مقاطعة «إسرائيل»: إرادة ووعي / سماح إدريس

 

    سماح إدريس ( لبنان ) الأحد 17/1/2016 م …

    تواجه دولةُ الكيان الصهيونيّ منذ عشر سنواتٍ مقاومةً من نوعٍ جديد، هي المقاطعة. لكنّ المقاطعة ليست على جدولِ أعمالِ الغالبيّة الكاسحة من العرب، أفرادًا وأحزابًا ومؤسّساتٍ وأنظمة، وإنْ لاكتها بعضُ الألسن من قبيل “رفْع العتب.”

أحدُ تقارير الأمم المتّحدة حدّد انخفاضَ الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة في الاقتصاد الإسرائيليّ سنة 2014 بـ 46% مقارنةً بالعام الذي سبقه (كانت الاستثمارات حوالى 12 مليار دولار فصارت 6.4 مليار دولار). وعزتْ د. روني ماينوس هذا الانخفاضَ إلى سببيْن رئيسيْن، أحدُهما تنامي مقاطعة إسرائيل في العالم (والسببُ الآخر هو الحربُ على غزّة).(1) تقريرٌ حكوميّ إسرائيليّ تخوّف من أن يؤدّي عملُ حركة المقاطعة العالميّة ( BDS) إلى أن تخسر إسرائيل 1.4 مليار دولار كلّ سنة.(2)

الشركات الداعمة للكيان الصهيونيّ يُمنى بعضُها بخسائرَ فادحة، ولاسيّما في العاميْن الماضييْن. فيوليا ( Veolia) الفرنسيّة العملاقة تعرّضتْ لدعوات مقاطعةٍ عالميّة، طوال 6-7 سنوات، بسبب عملها على البنى التحتيّة داخل المستوطنات “غيرِ الشرعيّة بموجب القانونِ الدوليّ نفسه،”(3) فخسرتْ عقودًا بقيمة 23 مليار دولار،(4) وهو ما دفعها إلى وقفِ كلِّ عمليّاتها في الكيان المذكور. أمّا شركة جي 4 أس ( G4S)، التي تزوّد العدوَّ بأنظمةِ حمايةٍ ومعدّاتِ أمنٍ للسجون والمعتقلات وحواجز التفتيش،(5)فقد نالت نصيبَها من المقاطعة، إذ سَحبتْ مؤسّسةُ غيتس استثماراتِها منها (وتقدّر بـ 170 مليون دولار)، وصوّتتْ 5 اتحاداتٍ طلابيّة في المملكة المتحدة لفسخ العقودِ معها، كما سحبت الكنيسةُ الميثوديّة الأميركيّة استثماراتِها منها، فاضطرّت الشركة إلى أن تعلن في العام 2014 أنّها “لا تتوقّع أن تجدّد” عقدَها مع مصلحة السجون الإسرائيليّة عند نفاده سنة 2017، وأنّها ستنهي “بعضَ أعمالها” في المستوطنات.(6) أما سي.آر. أم ( CRM)، وهي أكبرُ شركة عالميّة في إيرلندا، فقد سحبتْ 25% من استثماراتها من سوق الإسمنت الإسرائيليّة نتيجةً لحملات المقاطعة. ومؤخّرًا، وبعد سبعة أعوام من عمل أنصار فلسطين في فرنسا ومصر وتونس والمغرب ولبنان وغيرها، أعلنتْ “أورانج” ( Orange) الفرنسيّة أنّها تنوي قطعَ علاقاتها الشهر القادم (شباط 2016) بشريكها الإسرائيليّ للهواتف النقالة (بارتنر).(7)

وفي الميدان الثقافيّ والفنّيّ توالت الضرباتُ القاسية لـ “سمعة” إسرائيل في العالم، وهي التي تباهت منذ تأسيسها بأنّها واحةٌ للعلم والتقدّم والإبداع والموسيقى والحضارة وسط شرقٍ إرهابيٍّ ومتخلّف. ومن بين آخر إنجازات المقاطعة في هذا المجال توقيعُ حوالى 1000 فنّان ومثقّف بريطانيّ(8) على عريضةٍ يتعهّدون فيها بألّا “يَعْزفوا أو يَقْبلوا جوائزَ أو يَحْضروا معارضَ أو مهرجاناتٍ أو مؤتمرات، أو أن يديروا صفوفًا جامعيّةً أو ورشَ عملٍ، [في إسرائيل]، حتى تحترمَ إسرائيلُ القانونَ الدوليّ وتنهي قمعَها الكولونياليّ للفلسطينيين.” جاء ذلك بعد أن وقّع 500 فنّان في مونتريال سنة 2010 (9)عريضةً بتأييد حركة المقاطعة ( BDS)، ومثلهم فعل فنّانون في إيرلندا،(10) وفي جنوب أفريقيا.(11) كما أيّدتْ 9 جمعيّات أكاديميّة أميركيّة المقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل، كان آخرها “الجمعيّة الأنثروبولوجيّة الأميركيّة”(12) ( AAA).

***

السطور القليلة السابقة ليست لسردِ ما حقّقته حركةُ المقاطعة ــ فهذا سيحتاج إلى ملفّاتٍ خاصّة، كنّا قد بدأناها في الآداب قبل أعوام. لكنْ حسبُنا أن نقول إنّ العدوّ توقّف عن المكابرة بشأن المقاطعة، وكفّ عن الاستهتار بها، وبدأ يعبّر بشكلٍ واضحٍ عن التهديد الجدّيّ الذي تشكّله لازدهاره بل لوجوده أيضًا،(13) إلى حدّ أنّ الكنيست الإسرائيليّ سنّ قانونًا لمحاربة المقاطعة،(14) وعُيّن وزيرُ الأمن والشؤون الإستراتيجيّة مسؤولًا عن ذلك. كما يضغط اللوبي الصهيونيُّ في الغرب على الهيئات التشريعيّة لاستصدار قوانين ضدّ مقاطعة الكيان المذكور؛ وعلى سبيل المثال تمّ منذ أيّامٍ قليلة اقتراحُ قانون في نيويورك بإعداد “لائحةٍ سوداءَ رسميّة” بكلّ مقاطعي إسرائيل، بحيث يُمنع كلُّ الموجودين على هذه اللائحة من الشراكة مع أيّ مؤسسةٍ حكوميّةٍ أميركيّةٍ، ومن الاستفادة من دعمها الماليّ، ما لم ينصّوا بشكلٍ واضحٍ على أنّهم “غيرُ منخرطين في مقاطعة إسرائيل.”(15) كما يكفي أن نورد أنّ رئيسَ وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو ذكر، أمام مؤتمر إيباك ( AIPAC) في مارس 2014، اسمَ حركة المقاطعة العالميّة   BDS 18 مرّةً،(16) واصفًا إيّاها بأنها حركة “معادية للساميّة.”

***

ولكنْ أين نحن العربَ من كلّ هذا؟

الحق أننا كنّا، إلى ما قبل أعوامٍ قليلة، الطرفَ الأضعفَ في مقاطعة “إسرائيل،” مع أننا الطرفُ الأكثرُ تلقّيًا لعدوانيّتها الدمويّة والتهجيريّة والعنصريّة. وهذا يعود إلى جملة أسبابٍ، أهمُّها:

1) تفكّك جامعة الدول العربيّة، وتحوّلُها، على نحوٍ متزايد، إلى ملحقٍ لسياسات أنظمة الخليج بشكلٍ خاصّ. هذه الجامعة كانت فعّالةً طوال عقود، بدءًا من تأسيس الكيان سنة 1948 إلى تاريخ توقيع أوسلو (1993)، في إلحاق أضرارٍ بالغةٍ بالاقتصاد الإسرائيليّ نتيجةً لمقاطعة الشركات الإسرائيليّة والداعمة لإسرائيل “من الدرجتين الثانية والثالثة.” أما اليوم فتكاد مكاتبُها المخصّصةُ للمقاطعة في بعض الأقطار العربيّة تتحوّل إلى شبهِ هياكلَ عظميّةٍ، باستثناءاتٍ قليلةٍ وظرفيّة.

2) توقّفُ القضيّة الفلسطينيّة عن أن تكون، ولو لفظيًّا، “القضيّة المركزيّة للأمّة العربيّة” على الصعيد الرسميّ. ونشهد اليومَ مساعيَ جديّة متصاعدة لإحلال “الفرس الصفويّين” في مركز العدوّ الأول للعرب والـ”عروبة.”

3) طغيانُ حالٍ من اليأس الشعبيّ من قدرة العرب على التحكّم في مصيرهم. نحن اليوم، ولا ينفع الأسف، مجموعاتٌ مشتّتةٌ ومهزومةٌ ومدعوسةٌ بالحروبِ والحصاراتِ والفقرِ والاستبدادِ والفسادِ والطائفيّة، وصار همُّ كلّ عربيّ حمايةَ وجوده ووجودِ عائلته من الاضمحلال الفعليّ؛ وإلّا فبديلُه هو الهجرة، إلى أيِّ منفًى على وجه البسيطة، ولو ذاق في سبيل ذلك، هو وعائلته، طعمَ الموت غرقًا.

4) تراجُعُ القضيّة الفلسطينيّة في وعي النخَب المعارضة في الوطن العربيّ، لصالح مواجهة الاستبداد والفساد (فعلًا أو زعمًا). ولم تتورّعْ بعضُ “النخَب” عن تحميل خطاب “الدفاع عن فلسطين” مسؤوليّةَ فشل التنمية العربيّة والديمقراطيّة العربيّة والحداثة العربيّة طوال عقود؛ بل لم تتوانَ بعضُ هذه النخب، أفرادًا وفصائلَ سياسيّةً، عن نسجِ التحالف مع العدوّ من أجل الخلاص من الديكتاتوريّات المحليّة.

5) عدمُ ترويج المقاطعة من طرف فصائلِ المقاومة الأساسيّة، ولاسيّما في لبنان، وإلى حدٍّ أقلَّ في فلسطين، ميدانيًّا وعمليًّا، وإنْ تعاطفتْ معها نظريًّا أو شفويًّا. وهذا خللٌ كبيرٌ في عمل المقاومة، إذ لا “ثقافةَ مقاومةٍ” فعليّةً ودائمةً وتطاولُ أوسعَ فئات الشعب من دون ثقافةِ مقاطعة اقتصاديّة وفنيّة وأكاديميّة شاملة. الجديرُ ذكرُه أنّ العلّامة المرحوم السيّد محمد حسين فضل الله أفتى بمقاطعة داعمي إسرائيل من أيّ جنسيّةٍ أو دينٍ كانوا،(17) وهو ما يمكن اعتمادُه أساسًا لترويج المقاطعة بين الملايين من مقلّديه ـــ لكنّ ذلك لم يحصلْ حتى اللحظة للأسف.

6) تقاعسُ غالبيّة المثقّفين العرب عن ملاحقة نشاطات المقاطعة في العالم، واكتفاءُ كثيرين منهم بترويج وهْم “عداء المجتمع الدوليّ بأكمله لقضايانا.” هؤلاء لا يَعلمون، مع أنّهم يدّعون معرفةً وثيقةً بمجتمعات الغرب، أنّ “المجتمع الدوليّ” ليس الأممَ المتحدة وحدها، ولا الحكوماتِ الغربيّةَ فقط، بل هو أيضًا مجموعُ المنتسبين إلى الجمعيّات الأكاديميّة والكنائس والاتحادات الرياضيّة ومجالسِ الطلبة، فضلًا عن الفنّانين والمثقفين والأطبّاء والعلماء…، وكثيرٌ منهم يمارسون مقاطعة إسرائيل، وبعضُهم (كالفنّان العالميّ رودجر ووترز، من “بينك فلويْد” سابقًا) يقودونها أيضًا.

***

لكنّ اللافت الإيجابيّ الجديد، بعضَ الشيء، انّنا كعرب، بدأنا في السنوات الأخيرة، على مستوى المجتمع، نفْرز حملاتٍ خاصّةً بمقاطعة كيان العدوّ، وخصوصًا في الأردن ومصر وتونس والمغرب والكويت وقطر، بعد لبنان الذي كان سبّاقًا إلى ذلك (منذ العام 2002). وقد أدّت هذه الحملاتُ، رغم حداثة نشأتها، دورًا متناميًا في التعريف بالمقاطعة، وفي دفع بعض المؤسّسات إلى التخلّي عن التعامل مع شركاتٍ داعمةٍ للكيان الغاصب (في الأردن، مثلًا، نجح المقاطعون في دفع إحدى منظمات الأمم المتحدة، UNHCR، إلى إنهاء عقدها مع شركة G4S، وفي مصر ولبنان نجحوا في دفع شركة   Orange إلى إنهاء علاقتها بشريكها الإسرائيليّ…)، وفي فضح الفنانين العالميين المؤيدين لإسرائيل وكسب فنانين كبار (كانوا محايدين) إلى نصرة قضيتنا. ولكنّ هذا سيكون موضوعَ بحثٍ مستقلّ.

المستقبل يحمل بشائرَ إنجازاتٍ جديدة. لا معنى لليأسِ والقنوط. لا مبرّرَ لجَلْد الذات. لا جدوى من الصراخ: “يا وحدَنا.” لكنّ المسألة لا علاقة لها بالتفاؤل الساذج، بل بالإرادة الصلبة والوعي.

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.