هل بدأت حقبة الصين أو “القرن الصيني”؟ / الطاهر المُعِز

 

الطاهر المُعِز ( تونس ) الجمعة 19/2/2016 م …

تعرّضتُ سابقا إلى الإستراتيجية العسكرية الأمريكية الهادفة إلى محاصرة الصين “في عقر دارها” وتلجيم طموحاتها في منافسة الولايات المتحدة (نشرة “كنعان” الإلكترونية – العددين 2938 و 2939 بتاريخ 08 و 09 تموز/يوليو 2012)، وهي سياسة هجومية أمريكية مُسْتَمِرّة منذ تأسيس الولايات المُتحدة، فيما تنتهج الصين “سياسة الظل” وتحاول تجنُّب الأضواء وعدم جلب الإنتباه، ولذلك طَوَّرت اقتصادها (على النمط الرأسمالي) مع محاولة تجنُّب منافسة أقطاب الرأسمالية مباشرة، فنما اقتصاد الصين على كاهل البلدان الفقيرة وخصوصا في افريقيا، حيث الموارد الطبيعية والحاجة إلى القروض والإستثمارات والسلع الرخيصة، ولو كانت رديئة، وبعد نحو ثلاثة عقود أصبحت الصين تنافس الولايات المتحدة وأوروبا واليابان في مجالات كانت حكرا عليها مثل الإتصالات والتقنيات الحديثة والحواسيب ولوحات إنتاج الطاقة الشمسية والفضاء الخ، فبدأ الحديث عن البيروقراطية والفساد وعدم احترام “حقوق الإنسان” وحقوق العمال، وعن تشغيل الأطفال، والمنافسة غير النزيهة… ما يهمُّنا بشكل خاص هي علاقة الصين بمنطقتنا العربية وما حولها (تركيا وإيران ) وما هو موقع الوطن العربي في استرتيجية كل من الولايات المتحدة والصين، بما أن أنظمتنا لا تفعل في التاريخ بل تخضع لنتائج سياسة القوى الكبرى، لنعرف ما ينتظرنا من مصائب…         

أعلن عدد من السياسيين الأمريكيين ان القرن الحالي سيكون “قرنا أمريكيا”، وكأن هيمنة أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن هي مجرّد تمارين على فرض هيمنة حقيقية هي “بصدد الإنجاز”، لكن محاولات الصين وروسيا (وكلاهما ضمن مجموعة “بريكس”) التصدي لهذه الهيمنة المُطْلَقَة أحدث بعض الشروخ في “الصَّرْح الأمريكي”… نما الناتج المحلي الصيني خلال العقد الماضي بمتوسط 10% سنويا وَمَثَّلَ نحو 1% من الناتج العالمي سنة 1978 ثم تجاوز 5% سنة 2007 ويتوقع أن يتجاوز الناتج المحلي الأمريكي بضعفين ونصف سنة 2030 واهتمت الصين بتنمية الإقتصاد في حين “أهملت” التحصين الدفاعي العسكري لفترة ثلاثة عقود، وعملت الولايات المتحدة على محاصرتها بمراقبة الممرات المائية وطرق إمدادات النفط، واضطرت الصين في السنوات الأخيرة إلى رفع الإنفاق العسكري إلى ما بين 30 و 35 مليار دولار سنويا، وهو مبلغ ضئيل جدا مقارنة بالإنفاق الأمريكي… تجنب الحزب “الشيوعي” (ليس له من الشيوعية سوى الإسم الموروث منذ أكثر من 90 سنة) وقادة الصين منافسة الإقتصاد الأمريكي والأوروبي والياباني طيلة أكثر من ثلاثة عقود، وتطور الإقتصاد الرأسمالي الصيني بمصادرة أراضي الفلاحين واستيلاء قيادات الحزب على أملاك الشعب (الدولة)، وفي الخارج تطورت هيمنة الصين بتكسير القاعدة الإقتصادية المحلية المبْنِيّة على الحرف والصناعات التقليدية في البلدان الفقيرة (افريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية) وأغرقت هذه الأسواق بالمنتوجات الرخيصة والرديئة التي تنافس الصناعات المحلية، مع إقبال الصين على شراء المواد الأولية (نفط، معادن، قطن…) واستخدم الإستثمارات الحكومية لتشغيل الشركات الصينية بعمال وموظفين وفنِّيين صينيين (أكثر من مليون صيني يعملون في افريقيا سنة 2014)… 

في الوطن العربي وإقليم “الشرق الأوسط”، يحاول النظام الصيني تفعيل إرث مجموعة عدم الإنحياز التي كانت الصين من مؤسسيها سنة 1955، فيما طورت علاقاتها مع الكيان الصهيوني اقتصاديا وعسكريا، خصوصا بعد اتفاقيات أوسلو، ولم تعترض الصين (وكذلك روسيا) على العدوان على العراق سنة 1991، ولم تعارض جوهر الحرب سنة 2003 ولكنها أسست سنة 2004 “منتدى التعاون العربي الصيني” الذي حاولت الصين من خلاله سنة 2010 إقامة “علاقات تعاون استراتيجي” بدأت تتجسَّد فعليا سنة 2014 خلال انعقاد الاجتماع الوزاري السادس للمنتدى، بالتزامن مع ارتفاع سقف طموحات الصين نحو زعامة العالم ومنافسة الولايات المتحدة التي بدأ نفوذها يترنّح في عدد من مناطق العالم، منها أمريكا الجنوبية التي كانت تعتبرها “باحتها الخلفية”، ولكن هذا “التنافس السلمي” (أو نصف السلمي) قد يستمر عقودا… يشكل النفط عنصرا هاما في سياسات الولايات المتحدة التي تريد التحكم في منابع النفط وفي مَمَرَّاتِهِ، من ذلك قرار الرئيس “باراك أوباما” -الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في بداية الفترة الأولى من رئاسته- تحويل نحو 60% من القوة العسكرية البحرية (رأس حربة الجيش الأمريكي، بفضل حاملات الطائرات) نحو مناطق آسيا المُجاورة للصين، وإنشاء قاعد عسكرية ضخمة شمال استراليا وإعادة هيكلة شبكة القواعد العسكرية الأمريكية في الفلبين واليابان وكوريا الجنوبية وعودة القواعد إلى فيتنام -بعد أربعين سنة من هزيمة أمريكا- ولم تَتَسَتَّر أمريكا عن أهدافها المتمثلة، بحسب التصريحات الرسمية، في التحكم في الممرات المائية في المحيط الهادئ والمحيط الهندي وبحر الصين الشرقي والجنوبي، وعلى الطريق التجاري البحري لإمدادات الصين بالنفط والمعادن وغيرها، من أجل خنق الصين اقتصاديا، إذا اقتضت الضرورة ذلك، وحصارها عسكريا إذا تطورت الخلافات بين العملاقين… اعتبرت الصين (وهي على حق في ذلك) انها مُسْتَهْدَفَة من هذه المخططات العدوانية (التي بدأ تنفيذها منذ أكثر من سنتين) ما اضطرها إلى رفع ميزانيتها العسكرية التي “أهملتها” لفترة تفوق ثلاثة عقود، كما ذكرنا، وتطوير قُواتِها ومُعدَّاتِها البرية والبحرية، في ظرف وجيز نسبيا، من أجل حماية الممرات المائية والإمدادات النفطية، خصوصا وقد أصبحت أمريكا تساند علنا خصوم الصين (اليابان والفلبين وفيتنام…) بخصوص الخلاف حول جزر صغيرة لكنها غنية بالمعادن وذات موقع استراتيجي، في بحر الصين الشرقي والجنوبي…

بالعودة إلى العلاقات الصينية العربية، اعتبرت السعودية هذه المخططات الأمريكية بمثابة التَّخَلِّي عنها وعن منطقة الخليج، فحكام السعودية قاصرون عن التفكير وعن تصور، بالأحرى انتهاج سياسة مستَقِلّة عن بريطانيا سابقا ثم الولايات المتحدة حاليا، وبالأخص بعد اتفاق إيران مع الدول “الغربية” حول رفع العقوبات، وبدأ آل سعود يتصلون بروسيا والصين ويعقدون معهما بعض الصفقات الصغيرة للسلاح أو بناء منشئات لإنتاج الطاقة الخ بهدف الضغط على أمريكا، كما اتبعوا نهج المُغَالاَة في تخريب البلدان العربية (سوريا والعراق واليمن وليبيا، وربما الجزائر ومصر مستقبلا)، ويتمثل طموح آل سعود وآل خليفة وآل ثاني وآل الصباح في إبقاء القواعد الأمريكية (بل وتوسيعها) في الخليج، لحمايتهم من إيران، التي أصبحت عدوا رئيسيا فيما أصبح الكيان الصهيوني صديقا (نيابة عن أمريكا؟)، أما الصين فتتأثر تحالفاتها وسياستها الخارجية ببضعة عوامل منها تأمين موارد الطاقة والمواد الضرورية لتطورها الإقتصادي كي تنافس الولايات المتحدة، وتحتل مكانها في الهيمنة على العالم، وهذه الموارد موجودة في افريقيا، وبالأخص في المنطقة العربية (الخليج) وما حولها (إيران)، ولذلك بقيت علاقات الصين وثيقة مع إيران أثناء فترة العقوبات والحظر، ما جعل حكام إيران “يكافئون” دولة الصين، ويُعْتبرُ نفط المنطقة أمرا حيويا للصين التي ارتفعت حاجتها للنفط بمعدل 5,1 مليون برميل يوميا بين سنتي 1980 و2005 بينما زادت الولايات المتحدة من استخدامها للطاقة النفطية بمعدل 3,6 مليون برميل يوميا، وتحتل إيران مكانة هامة في الإستراتيجية الصينية، بحكم موقعها الجغرافي في طريق النفط، بين مضيق “هُرْمُز” وآسيا الوسطى، وسوقها العواسعة (نحو 90 مليون نسمة) واستقرار نظامها السياسي ورغبتها في تأسيس قطب منافس للولايات المتحدة، إضافة إلى ثراء أراضيها بالنفط والغاز، وبدا ذلك جلِيا أثناء زيارة الرئيس الصيني إلى إيران (إلى جانب السعودية ومصر) في بداية العام 2016، الذي عبر عن رغبته في رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين عشرة أضعاف من ستين مليار دولار حاليا (بسبب العقوبات) إلى 600 مليار دولار خلال عقد من الزمن، تتويجا للعلاقات التي تَمَتَّنَتْ خلال فترات الشِّدَّة، وتمثل إيران بالنسبة للصين أهمية أكبر من السعودية، فضلا عن تبعية السعودية ومكانتها في الاستراتيجية الأمريكية، وتختلف مواقف وممارسات الطرفين حيال سوريا والعراق التي تعتبرها الصين إحدى أهم محطات “طريق الحرير البري” الذي تعمل على إنشائه كإحدى مراحل الهيمنة الإقتصادية على أجزاء واسعة من العالم، ولكن الصين رحَّبَتْ بانضمام مصر والإمارات والكويت وقطر إلى “المصرف الآسيوي للاستثمار” الذي أنشأته الصين، بهدف كسر هيمنة الولايات المتحدة على صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وبالمقارنة مع إيران فإن حجم التبادل التجاري بين بكين وما سُمِّي “منطقة الشرق الأوسط” (أي البلدان العربية) ضعيف رغم ارتفاعه عشر مرات من 20 مليار دولار سنة  2003 إلى حوالي 200 مليار دولار، وقد يصل إلى حوالى 500 مليار دولار سنة 2020، أي أقل من حجم التبادل التجاري مع إيران لوحدها، وخلال الزيارة المذكورة للرئيس الصيني وقَّعَت حكومتا الرياض وبكين 14 اتفاقية في عدة مجالات منها النفط والطاقة النووية، ونظرا لأهمية الطاقة في توجُّهات الدبلوماسية الصينية، أنفقت شركات النفط المملوكة للدولة أكثر من 15 مليار دولار بين 2000 و2005 لشراء أسهم في مائة شركة نفطية أجنبية، إضافة إلى حقوق الاستكشاف والتنقيب عن النفط في الحقول الأجنبية، واتفقت الصين مع السعودية على إنجاز مشروع مشترك لمصفاة نفط بقيمة عشرة مليارات دولار، تملك شركة النفط الوطنية الصينية “سينوبيك” نحو 35% من أسهم المشروع، وخلافا لإيران فإن السعودية غير موثوقة وقد يكون هدف التقارب مع الصين تعبيرا عن الغضب من أمريكا إثر قرار رفع العقوبات عن إيران، فيما تدعو الصين إلى “التريث وحل الأزمات بالحوار”… أما مصر فإنها من حيث الرّمز تؤوي مقر الجامعة العربية وهي إحدى الدول المؤسسة لمجموعة عدم الإنحياز (كان ذلك زمنا قد تَوَلّى) وتتمتع بموقع استراتيجي في طريق الإمدادات (قناة السويس) وتمثِّل سوقا واسعة للشركات والسلع الصينية، ووقع الرئيس الصيني في مصر 21 اتفاقية بقيمة 15 مليار دولار  في قطاعات الكهرباء والبنية التحتية، بما في ذلك بناء “العاصمة الجديدة”، إضافة إلى قروض مصرفية (في شكل ودائع) بنحو ملياري دولار لتعويض نقص العملة في البنك المركزي والبنك الأهلي (حكومي)، بحسب صحيفة “الأهرام” الحكومية… تبحث السعودية وحكام الخليج عن بديل للدور الأمريكي، في حال تغيرت الإستراتيجية الأمريكية واستغنت عن خدماتهم، لكن الصين لا تنتهج سياسة التصالدم أو المنافسة المباشرة وتتحاشى أي مجابهة مع الولايات المتحدة وترغب في “مسك العصا من النصف”، فهي من ناحية تبحث عن عقود لشراء النفط أو لبيع إنتاجها بما في ذلك الأسلحة (صواريخ وأنظمة جوِّية للسعودية وللإمارات)، بعد تلكُّأ أمريكا، ومن جهة أخرى لا ترغب في التصادم مع الولايات المتحدة، ولكنها تُدافع على مصالحها بواقعية سياسية (براغماتية) بالتحالف مع روسيا، التي تُزوِّد المصانع والمدن الصينية بالنفط والغاز، لكن بشروط فرضتها الصين، وللصين وروسيا حليف موثوق في منطقة الخليج يمتثل في إيران، التي وافقت وفق منطق الواقعية السياسية أيضا (البراغماتية) على هبوط طائرات عسكرية صينية خلال مناورة عسكرية بين الصين وروسيا في أيار 2015… في غياب سياسة عربية مشتركة ومستقلة عن الأحلاف والقوى الخارجية (أو تنسيق سياسي وهو أضعف الإيمان)، وفي ظل هيمنة السعودية على الجامعة العربية وعلى القرار الرسمي العربي، تبقى المنطقة تحت الهيمنة، وسواء كانت الهيمنة أمريكية أو أوروبية وربما صينية أو روسية إذا أو بعد غد، يبقى التفوق للكيان الصهيوني وتركيا وإيران، وهذه الأخيرة تمتلك استراتيجية وتدافع عن مصالحها كدولة بشراسة ولا تتنازل عنها، ولن يستفيد الوطن العربي والشعوب العربية من الصراع بين القوى العظمى، إذا كنا نفتقد إلى برنامج واستراتيجية تجعل من تحرير أراضينا المغتصَبَة ومن استقلالنا الإقتصادي ومن التوزيع العادل للثروات الضخمة ومن المساواة في الحقوق بين المواطنين والمواطنات أولوية قصوى تخضع لها باقي السياسات… 

* جل البيانات من مجلة “فورين أفيرز” (امريكا) – موقع “الإقتصادية” (السعودية)” والأخبار” (لبنان)، إضافة إلى بيانات اقتصادية سبق أن أَوْرَدْتُها في مختلف أَعْدَاد “النشرة الإقتصادية” الأسبوعية (مجلة “كنعان” الإلكترونية، كل يوم سبت)  

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.