وممارساته. وإنطلاقًا من هنا يمكن فهم الأثر الذي سيتركه دخول داعش على المشهد الفلسطيني.
إن اليوم الذي سيشهد عملية نوعية لداعش داخل الأراضي المحتلة، سيكون “اليوم الموعود” بالنسبة لـ”إسرائيل”، وقد تقوم هي نفسها بتعبيد الطريق امام التنظيم الإرهابي، ومن يرى مبالغة في الغوص بـ”نظرية المؤامرة” عليه مراجعة تاريخ الموساد الإسرائيلي، وعملياته التي نفذها ضد اليهود أنفسهم، لأسباب متعددة، كان أبرزها دفع اليهود للهجرة إلى “إسرائيل”، أو تحصيل تعاطف عالمي، أو حتى تأمين ذرائع لشن الحروب.
عندما تضرب داعش، ستقوم “إسرائيل” بارتداء الزي المفضل لديها، ثوب الضحية التي تبرع تاريخيًا في لعب دورها، ولطالما حققت من خلالها معظم مكتسباتها، وبنت عليها مظلوميتها المزعومة. في اليوم نفسه ستخرج “إسرائيل” بقبضتها الإجرامية، لتضرب مفاصل القضية الفلسطينية، وتشيطن مقاومتها، وتشوه سمعتها، حاشدةً غطاءً وتأييدًا دوليين، مستندةً على مزاج عالمي بات يتخذ من مكافحة الإرهاب أولوية لا يسبقها أي اعتبار أو ملف، لتوجه ضرباتها ضد عدو مشترك بين كافة الدول، أجمع أقطاب العالم على مواجهته. فيما الواقع سيكون استهدافًا لكل نفسٍ مقاومٍ في فلسطين، وسيبيح أي اسلوب قمعي دموي سيستخدم ضد الفلسطينيين، وسيستمر هذا النهج حتى القضاء النهائي على أي أمل من القضية الفلسطينية، ويسرع في ابتعاد العالم عنها ونبذها، في وقت تعاني فلسطين من التجاهل أصلًا، وتتحول قضيتها إلى اهتمام ثانوي، وترف نضالي أمام “طحن العظام” الجاري إقليميًا، لتنتهي القضية الفلسطينية عند مشهد ربط مصيرها بمصير الإرهاب في المنطقة، وبالتالي حتمية الزوال ولو بعد حين.
التعليقات مغلقة.