جورج حبش بعد 8 سنوات الثورة بين الحلم والعلم / معن بشوّر
معن بشوّر ( لبنان ) السبت 30/1/2016 م …
في حضرة حكيم الثورة وحارس ثوابتها، من حقنا، بل من واجبنا أن نستحضر جملة قوانين أدركها، ومفاهيم أطلقها، ومبادئ أمضى جورج حبش عمره من أجلها، فإذا كان موت الأشخاص حق لا يمكن لأحد أن ينكره، فإن موت الأفكار يبقى مستحيلاً إذا حملتها قامات كقامة الحكيم ونفخت فيها من روحه وروح رفاقه الحياة.
وإذا كان أعداء أمّتنا يراهنون على موت هذه الرؤى والتطلعات مع رحيل أصحابها، فإن نقطة البداية في أي ردّ على هؤلاء الأعداء يكون باستحضار هذه الرؤى والتطلعات وإحيائها وتحويلها إلى حقائق يستحيل اقتلاعها… وبالتالي فالإحياء الحقيقي لذكرى الكبار لا يتحقق إلاّ بالإحياء المستمر لجملة الأفكار والمفاهيم والمبادئ التي استشهدوا في سبيلها، أو أفنوا العمر من أجلها وهو استشهاد مديد أيضاً.
بين هذه القوانين والمفاهيم والمبادئ والرؤى التي عاشها جورج حبش ورفاقه وأبناء جيله، وأسس معهم واحدة من أهم الحركات القومية العربية المعاصرة (حركة القوميين العرب)، ثم واحدة من أهم تنظيمات الثورة الفلسطينية المتجدّدة (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، يمكننا في هذه العجالة استحضار عشرة منها وذلك كفعل وفاء للراحل الكبير ورفاقه أولاً، ثم كفعل نهوض بأمّتنا وحركتها الثورية من العثرات التي وقعت بها…
أول هذه القوانين – المفاهيم هو تلازم العلاقة بين تحرير فلسطين والوحدة العربية، وهو التلازم الذي انقضّت عليه قوى عديدة بالترغيب أو الترهيب من أجل الإجهاز عليه، موحية تارة للعربي أنه بابتعاده عن فلسطين قادر على حلّ كل مشاكله، وموحية تارة أخرى للفلسطيني أنه بانكفائه عن عمقه القومي العربي يصبح أقرب إلى فلسطين، فبتنا اليوم أبعد عن أي وقت مضى عن الوحدة العربية نفسها، كما عن فلسطين، بل باتت في غياب الرابطة القومية وحداتنا الوطنية في كل قطر مهدّدة، وأمننا الوطني والقومي مستباحاً، واقتصادنا متعثراً، وتنميتنا متراجعة، واستقلالنا مهزوزاً، وسيادتنا مصابة في الصميم، بل باتت فلسطين فلسطينيات مزروعة بالمستعمرات مطوقة بأبشع أشكال الإرهاب العنصري في التاريخ.
وثاني هذه القوانين – المفاهيم هو تلازم العلاقة بين هويتنا القومية العربية الجامعة لأديان ومذاهب وأعراق، وبين الإسلام كعقيدة لأغلب ابناء الأمّة، وكثقافة وحضارة وعمق جيوسياسي لكل أبناء الأمّة، فكان جورج حبش المسيحي ديانة مسلماً ثقافة وحضارة ومدركاً أن في كل عربي، ولو كان غير مسلم، الكثير من الإسلام، وفي كل مسلم ولو كان غير عربي الكثير من العربية لساناً ولغة وثقافة وقرباً من القرآن الكريم. بل كان جورج حبش القومي العربي مدركاً للطبيعة الانسانية للقومية العربية التي ترفض كل اشكال التمييز العنصري والعرقي والاثني، مدركاً ان العروبة هوية ثقافية، وان الحريص على قوميته العربية يجب ان يكون حريصاً على الحقوق القومية للشعوب المتساكنة مع العرب في وطنهم الكبير.
أما ثالث هذه القوانين – المفاهيم فهو التلازم بين حركة التحرر الفلسطينية .. العربية وحركة التحرر العالمية، فلم تكن وطنية جورج حبش الفلسطينية، ولا عروبته القومية، حاجزاً بوجه إدراكه لأهمية إعطاء قضية الأمة بعدها الأممي، وإدراكه إن طبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني هي طبيعة عالمية، واليوم “معولمة”، لا يمكن التغلب عليها إلا بجبهة عالمية ضد الاستعمار والعنصرية وكل أشكال الاستغلال.
رابع هذه القوانين – المفاهيم هو التلازم بين القضية الوطنية والقومية وبين القضية الاجتماعية، بين كرامة الانسان وخبزه ولقمة عيشه ، فيتم تعميق المضمون الاجتماعي للنضال الوطني والقومي، ويتم رفد هذا النضال بقوى وشرائح اجتماعية واسعة قادرة على تغيير موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
فهل يمكن اليوم مثلاً أن نفصل بين الانتفاضة الوطنية الباسلة في الداخل الفلسطيني من اجل الحرية وبين الهبة الشعبية لفلسطينيي الشتات بوجه إجراءات الاونروا والتي أقل ما يقال عنها إنها جائرة وأكثر من أن يقال أنها خطيرة ومشوهة.
خامس هذه القوانين – المفاهيم هي أن الثورة ليست شعاراً نرفعه، أو هتافاً نطلقه، بل هي حلم وعلم في آن معاً، يتغذى العلم بحيوية الحلم، ويشق الحلم طريقه بقوة العلم.
ولأنها حلم وعلم معاً، كانت الثورة حياة كاملة عاشها جورج حبش مدركاً انه لا نكون ثواراً في الصباح ومساومين على حقوق شعبنا في المساء، لا ندعو للثورة في المنابر ونفرط بمبادئها في الممارسة الواقعية… لذلك لم يساوم جورج حبش ورفاقه يوماً على مبدأ من مبادئ الثورة، بل عاشوا حياتهم، بكل شظفها وقسوتها وزهدها، ليكونوا قدوة لشعبهم، رغم معرفتهم إن ما هو مطلوب من القائد الثوري ليس مطلوباً من كل مواطن، ولكن من واجب كل مواطن أن يرى في قائده الثوري مثالاً ونموذجاً يهتدي به في حياته.
سادس هذه القوانين – المفاهيم هي التلازم بين الثورة والوحدة، فكل ثورة تخرج عن الوحدة الوطنية مآلها التعثر، وأحيانا السقوط بيد الأعداء، وأي دعوة للوحدة، وطنية كانت أم قومية، لا تنطوي على مشروع ثوري للتغيير سرعان ما تتجمد وتتآكل وتنزلق في مهاوي التفتت.
ومثلما كان جورج حبش، ورفاقه مؤمنين بالثورة كانوا متمسكين بالوحدة، بل لم يكن لثورتهم سقف إلا الوحدة مدركين إن أسرع الطرق لانهيار الثورات هو الانزلاق في مهاوي التقسيم والانقسام، لذلك كان جورج حبش يفاجأ الكثيرين حين يلوذ بالوحدة الفلسطينية فيما يظن كثيرون إنه مع اعتراضاته الشديدة ومعارضته الحادة قد أدار ظهره لها.
سابع هذه القوانين المفاهيم هي أن فلسطين لا تحررها الحكومات العربية ولا المفاوضات بل الكفاح الشعبي المسلح، فالحكومات العربية إما عاجزة أو متواطئة، والمفاوضات في ظل هذا الخلل الفادح في موازين القوى هي ترسيخ للاحتلال والاستيطان، وامتصاص تدريجي لطاقات الشعوب وقدراتها الثورية.
لقد راهن جورج حبش ورفاقه في أصعب الظروف على شعبهم وأمتهم، ولم يُكذب شعبهم الفلسطيني رهانهم، فهو في حال انتفاضة متجددة تطور في كل مرحلة أساليب نضالها ووسائل مقاومتها، وتحوّل نقاط قوة العدو إلى نقاط ضعف ونقاط ضعف الشعب الفلسطيني إلى قوة، وهذه قمة الإبداع.
ثامن هذه القوانين المفاهيم هي أن استقلالية الحركات الثورية تساوي وجودها، وأن من يخسر استقلاليته يوماً يخسر دوره وفعاليته دوماً، فالإمكانات المادية ضرورة لخدمة النضال، ولكنها تصبح ضرراً إذا تحوّل النضال إلى خدمتها.
كان الحكيم ورفاقه يدركون صعوبة هذه المعادلة، فيتحملون الكثير الكثير من اجل الحفاظ عليها، وأحياناً على حساب دورهم وفعاليتهم، لكنهم كانوا يدركون ان الارتهان لأي نظام، مهما بلغت درجة التقارب معه، قيد كبير على الحركة الثورية وعبء عليها، وأحياناً يصبح عبئاً على النظام نفسه.
طبعاً كان الحكيم من مدرسة تدرك الفارق بين شعار “القرار الوطني المستقل” الذي ينطوي على إغفال العمق القومي لقضية فلسطين، وبين شعار ” استقلالية الثورة” عن الارتهان للواقع الرسمي العربي، فالأول ينطوي على مخاطر كثيرة، فيما الآخر يحمل ايجابيات كبرى
تاسع هذه القوانين – المفاهيم ان الديمقراطية ممارسة قبل ان تكون صيغ عمل واشكالاً قانونية ودستورية، وان على المؤمن فعلاً بالديمقراطية ان يمارسها في سلوكه وعلاقاته وفي المؤسسة التي ينتمي اليها، بل ان تكون دائما مقترنة بأرقى أشكال التواضع وهو “ان تعتبر رأيك صوابا يحتمل الخطأ ورأي الاخر خطأ يحتمل الصواب”.
لذلك حرص جورج حبش على الدعوة إلى المراجعة المستمرة للتجارب، وعلى كل المستويات، مثلما حرص على تداول المسؤولية فتخلى عن الأمانة العامة للجبهة الشعبية لكي يخلفه قائد شهيد على يد الاحتلال هو أبو علي مصطفى، وقائد أسير في سجون الاحتلال منذ 10 سنوات هو المناضل احمد سعادات سيقدم بهذه المبادرة نموذجا في حياتنا الحزبية والسياسية التي يأبى كثيرون من أقطابها التجديد والتحديث والمراجعة.
عاشر هذه القوانين – المفاهيم وأهمها هو إيمان جورج حبش ورفاقه بالجماهير وإدراكه إن في جماهير شعبنا وامتنا من القوة ما يمكن أن يحقق المعجزات، لا سيما إذا توفرت لها القيادة والرؤية والآليات والبرامج السليمة، دون أن يقلل أبدا من المصاعب الضخمة التي تعترض العمل الحقيقي بين الجماهير التي تبقى هي الضمانة وهر المرجع الأول والأخير. من دون ان يقلل من مخاطر الانقضاض على العفوية الجماهيرية وإساءة استغلالها وتجويفها وحرفها عن المسار الصحيح.
لم يكن الراحل الكبير الدكتور جورج حبش مجرد قائد ثوري، أو مناضل وطني وقومي وأممي بارز فحسب، بل كان أيضاً مدرسة في الحياة الثورية اقترن فيها الفكر بالممارسة، والثقافة بالالتزام، والمبادئ بالأخلاق، فاستحق لقب ” ضمير الثورة وحكيمها وحارس ثوابتها معا”، بل جسّد مع رفاقه المؤسسين والشهداء واحدة من أجمل حكايات فلسطين والأمة العربية.
التعليقات مغلقة.