هل يدفع التعليم والثقافة في اتجاه الإبداع؟ / د. هشام غصيب
د. هشام غصيب * ( الأردن ) الأحد 24/1/2016 م …
* أكاديمي ومفكر ماركسي أردني …
الجواب: لا. أبدأ إذا بالإجابة القاطعة ثم انتقل إلى شرح هذه الإجابة وتأسيسها وإثباتها، أي سوق الأدلة على صحتها.
والسؤال هو: لماذا لا يدفع التعليم والثقافة في الوطن العربي في اتجاه الإبداع؟ أي، ما هو أساس هذا الإخفاق؟
للإجابة عن هذا السؤال، علينا أولاً أن نبرز بعض السمات العامة للجهاز التعليمي والثقافي والإعلامي النمطي في الوطن العربي.
وأولى هذه السمات هي ما أسماه صادق جلال العظم ذهنية التحريم. فالمحرمات والقيود الفكرية الكثيرة التي تكبل العقل تجعل من التفكير النقدي مجرد شعار فارغ وكاركاتور مضحك.
فلما كان هدف التعليم تحديداً ترسيخ ثوابت ومعتقدات مطلقة يحرم أن يرقي الشك إليها، بات التعليم لدينا بالضرورة دوغمائياً وتلقينياً واوامرياً، ومن ثم لاعقلانياً، ولا يحث على الإبداع والخلق. فالفكر المبدع الخلاّق في جوهره حر لا يقيده أي قيد خارجي، ولا يتقيد إلا بمنطقه الداخلي. أما تقييده على يد السلطات الدينية والسياسية والاقتصادية، فيعني ضموره وجموده واختفاءه. فموانع التفكير الخارجية تعني تعطيله وتعطيل آليات عمله. ولما كان الإبداع نتاج التجريب والنقد والمخيال الحر غير المكبل وتلاقح الأفكار وتفاعلها الحر معاً، بات التحريم الفكري أداة جمود وسكون وتقليد وروتين.
وثانية هذه السمات هي غياب النسق الفلسفي في التعليم، وشيوع النسق الدوغمائي بدلاً منه. فالنسق الدغمائي يدفع صوب تحويل الفرد إلى موضوع سكوني مفعول فيه وبه وعليه. فهو يولد ثقافة القطيع والأوامر والطاعة والتنميط والقبول الأعمى والتسليم بالأمر الواقع.
أما النسق الفلسفي، فهو يولد ثقافة التفكير النقدي والتساؤل والتمرد والحرية المنظمة والجدل اللامحدود، ومن ثم، فهو يدفع صوب تحويل الفرد إلى ذات مفكرة فاعلة. ومن جهة أخرى، فإن النسق الدغمائي ينكر على المعرفة إنسانيتها وتاريخيتها، ومن ثم يجردها من قيمتها التي لا تضاهى. فالمعرفة تبدو وفقه محدودة وسكونية وفي جوهرها خارج عالم البشر والاجتماع البشري. لذلك فهو يفقد الممارسة المعرفية معناها ومغزاها وحقيقتها، لأنه يحدد المعرفة ويثبتها ويعدها جاهزة ومنتهية في أساسها.
أما السمة الثالثة، المرتبطة عضوياً بالسمتين السابقتين، فهي أن جهازنا التعليمي موجه صوب طمس الذات المفكرة والحيلولة دون تشكلها، أي الحيلولة دون اكتمال تحول الفرد من موضوع سكوني مفعول فيه وبه وعليه إلى ذات مفكرة فاعلة قادرة على خلق الأفكار والآراء والمواقف والأفعال. فهي تهدف إلى تشكيل فرد متلق مسير، لا ذات فاعلة مخيرة. وهذا هو بيت القصيد في العملية التعليمية أنى كانت ومورست. فالإنسان كائن منتج، مبدع، خلاق في طبيعته الداخلية، أي بالقوة. لكن العلائق الاجتماعية السائدة هي التي تحدد سقف قدرات الأفراد الإبداعية وتوزيعها على أفراد المجتمع. وإذا استعرضنا تاريخ البشرية حتى الآن، تبين لنا أن علائق الاجتماع التي سادت حتى الآن، بتنوعها الكبير، طمست ذاتية الفرد وحالت دون تحوله من موضوع إلى ذات لدى الغالبية الساحقة من الأفراد. فالإبداع كامن في كل فرد بشري بحكم طبيعته. لكنه لا يتحقق بالفعل إلا عبر مؤسسات وعلائق اقتصادية وأسرية وسياسية وثقافية وتربوية ملائمة تطلق الإبداع من كمونه. وبالطبع، فإن هذه العلائق لاجتماعية هي علائق قوة بين الأفراد. وهذا هو أساس أثرها السلبي على تشكل الغالبية الساحقة من الأفراد. فازدهار قلة من الذوات يتم على حساب الغالبية.
أما السمة الرابعة، فهي طمس الفرد بوصفة قوة اجتماعية فاعلة تربطها بغيرها روابط متشعبة حرة. ويتكفل بذلك الاستبداد السياسي الخانق، الذي يسود الوطن العربي اليوم. فالاستبداد السياسي يحشر الفرد ضمن قوالب ضيقة “آمنة” ويحول دون دخوله في تشكيلات اجتماعية تغذي وعيه وفعله، ومن ثم يبقيه معزولاً عن غيره من الأفراد وعن مجتمعه، حيث لا يسمح له أن يتفاعل مع غيره إلا عبر مسارب جاهزة ضيقة “آمنة”. وعليه، فإن الاستبداد السياسي يعمل على تحطيم الوعي السياسي لدى غالبية الأفراد وكسر العديد من روابطهم الحيوية مع بعضهم بعضا، الأمر الذي يحد كثيراً من قدراتهم الإبداعية وتفاعلهم الصحي المثمر معاً وتشكلهم فعاليات اجتماعية. وهو بذلك ينمي لديهم الغرائز القبائلية العصبوية الوحشية على حساب الوعي السياسي المؤثر والمثمر.
وخامسة هذه السمات هي سعي نظامنا التربوي الثقافي الإعلامي إلى ترسيخ قيم الاستهلاك على حساب قيم الإنتاج. فالثقافة الرائجة في جل أقطار الوطن العربي هي ثقافة المكرمات والفتات والتسوّل والاتكال والشلفقة والعاطفية والتبجيل أو الشجب والمبالغة والانفعال والتسرّع في إصدار الأحكام وعشوائية اتخاذ القرارات. أما ثقافة الإنتاج، ثقافة العمل المنظم واحترام الوقت والدقة في الأداء والتريث في إصدار الأحكام واتخاذ القرارات المدروسة واحترام المواعيد وتحكيم العقل وتنظيم الغرائز، فهي مهمشة تماماً.
وسادسة هذه السمات هي تغييب الطبيعة والتاريخ والعقل. فالفرد العربي لا يهيأ من أجل رؤية الطبيعة بماديتها وعليتها ولا من أجل رؤية صورة واقعية للتاريخ، وإنما يترك ليواجه طبيعة أسطورية وتاريخا أسطوريا لا يمتان للواقع بصلة. فيهيم هذا الفرد في فضاء من المخيال الأسطوري. ويعود ذلك إلى تحريم العقل، أداتنا الأساسية في رؤية الواقع الطبيعي والواقع التاريخي. هناك رعب موروث من العقل يرسخ في قلب الفرد العربي. فمن تمنطق تزندق. لذلك، لا بد من تحديد العقل وتقييده. لكن ذلك يعني تعطيله وتجميده او حتى قتله واغتياله. فالعقل لا يحيى إلا بالحرية والثقة العميقة في ذاته.
لذلك كله، فإن الذات العربية مكبلة بأكثر من معنى وجانب. والذات المكبلة تقلد وتحاكي، لكنها لا تبدع ولا تخلق. بل إنها تميل إلى إسقاط قدراتها الخلاقة على غيرها، على أطيافها البشرية وغير البشرية. إن مؤسساتنا، سواء كانت سياسية أو تربوية أو ثقافية أو إعلامية أو اقتصادية، موجهة صوب الحيلولة دون تحول الموضوع إلى ذات، ومن ثم صوب خنق روح الإبداع في الأفراد.
ما هي الأرضية التاريخية الاجتماعية الثقافية لهذه التركيبة المتخلفة البائسة؟
تتعلق هذه التركيبة بثلاثة إخفاقات كبرى في مسيرة الوطن العربي الحديثة، لا نجد مثيلاً لها في الأمم الأخرى. وهي:
1. الإخفاق التنموي الاقتصادي: إذ أخفق الوطن العري في تصنيع نفسه، وفي تحديث القطاع الزراعي، وفي بناء قاعدة علمية تقانية. من ثم، ظل على هامش الاقتصاد العالمي وتحت رحمة الرأسمال العالمي والمؤسسات المالية العالمية. ومع أن التجربة الناصرية، وربما السورية والعراقية، حققت إنجازات مهمة على هذا الصعيد، إلا أنها افتقدت الديمومة لأنها بنيت على أسس بيروقراطية بوليسية هشة، الأمر الذي مكن القوى المتربصة من الإيقاع بها وتصفيتها.
2. الإخفاق السياسي: إذ أخفق العرب في عملية التنمية السياسية، أي في بناء نظام سياسي حديث محدّث، يرتكز إلى المؤسسية والآليات الموضوعية والمواطنة الواضحة والوظائف التنموية والإنتاجية الفعالة. لذلك يغلب عليها الطابع الذاتي والفلسفات القديمة البالية والطفيلية والترهل والعصبوية والاعتماد على أطر اجتماعية مدجنة ما قبل حديثة.
3. الإخفاق الثقافي: في نهاية العصر الوسيط، أفلحت عصبيات عسكرية معينة ومثقفوها في تصفية العقل النظري الإسلامي في الوطن العربي. وساد مكانه ما أسميه لاعقل الثورة المضادة الثقافية حتى اليوم. ولم تفلح حركات النهوض العربية الحديثة في تفكيكه وإعادة بناء عقل نظري عربي حديث على أنقاضه، بعكس ما حدث في أوروبا وروسيا والصين وجنوبي شرق آسيا. فظل قائماً ورابضاً على قلب الأمة يعوق تقدمها ويفسد مسيرة الحركات الثورية والنهضوية والتحديثية. ومع تراجع الحركات النهضوية والتحررية العربية وانهيار المعسكر الاشتراكي الأوروبي، زادت سطوة هذا اللاعقل على الوعي العربي بهيمنة القوى السياسية التي تحمل لواءه. وهو إخفاق ثقافي مريع يلقي بظلاله على كل مسامة من مسامات الوعي العربي ويكبله ويشل حركته. ففي الوقت الذي أفلحت فيه أوروبا وروسيا والصين وفييتنام واليابان في تحديث ثقافتها، وقطعت فيه الهند وأميركا اللاتينية شوطاً ملموساً على هذا الدرب، أخفقت الأمة العربية تماماً في هذا التحديث الضروري. فلا إبداع ولا ثقافة إبداع في ظل سيطرة لاعقل الثورة الثقافية المضادة في وطننا.
لذلك كله، فالشرط الضروري لبناء جهاز تعليمي ثقافي إعلامي حديث ينظم الخلق والإبداع على أنقاض الجهاز القائم هو بروز كتلة تاريخية عربية نهضوية تحديثية تأخذ على عاتقها تحقيق مهمات التقدم والنهوض، الاقتصادية والسياسية والثقافية اللازمة. إنها عملية حضارية ثورية شاملة، ولا يجوز اختزالها إلى مجرد عدد من الوصفات والإجراءات الفنية الجاهزة. لقد بدأت الثورة السياسية في الوطن العربي اليوم. لكنها غير كافية. فمن الضروري أن ترفد بثورة اقتصادية وثورة ثقافية. وعلى هذه الثورات الثلاث المترابطة عضويا أن تمحو عار الإخفاقات الثلاثة التي ابتلينا بها في العصر الحديث.
التعليقات مغلقة.