رحل حارس الذاكرة الأمين د. عادل يحيي / د. فيحاء عبد الهادي
د. فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) الثلاثاء 19/1/2016 م …
رحل مبكراً، وفي جعبته روايات شفوية لا تعدّ ولا تحصى، جمعها من أفواه المهجَّرين، والمنتفضين، وأبناء المخيمات، الذين انتمى إليهم، وإلى آلامهم، وآمالهم،
رحل بعد أن ساهم في تدريب العشرات من الباحثين والباحثات في حقل التاريخ الشفوي، في فلسطين، وسورية، ولبنان، والأردن، ومصر، وبعد أن أنتج مجموعة من الكتب، وعشرات الدراسات العلمية والمقالات، التي تحمل عصارة فكره ومنهج عمله.
*****
حين يذكر تاريخ العمل بمشروعات التاريخ الشفوي في فلسطين؛ يذكر اسم د. عادل يحيى، واسم المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي، كأحد الأعمدة الأساسية الفلسطينية، التي عملت وفق هذا الحقل المعرفي الهام، إلى جانب أسماء الباحثين/ات الذين عملوا على التوثيق من خلال هذا المنهج، وأسماء المؤسسات التي رعت انطلاقة العمل وفقه.
ولد عام 1959 في مخيم الجلزون، وتلقى الدرجة العلمية الأولى من جامعة بيرزيت عام 1981، في “تاريخ الشرق الأوسط”، وحصل على درجة الماجستير في التاريخ من جامعة فيلادلفيا، عام 1986، عن أطروحة بعنوان: “أصل الفلسطينيين”، وعلى الدكتوراه في تاريخ وآثار الشرق الأوسط، من جامعة برلين الحرة بألمانيا، عام 1995، عن أطروحة بعنوان: “دخول عصر الحديد في فلسطين ومنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط”.
عمل باحثاً ومدرِّساً في جامعة بيرزيت، وجامعات، ومراكز بحث محلية أخرى، وفي عام 1996؛ أسَّس بالتعاون مع زملاء آخرين “المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي”، وشغل موقع المدير العام للمؤسسة.
ومنذ عودته من ألمانيا، وحتى رحيله؛ ظلَّ مهموماً بتوثيق التاريخ الاجتماعي للفلسطينيين، بالإضافة إلى اهتمامه بالسياحة الثقافية.
وثَّق عمله من خلال عدة مؤلفات: من يصنع التاريخ: “التأريخ الشفوي للانتفاضة”، (مع مؤلفين آخرين) – صدر عام 1994، و”بين انتفاضتين: التاريخ الشفوي الفلسطيني”، صدر عام 2002. والكتابان أضحيا دليلاً لا غنى عنه للباحثين/ات في حقل التاريخ الشفوي. وصدر له عام 1998 كتاب: اللاجئون الفلسطينيون 1948-1998. وأصدر (مع آخرين) دليل فلسطين السياحي، عام 2000.
كما كرَّس د. عادل جهداً علمياً لتوثيق حياة المخيمات الفلسطينية، من خلال منهج التاريخ الشفوي؛ إيماناً منه بأهمية هذه المخيمات، التي لم تحظ بالاهتمام اللازم من الباحثين، رغم مرور ستة عقود على قيامها، والتي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها وعلى أبنائها، رجالاً ونساء، من أجل الفهم الأعمق للمجتمع الفلسطيني.
ويكتسب التوثيق لمخيمات اللجوء/ مخيمات العودة، أهمية كبيرة؛ خاصة أن أعداد الرواة الذين عاصروا النكبة الأولى يتناقص باطّراد. صدرت له عدة كتب، ضمن سلسلة “المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية”، التي نشرتها المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي، منها: “قصة مخيم الجلزون”عام 2006، و”قصة مخيمين: العروب والعين” عام 2008، و”قصة المخيمات غير الرسمية: عين عريك، بيرزيت، وسلواد” عام 2010، و”النزاعات وآليات حلها في مخيمات الضفة الغربية” عام 2012.
عبر حياته المهنية وعبر عمله التطوعي؛ ركَّز د. عادل على أهمية صناعة الأرشيف، في ظل السرقة والتشويه، الذي تعرَّض لهما أرشيف الشعب الفلسطيني، منذ زمن بعيد، ولا يزال. وكان يعبِّر عن سعادته؛ حين يرى دائرة المهتمين/ات بهذا الحقل المعرفي، نسبياً؛ تتسع باطّراد.
“إن كتابة التاريخ الفلسطيني هي شكل من أشكال مقاومة التشويه الثقافي. إن مهمة المؤرخ الفلسطيني ليست سهلة؛ لأنه لا يتوفر له ما هو متوفر لمؤرخين آخرين في أماكن أُخرى من العالم: أرشيفات متكاملة، مراكز بحث، وإمكانات تقنية عالية”.
لذا؛ اهتمَّ اهتماماً بالغاً بصناعة الأرشيف، وبتدريب أجيال جديدة على الاهتمام بالموضوع، بالإضافة إلى إيلائه أهمية كبيرة للتدريب العملي على حفظ الأرشيف، وأساليب الاستفادة منه؛ في الثقافة والسياسة والإبداع.
*****
ربط د. عادل أسباب إحجام الفلسطينيين عن إنتاج أرشيفات خاصة بهم؛ بظروف العمل السرِّي، التي أوجدت تحفظاً على عمليات التوثيق والكتابة، من ناحية، وضياع وسرقة الأرشيفات الفلسطينية من ناحية، ونوعية التعليم في بلادنا، الذي يعتمد التلقين والحفظ أكثر من التحليل والنقد والإنتاج، من ناحية أخرى.
“أسوأ تجليات هذا الوضع هو الاهتمام القوي من طرف المنتجين والمستهلكين العرب بالثقافة الغربية “ثقافة القوي”. صحيح أن هذا بحد ذاته محبط؛ ولكن الصورة أسوأ من ذلك؛ إذا ما أضيف إليه أن أفضل المؤرخين والكتاب العرب يكتبون بلغات أجنبية وخاصة الإنجليزية بدلاً من العربية”.
وفي بحثه الجاد عن الحل؛ دعا إلى أن نكتب عن أنفسنا ولأنفسنا أولاً:
“ يجب أن نسمح لأنفسنا بالنظر في المرآة لنرى الظواهر الإيجابية في تاريخنا وواقعنا فنبني عليها، ونرى أوجه القصور فنعمل على التخلص منها أو إصلاحها. إن الاهتمام بتاريخ الحياة أو التاريخ الشفوي وسيلة جيدة لفتح باب الحوار الثقافي في مجتمعنا الفلسطيني والعربي عموماً. لنبدأ بالكتابة عن ذواتنا، دعونا نحاول أن نكتب عن أنفسنا لأنفسنا وليس للآخرين. ومن يدري؟! ربما عندما نتقن الكتابة عن أنفسنا؛ سيبدأ الآخرون بالتعرف علينا من خلال ما نكتبه نحن”.
*****
د. عادل يحيي،
أتمنى أن يكون بين أوراقك التي تركتها توثيقاً لتجربتك الثرية، طالما أحسستَ بالحزن كلما رحل أحد الرواة، رجل أو امرأة، دون أن توثَّق روايته،
وكنتَ تسابق الزمن بتوثيق تجربة كل من كان قادراً على رواية حكايته، ممن شهدوا ثورة 1936، والانتفاضة الأولى، والثانية، والتراث الثقافي، والحرف اليدوية التقليدية، وركَّزت على توثيق حياة المخيمات الرسمية وغير الرسمية، وسكان المخيمات ممن شهدوا أحداث النكبة الأولى.
وحين نعرف أن أرشيفات “المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي” في البيرة؛ قد ضمت أكثر من 700 شريط صوتي، وأكثر من 40 شريط فيديو، و300 مقابلة مطبوعة؛ منها 60 مقابلة مترجمة إلى اللغة الإنكليزية؛ نحسّ كم كنتَ تترجم ما تؤمن به إلى عمل يومي دؤوب، عبر المؤسسة التي كنتَ تديرها باقتدار.
رحلتَ وما زالت لديك مخطوطات للعديد من الكتب، التي توثِّق التاريخ الاجتماعي لفلسطين التي أحببتَها، وعملتَ من أجلها، ورحلتَ قبل أن تشهد انبلاج فجرها.
سوف تفتقدك عائلتك القريبة والبعيدة؛ زملاؤك، وتلاميذك، ومن حفظت رواياتهم، وسوف تفتقدك فلسطين.
التعليقات مغلقة.