السلطة الفلسطينية.. «الجندي الإسرائيلي المجهول»!
الأردن العربي ( الجمعة ) 29/1/2016 م …
كتب عباس الزين …
منذ اندلاع “الإنتفاضة الفلسطينية” في تشرين الاول من العام الماضي، واجهت السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس تحدّيًا كبيرًا لناحية الوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني في هبته، أو السير بالإتجاه المعاكس، والحفاظ على التنسيق الأمني والسياسي مع حكومة الاحتلال “الإسرائيلي”. لم تكن خيارات السلطة كثيرة، والأمر لا يحتاج الى مشاورات بين اركانها لإتخاذ قرار في هذا الشأن، فالأمور واضحة المعالم، وليست بحاجة الى دراسة معمقة للأحداث، او التحقيق بمجرياتها لمعرفة إذا ما كان الشعب الفلسطيني على حق في تحركاته، ففي هذا الموضوع بالتحديد، إما ان تستسلم للمشروع “الإسرائيلي”، وإما ان تقاوم، وأي مباحثات ومشاورات مباشرة مع “اسرائيل” هي بالدرجة الأولى إعتراف، بغض النظر عن ان تلك المفاوضات ستكون ضد إرادة معظم الشعب الفلسطيني.
يحاول البعض عدم تحميل السلطة الفلسطينية الحالية مسؤولية ما يجري من تنسيقٍ امني وسياسي مع الكيان الصهيوني، ووضع الامور في سياق إتفاق “اوسلو” وتبعاته على الساحة الفلسطينية، إلّا أنّ تعامل السلطة الفلسطينية الحالية مع الإنتفاضة بشكلٍ خاص، وعلاقتها مع الإحتلال “الإسرائيلي” بشكلٍ عام، تخطت حتى اتفاق “اوسلو”، لتأخذ “اسرائيل” من السلطة الفلسطينية الحالية أكثر من الإتفاق على مراحل وبشكلٍ تدريجي.
كشفت حرب غزة الأخيرة، وما تبعها من عمليات متفرقة للشباب الفلسطيني، وصولًا الى انطلاق “انتفاضة السكين” وتكثيف العمليات في الضفة والقدس والداخل الفلسطيني، عمق العلاقة بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، الى درجة يقف فيها الشاب الفلسطيني في مواجهة امن السلطة، قبل ان يُقدم على اي عملية ضد الإحتلال، لتبرُز السلطة نفسها كخط الدفاع الأول عن الأمن “الإسرائيلي”. وما اعترف به مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج مؤخرًا، عن تمكن “أجهزة أمن السلطة من إحباط تنفيذ 200 عملية ضد الجيش “الإسرائيلي” خلال الأشهر الثلاثة الماضية، أي منذ بدء الإنتفاضة، يؤكد التنسيق التام الذي لا يجبرهم حتى اتفاق “اوسلو” عليه. والأخطر في كلام فرج هو ما عبّر عنه بقوله إنّ “العنف والإرهاب لن يقربا الفلسطينيين من تحقيق حلمهم”، واصفًا العمليات التي يقوم بها الشباب الفلسطيني بالإرهاب، وهنا يظهر كأن عنصرًا في “الشاباك” يتكلم، لا شخصًا مسؤولًا امام قضية شعبه، التي يدفع ثمنها يوميًا شهداء وجرحى وأسرى.
ضغطت الحكومة “الإسرائيلية” بشكلٍ مكثف على السلطة الفلسطينية، منذ بدء الإنتفاضة الأخيرة، من أجل إيقاف العمليات التي يقوم بها الشباب الفلسطيني، بيد ان الحل السحري الذي نفى يعلون وجوده لإيقاف العمليات بالتأكيد لن يتواجد في يد محمود عباس، غير القادر على تنظيم شؤونه السياسية، وخاصةً أنّ العمليات التي تجري تنطلق بمعظمها بشكلٍ شبه فردي، والسلطة الفلسطينية غير معنية بالضغط على أي فصيل فلسطيني لإيقاف عملياته. انطلاقًا من هنا، بدت السلطة الفلسطينية عاجزة عن إرضاء الطرف “الإسرائيلي”، بالإضافة الى خسارتها الشارع الفلسطيني المنتفض.
نفت السلطة الفلسطينية خلال الأيام الماضية اي مساعٍ من قبلها للقاء نتنياهو، في ظل تأكيد “اسرائيلي” على ان السلطة طلبت اللقاء ونتنياهو رفض ذلك، لكن ما حصل مؤخرًا من لقاءٍ جمع الوفد الأمني الفلسطيني مع نتنياهو، واتفاق الطرفين على تهدئة الأوضاع، يُثبت ان نفي السلطة لم يكن إلّا لحفظ ماء وجهها، والمساعي صحيحة والرفض كان موجودًا الى حين قبول نتنياهو باللقاء، وتلميع الصورة لأسباب انتخابية لم يجدِ نفعًا.
الصراع الفلسطيني مع “اسرائيل” في جوهره وبكل مكوناته وفصائله ليس صراعًا من اجل مكاسب سياسية او امنية، بل هو صراع وجودي يأخذ في عين الإعتبار الحق الفلسطيني بالأرض قبل كل شيء، والمخاوف “الإسرائيلية” تصب في هذا الفهم للقضية الفلسطينية، فمهما حافظ الفلسطيني على فكرة عدم الإعتراف بـ”اسرائيل”، فإنّ المخاوف “الإسرائيلية” ستزداد، بحيث ان كلمة “سلام” تريح الصهاينة، لعلمهم انها تعني إعترافًا بوجود كيانهم، لذلك يحاول الصهاينة فرض واقعهم العسكري والسياسي، من اجل الخروج بأقل الخسائر، فيظن البعض أنّ قبول “اسرائيل” بالسلام وحل الدولتين هو تنازل “اسرائيلي” يجب أخذه بعين الإعتبار والعمل به.
وفي هذا السياق، فإنّ المهمة المطلوبة من السلطة الفلسطينية الآن، بالتنسيق مع الجانب “الإسرائيلي” والأطراف الدولية، هي العمل على تحميل الشعب الفلسطيني مسؤولية عدم وجود دولة فلسطينية مستقلة، الى جانب “دولة اسرائيل”، عبر إظهار الصورة على ان “الفلسطيني لن ينعم بالراحة والأمان الإقتصادي إلا اذا تقبّل فكرة وجود “اسرائيل””. بناءً عليه، فإن السلطة الفلسطينية تدخل في عملية ما يُسمى بـ”كي الوعي” للشعب الفلسطيني، عبر تمرير الخطابات الداعية الى التهدئة وإيقاف العمليات لما فيه مصلحة فلسطينية حسب اعتبارها، فكان خطابها المستمر والداعي الى مطالبة الشعب الفلسطيني بحقوقه، لكن بالطرق السلمية، هو الخطاب الموجه للإنتفاضة، وكأن “اسرائيل” القائمة على الهمجية والإرهاب بحق شعوب المنطقة تنفع معها الطرق السلمية.
الفكر “الإسرائيلي” غير قائم على تقبل الآخر، كائنًا من كان، إلّا اذا استسلم له، والوعود “الإسرائيلية” ببناء دولة فلسطينية مستقلة ليست إلّا فخًا ينصبه الصهاينة للشعب الفلسطيني، الذي يقف بإستمرار بوجه تلك المؤامرات.
تلك الإستراتيجية التي تتبعها “اسرائيل”، تنوي من خلالها تهدئة الشعب الفلسطيني وإخراج فكرة حق العودة واستعادة كامل الأرض الفلسطينية من الوجدان الفلسطيني، عبر الوعود بالدولة المستقلة، ومن ثم الإنقضاض على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في الضفة والقدس وغزة، لتنفيذ المشروع “الإسرائيلي” الاكبر بدولة من النيل الى الفرات، كما حصل مع الهنود الحمر في القارة الأميركية، عندما وعدهم المستعمر الأوروبي بدولة فقط كي يسلب منهم الحق في المقاومة، ومن ثم بنى دولته على انقاض الوعود السابقة.
مُخطئٌ من يظن أنّ “اسرائيل” عدلت عن الفكرة التوسعية في المنطقة، وانها راضية بما استولت عليه، فالإطمئنان لـ”اسرائيل” هزيمةٌ واستسلام.
أما السلطة الفلسطينية، فإنها تقف بوجه المشروع الفلسطيني المقاوم، وتعمل تحت الأجندة “الإسرائيلية” الداعية الى الإستسلام، وقد حققت الإنتفاضة الاخيرة انتصارًا مهمًا لناحية تجاوز سياسيات محمود عباس، وعدم الإعتراف بالحلول السلمية مع “اسرائيل”. فالعمليات الفدائية المستمرة كرست واقعًا جديدًا، استطاعت من خلاله الإنتفاضة فرض الوجود الفلسطيني في الضفة والقدس والداخل ايضًا، مما يجعل الإنتفاضة في مواجهة واحدة مع طرفين، الأول “اسرائيلي” يلبس قناع القضية الفلسطينية، والثاني “اسرائيلي” يلبس قناع السلام مع “السلطة الفلسطينية”.
التعليقات مغلقة.