«أوهام الكهف» تحاصر النخب المصرية… وقافلة تسير في حقل النار!
محمد عبد الشفيع عيسى ( مصر ) الأربعاء 20/1/2016 م …
* القوى السياسية «القديمة» وعناصر الثورة «الجديدة» كلّ منها تعيش في خيامها الخاصة (أ ف ب)
اليوم إذْ تستشرف مصر العربية ذكرى ثورة 25 يناير 2011، تطل أمامها تحديات كثيرة، لعل أظهرها في هذه الآونة تفاعلات النخب والجماهير إيجاباً وسلباً على جميع الصُّعُد. مقابل الخبرات الإدراكية أو الشعورية المباشرة للجمهور المجتمعي العريض في مصر، والذي يخشى عودة الفوضى الأمنية ومن ثم «انقطاع الأرزاق»، تعيش النخبة المصرية المتشرذمة رهينة مجموعات متناثرة من الأوهام في كهوف عديدة، ولكل شرذمة منها كهفها الخاص وأوهامها الخاصة، حسب ذلك التعبير الشهير للفيلسوف الإنكليزي في مطلع عصر النهضة فرانسيس بيكون.
هناك «النخبة الثورية» التي تخشى عودة مرتقبة وقريبة – فيما يرون – لنظام مبارك؛ والنخبة «الليبرالوية» التي تخاف عودة «جمهورية الخوف» على النمط «الصدّامي» القديم، والنخبة «الإسلاموية» التي تخشى تفشّي الانحلال الأخلاقي بفعل الابتعاد عن صحيح الشرع والدين.
أما نخبة اليسار فحائرة داخل كهفها الخاص تعالج جراحها باستعادة أدبيات الثورة الاشتراكية، لا سيما على النمط «التروتسكي» -من جانب البعض الحالم بالثورة الدائمة.
وشريحة النخبة ذات التوجه الناصري لا تني تمارس القلق الثقافي والسياسي المقيم سعياً إلى «العدالة الاجتماعية». أما الشريحة «الفلولية» من البقايا المحسوبة على النظام السابق على ثورة يناير فترى الخير كل الخير في «الاستقرار» و»الاستمرار» ليس غير.
وفي مواجهة الجميع تعيش الشريحة الضيقة من شباب جماعة الإخوان المسلمين تحلم بيوم تعود فيه «الشرعية المفقودة»، ولو باستخدام القوة المجسدة. تلك الشرعية التي وجدت ذات يوم من منتصف عام 2012 إلى منتصف 2013، ولديها مثال من إنجاز «حزب العدالة والتنمية» التركي، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً…!
فماذا يبقى من الجميع؟
يبقى «الوضع الحاكم» الذي يراهن على عامل الزمن، ويسابق الوقت. «يتحدى التحدي» حسب التعبير المستخدم، لتحقيق إنجاز اقتصادي – أمني يقطع بحده القاطع قول كل خطيب!
وبرغم تعقيدات الموقف المصري بشقيه النخبوي والجماهيري، وبرغم تشعّب التكوين الداخلي للطبقة السياسية، فإنه يمكن القول إن المعادلة الرئيسية الحاكمة لذلك الموقف ذات طرفين متقابلين: أولهما الجمهور المجتمعي العام، وثانيهما يمثل «الشريحة الثورية» التي تخشى ما يسمونه «عودة نظام مبارك» برجاله ورموزه وسياساته وكل ما يمثله حتى من شخوص المؤسسة الأمنية، فيما يقولون؛ وهي عودة ممزوجة – في رأيهم – بسطوة مستجدة للعسكريين في أجهزة ما يعتبرونها «الدولة العميقة». وما بين طبقات الشعور واللاشعور السياسي، وامتزاج الوعي و«عدم الوعي» – إذا صح هذا التعبير – تظل تلك المعادلة الرئيسية سارية المفعول، تُلقي بظلالها على المشهد السياسي المصرى إلى حين.
هذا وإن «القوى السياسية المدنية» – في الشقّ الفعال منها وذي الجذور الضاربة نسبياً في التربة الوطنية المصرية خلال العقدين الأخيرين – مثل أحزاب «التجمع» (الذي خرج من رحمه «حزب التحالف الشعبي الاشتراكي») و«الوفد» و«الحزب الناصري»، وكذا بعض الفصائل المنبثقة حديثاً من تلك القديمة، تعيش فى أجواء العمل الوطني المعارض لنظام مبارك، في ظل «حركة كفاية» وأضرابها ثم حركة 6 أبريل وأمثالها، خاصة في فترة 2005/2010. في تلك الفترة ذات النفس الثوري الحميم في خضم المعارضة الفاعلة، عاشت القوى السياسية أقوى وأبهى أيامها وهيأت الأجواء جميعاً للحدث العظيم و«الانفجار العظيم» في 25 يناير 2011.
أما شباب وعناصر ثورة يناير الذين فجروا الحدث وعاشوا أيامه المجيدة، ثم تسربت أيامه من بين أيديهم لتتلقفها جماعة «الإخوان المسلمين»، فقد دخلت جبّ الغموض والتشرذم بعد الثلاثين من يونيو 2013، ولا تزال تعيش ذكرى تلك الأيام المجيدة من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011، وتجتزها اجتراراً وتتمنى من كل قلبها لو تعود!
وفي الحالين، إن القوى السياسية «القديمة» وعناصر الثورة «الجديدة» كلّ منها تعيش في خيامها الخاصة، بعيداً عن الواقع الجديد الذي يجري صنعه الآن، اقتصادياً وسياسياً. في المجال الاقتصادي تتحول مصر رويداً إلى «ورشة» كبيرة تستصلح الأراض الصحراوية، وتتطلع إلى بناء نموذج لريف جديد، وتحفر فروعاً لقناة السويس وتعمّر من حول شاطئيها شرقاً وغرباً، وتقيم محطات الطاقة والطاقة النووية، وتعمل على إعادة رسم خرائط البنى الهيكلية على امتداد البلاد طولاً وعرضاً. وهكذا تعيش القوى السياسية والثورية في عزلة عما حولها، تخوض المعارك وتعطي «الوضع الحاكم» سلاحاً بتّاراً يستخدمه لتجسيم أخطائها الجسام، ومحاولة إظهارها في مظهر العجز أمام أعين الجماهير، ويستر بها أخطاءه الكثيرة في ميادين عديدة.
الوضع الحاكم يتجاوز عزلته حين انفّض من حوله سريعاً ما كان يسمى «تحالف الثلاثين من يونيو»، وبعد أن دخل في معركة ضد العنف الدموي والمسلح بقيادة بعض فصائل تيار الإسلام السياسي، وفي مقدمتها فصيل العنف من جماعة «الإخوان المسلمين».
يحاول الوضع الحاكم أن يستكمل أركانه الدستورية بأضلاعه الثلاثة، ويمضي في عمل شاق لتجاوز مصاعب الأزمة الاقتصادية المستحكمة، بينما تمضي القوى السياسية في عزلتها المقيمة لا تلوى على شيء… فإلى أين المسير والمصير؟
فأما المسير فإنه يتحصل في مسارين متوازيين لا يلتقيان فيما يبدو: أولهما مسار الوضع الحاكم، الآخذ في التحول إلى «نظام حاكم» عبر زمن قصير نسبياً، ومن حوله ظهير رضي بأن يكون ظهيراً، بعد أن استكنف جميع الباقين. وهذا الظهير في شريحة كبيرة منه يرنو ببصره العليل إلى ما قبل 25 يناير 2011، بصورة أو أخرى، في ما يمكن أن يسمى «الاتجاه الفلولي» إذا صح التعبير، وفي شريحة كبيرة أخرى فريق يميل إلى الثبات لا إلى التغيير. وإذا كان الاتجاه الفلولي رجعي المتجه، فإن الآخر «محافظ» بكل تأكيد، فيكون المركب «الرجعي-المحافظ» سنداً «متطوعاً» للنظام الحاكم الجديد. ونذكر هنا صفة «التطوع» أخذاً بعين الاعتبار ذهاب الرجعيين بالذات إلى النظام الجديد ورئيسه القوي منذ اللحظة الأولى، ليس على سبيل «التبرع» بطبيعة الحال، ولكن لمصلحة غاية في نفس يعقوب. أما «المحافظون» من أنصار «حزب الكنبة» – كما يقولون – فيدافعون عن «بقاء الوضع على ما هو عليه» خوفاً من التغيير الذي «يقطع الأرزاق» ويزرع الخوف في النفوس.
تمضي قافلة النظام الحاكم الوليد بأمل الإنجاز الاقتصادي والعسكري
وبين مصالح أصحاب المصالح ومشاعر الكتلة الخائفة من التغيير، يصبح النظام السياسي الوليد قلقاً غير مرتاح، وكان يتمنى لو أن ظهيره السياسي غير ذاك، من بين قوى «تحالف الثلاثين من يونيو» المجهض بفعل فاعل غامض على كل حال.
ولما كان «الوضع الحاكم» المتحول تدريجياً إلى «نظام حكم» Ruling Regime، مفتقداً في فترة الانتقال إلى ظهير سياسي قوي من أي نوع، فقد كان من طبائع الأمور، في غيبة «حزب سياسي حقيقي مساند للرئيس» أن تقوم «الأجهزة» بالمهمة، وخاصة أجهزة «الأمن الوطني» بخبرتها العريقة في تشكيل وانفراط التحالفات السياسية عبر أربعة عقود.
أما عناصر «يسار الوسط» – كما يقال – وبعض «يسار اليسار» وقليل من «الوطنيين – التقدميين» الذين ينظرون إلى الأمام في أمل كبير، في غير قطيعة مع النظام الحاكم، أو في توافق أولّي معه على الخطوط العريضة، فهؤلاء يبقون على الهامش أو هوامش الهامش، يقبضون على الجمر، ولو احترقت أصابعهم، أو اكتوت بنيران الأصدقاء والأعداء من كل حدب وصوب. تلك هي مكونات المسار الأول -الحاكم- في الأفق السياسي المصري المنظور.
أما المسار الثاني فهو خاص بأولئك المعارضين والمعادين للوضع الحاكم من غلاة «الليبرالويين» ومن بعض أقسام اليسار بما فيه اليسار «الفوضوي» للاشتراكيين الثوريين، بل ماذا نقول؟ من الإسلامويين أيضاً في جملتهم، بمن فيهم «الإخوان المسلمون». يتشكل على مهل عبر الزمن بطيء الخطى تحالف جبهوي عريض يعيد سيرة تحالف جبهوي سبق بناؤه خلال فترة 2000-2010 للمواجهة السياسية لنظام مبارك، وما يدرى البعض منهم أن قواعد العمل الجبهوي (حيث الأفضلية للأقوى) تعطي جماعة «الإخوان» وتيار «الإسلام السياسي» الأفضلية النسبية المقارنة في جميع الأحوال.
يتناسى أعضاء التحالف الجبهوي (المعارض – المعادي) خلافاتهم العقائدية، وينحّون انتماءاتهم السياسية المحددة جانباً. يتنادون بكراهية سجل الوضع الحاكم من القبض أو «الاعتقال» العشوائي، و«الاختفاء القسري»، والمحاكمات السريعة عسكرية كانت أو شبه مدنية، والتعذيب داخل أقسام الشرطة والسجون، وتكديس أربعين ألفاً وراء الشمس فيما يقولون. ومن وراء كل ذلك، فيما يذكرون، استعادة فظّة لحكم الفرد و»الفاشية!» ذات الطابع العسكري التي تستند إلى قوى الأمن و«تحالف الجيش والشرطة»، والأذرع الإعلامية «القذرة»، حسب أقوالهم المردّدة الشهيرة.
وما بين المسارين، الشاطر والمشطور، يقف الجمهور العريض (الطازج) و«الساذج – على الفطرة» إن شئت، يأبى بفطرته (السليمة في رأينا) مشهد الفوضى العارمة الممكنة، وأرتال الكتائب المتناحرة في كابوس اقتتال أهلي محتمل، حيث تغشى، في الأقل، ظلال الاضطراب الأمني والتدهور الاقتصادي المقيم. ومن ثم يقف الجمهور حائط صدّ عريض، يمنع جحافل المسار الثاني من المركب النخبوي (المدني – الإسلاموي) المعارض في بعضه، ومعاد في بعضه الآخر، للنظام ورئيسه القوى العنيد الذي يبدو كمحارب من أجل حفظ كيان الدولة الوطنية في وجه تهديد قوي من مصادر داخلية وخارجية متنوعة.
يلعب المساران على وتر الزمن، إذ يعّول المسار الأول على إنجاز اقتصادي-إنمائي، وانعاش عاجل ونموّ آجل، وبناء هيكل قوة الدولة، وفي مقدمتها القوة العسكرية المصرية البازغة في خضم الاضطراب الإقليمي والدولي، من طائرات قاذفة ومقاتلة (رافال الفرنسية) وسفن حربية حاملة للمجنّحات (ميسترال فرنسية أيضاً) وصواريخ (إس 3 الروسية) وغواصات (ألمانية) وصناعة عسكرية محلية في كل من «الهيئة العربية للتصنيع العسكري» و«الشركة القابضة لقطاع الإنتاج الحربي» – ولو عن طريق «التجميع» – للدبابات وعربات نقل الجنود وقواذف وقذائف المدفعية، وغيرها كثير.
وإلى جانب بناء القوة عسكرية، قوة طاقوية من اكتشافات الغاز بواسطة شركة «إيني» الإيطالية كأحد أكبر الاكتشافات في المتوسط خلال العقد الأخير، ومن المحطة النووية ذات المفاعلات الثمانية على «الساحل الشمالي» بمشاركة روسية، تساندها منظومة لمولدات الطاقة من الغاز والفحم والشمس والرياح، بمعونة شركة «سيمنس» الألمانية، وشبكة القطارات والسكك الحديدية مع الصين، إضافة إلى استصلاح واستزراع الأراضي الصحراوية و«عاصمة إدارية» نموذجية بين محور قناة السويس وحد الصحراء الشرقية على تخوم القاهرة، إلى جانب مشروع بناء ثمانية مناطق تكنولوجية تبدأ باثنتين في ضواحي الإسكندرية وأسيوط، ومدن صناعية كمدينة للرخام في سيناء، وأخرى للجلود قرب القاهرة في منطقة «الروبيكي»، ومشروع تحديث مصانع الغزل والنسيج التليدة في «المحلة الكبرى» و»شبرا الخيمة» و»كفر الدوار»، وإقامة قاعدة لصناعة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، انطلاقاً من «القرية الذكية» على طريق القاهرة-الاسكندرية الصحراوي…
كل ذلك باستخدام رافعة «الهيئة الهندسية للقوات المسلحة» في وجه تقاعس وعجز جماعة رجال المال والأعمال الخواص بعد هدم الكيان التاريخي للقطاع العام «الناصري». يضاف لما سبق، العمل من أجل إقامة شبكات وسلاسل للتجارة الداخلية والتوزيع، أملاً في تحقيق الوفرة من العرض السلعي وخفض معدل التضخم برغم الإحجام الحكومي المريب – بدعوى الاقتصاد الحر» الزائفة– عن ممارسة الدور الريادي الضروري للدولة عن طريق مراقبة هوامش النفقات والأسعار، والضبط الإداري للواردات، واستبدال الواردات بالإنتاج المحلي.
وأما ما يطالب به البعض -من مشارب متباينة- من ضرورة إعداد وإعلان «رؤية» استراتيجية تحدد على نحو صارم خطى المستقبل القريب والبعيد، فإن قافلة النظام الحاكم ربما ترى أن أفضل طريق للتعامل مع موضوع «الرؤية» – في ظل العالم المضطرب الراهن دولياً واقليمياً وعربياً ومحلياً – هو ألا تكون هناك رؤية كاملة معلنة سلفاً في الفضاء الكبير، ما دمت تحقق في الحقل رؤيتك التي يعرفها ويمكن أن يستنبطها الجميع.
تمضي قافلة النظام الحاكم الوليد إذن، بأمل الإنجاز الاقتصادي والعسكري، تتحدى فقرها السياسي الذي صنعته ظروف ثقال موغلة في بُعد الزمان، وتحاول جاهدة أن تتعدى مسار المعارضة اللاهبة والعداء العميق؛ ولسان حالها يقول بالألم وبنشوة المريض المتعافي: دع القافلة تسير والذئاب تعوي! للأسف!
فإلى أين المصير؟ ذلكم السؤال المعلق الكبير الذي قد ندلف إلى رحاب إجاباته المراوغة في وقت قريب!
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة
التعليقات مغلقة.