ميدان التحرير / توجان الفيصل
توجان الفيصل ( الأردن ) الجمعة 29/1/2016 م …
*”مع تحفظنا على بعض ما ورد في مقالة الكاتبة المحترمة توجان الفيصل وبخاصة مصطلح ـ الربيع العربي ـ “…
تبقى مصر، لتاريخها الثقافي والسياسي الطويل والمتميز، “أم الدنيا” العربية بحق. و”ميدان التحرير” يقف كرمز لكل حركات التحرّر العربية، منذ اندلاع ثورة عام 1919 فيه ضد الاحتلال البريطاني. وتسميته بميدان التحرير جاءت من القائد التاريخي لمصر والعرب جمال عبد الناصر.
وبما أننا نتحدّث عن قيادة وريادة مصر وعن تراجعهما، نذكر بأن قيادة عبد الناصر التي حظيت باعتراف الجماهير العربية، ألزمت باعتراف العالم الغربي بها رغم كراهيتهم لناصر، الذي أسقط إيدن بهزيمة الأخير في حرب السويس (العدوان الثلاثي) وسجّل أول نصر لمصر ليس فقط على إسرائيل، بل وعلى بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا رسمتا قبلها ببضع سنوات خرائط دول أخرى في المشرق العربي.. والنصر الثاني كان في معركة الكرامة الذي حققه الجيش الأردني و”الفدائيون” الفلسطينيون.. ليليه النصر الثالث في معركة العبور، والذي سجّله الجيش المصري بتخطيط وقيادة سعد الدين الشاذلي.
وعلى غير من أنشأ الميدان تشبهاً بميدان الشانزليزيه في باريس وأسماه باسمه (الخديوي إسماعيل وأسماه بـ “بميدان الإسماعيلية”) فإن القادة الكبار كناصر والشاذلي، آثروا “التحرير”. وبالفعل كان الميدان ملكاً للشعب بل وبرلمانه الحقيقي. وحين تحرّكت جموع مصرية غفيرة لثني عبد الناصر عن قرار تنحيه في يونيو/حزيران عام 1967، تجمّعت أولاً في ميدان التحرير ومنه توجهت لمنزله.. ولكن ذات الجموع نزلت للميدان أيضاً عام 1968احتجاجاً على أحكام صدرت على قيادات بتهمة تسبّبها بخسارة الحرب، مطالبة بحريّة وديمقراطية أعلى باعتبارهما أسلحة الدفاع الحقيقي عن الشعوب والأوطان.. وكما نزلت الجموع المصرية لتهتف للسادات بعد نصر العبور، نزلت قبلها وبعدها لذات الميدان لتهتف ضده.. وواضح أن مبارك لم يتح المجال للتعبير الشعبي في الميدان، فتفجّر القهر فيضاناً شعبياً في ذات “ميدان التحرير” مخاطباً مبارك بكلمة واحدة هي “ارحل”.. وبعد ستة أيام لا أكثر، اضطر مبارك للرحيل.
وجاء رحيل مبارك المهين لمنتجع شرم الشيخ، مرافقاً لجنازة شعبية مهيبة للقائد الشاذلي، الذي لم يطلب في حياته منصباً أو نفوذاً رغم صداقة عمر ربطته بناصر، بل عاشها في مرمى النيران في أخطر فصائل الجيش لطبيعة مهامها.. بدءا بكتائب “المظليين”! وبدل أن يُكرّم ممن خلفوا ناصر، اضطر في عهد السادات لاختيار المنفى بعيداً عن وطن كان هو من أبرز من ساهم في”تحريره” حرفياً، وحوكم عسكرياً وسجن وهمّش لدى عودته لمصر في عهد مبارك.
وما آلمني كعربية وأبكاني، بعد أن بكيت فرحاً بانتصار ثورة الشعب المصري، أن وفاة الشاذلي جاءت قبل يوم واحد من تنحي مبارك.. وقلت حينها وبعدها، إنني كنت على استعداد لأن أعطي سنة من عمري للشاذلي، ليعيش يوماً واحداً يشهد فيه تنحية مبارك!.
لأنه الميدان الذي كان مسرح السياسة المصرية الذي تابعنا فيه أحداثاً “عربية” كبرى منذ طفولتنا، بصور للجموع بالأبيض والأسود على صفحات الصحف العربية (كانت تتاح لي لأن ابن خالتي كان يملك ويرأس تحرير صحيفة سياسية)، وبالصور المتحرّكة، بدءاً أيضاً بالأبيض والأسود، في الأفلام المصرية التي روت عن الثورات والمعارك، لحين باتت هنالك محطات تلفزة وفضائيات عربية تنقل لنا الأحداث لحظة حدوثها ملونة.. فاستوقفني كمّ الألوان في كمّ الأسمال التي كان يرتديها (لتحاشي البرد القارس استثناء لطقس مصر حينها) ثائر مصري مُعدم اختار أن ينام تحت عجلات دبابة عسكرية في الميدان ليمنعها من التقدّم لفض الثورة..
لأنه الميدان الذي كنا نفتح عليه عبر بث “الجزيرة” كل صباح، بدل أن نفتح شرفات بيوتنا، فيسري في عروقنا شجن عذب ونحن نسمع صوت عبد الوهاب يغني قصيدة “المشرق” وكأنه يتلو ترانيم صلاه: “أرضه لم تعرف القيد، ولا خفضت إلا لباريها الجبينا”.. فنؤمن بأنها نبوءة بدأت تتحقق.
لأنه الميدان الذي ألهب فضول وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون بما قارب تحقق معجزة فيه (ما يدحض كل المزاعم اللاحقة بأن الربيع العربي ليس سوى مؤامرة غربية تعدّدت فصولها والكتاب واحد)، فطلبت زيارته.. وهي زيارة أحجم فيها شباب الثورة عن لقائها..
لأنه ذلك الميدان، يؤسفني أن تمر فيه ذكرى الثورة للمرة الثانية وقد أخلي من أهله بدبابات وقوى أمن مدججة كما في معركة العبور.. وفقط تحرص على أن تمر فيه سريعاً، للمرة الثانية أيضاً، فتاة سافرة اسمها سناء سيف، لا تحمل لا يافطة ولا تهتف بشعار، ولكنها تلبسه لا أقل، في تي شيرت كتبت عليه “لساها ثورة يناير”، وكأنها تقول إن أخذتم شعاري فخذوني معه.. فأخوها علاء عبد الفتاح أخذ، ممن؟؟، النجم الساخر باسم يوسف يقول في ذكرى الثورة : إن علاء اتخوّن واتكفّر واتشوّه واتحبس من النظامين!!.
من أخذ حلم ربيعنا العربي؟، لا نعرف، فالميدان الذي كنا نطل منه على أحلامنا، مقفل!.
التعليقات مغلقة.