الحاج عيسى ..دفن طفلاً .. ومات على قارعة طريق ! / محمد شريف الجيوسي

 

 

محمد شريف الجيوسي ( الأردن ) الأربعاء 28/1/2015 م …

كان الحاج عيسى يمت بقرابة للوالد ، يعيش في بيت أشبه بالمغارة في أحد جبال عمان الأشد فقراً ، عاش حياة ضنكة قبل أن يعي طفولته الأولى ، ويقال أنه دفن حياً وهو طفل ظنا من أسرته الصغيرة أنه قد توفي ، ليتبين في صبيحة اليوم التالي لدفنه أنه ما زال حياً فتم نبش قبره وإخراجه منه .

وشبه أقران عيسى  دفنه وهو حي ، بـ ( البس ) في إشارة الى ما تتداوله الثقافة الشعبية من ان القطط 7 أرواح .. فكان ينادى بـ عيسى ” البس ” ولم تكن والدته الأرملة قادرة على منع ذلك ، فوالده أحد الذين غادر بلدته للإلتحاق في واحدة من حروب تركيا ربما كانت سفر ( برلك ) .

هجر عيسى بلدته الى العراق ، وتنقل بين البصرة وبغداد ، ومكث هناك عقوداً ، وتزوج من سيدة عراقية بسيطة وانجب منها ابنة وولدين أو بالعكس ، في حياة عادية هادئة هانئة .

ذات يوم من ايام الحرب العراقية الإيرانية ، عاد كعادته من عمله الى بينه ، فوجده خراباً ، وقد أصيب بقاذفة أودت فيما أودت بزوجته العراقية وبنيه . كانت الصدمة قاسية على الحاج عيسى وقد بلغ من العمر ما بلغ ، ولم يكن في مستطاعه البقاء على أنقاض ذكرى مرة ، حيث لم يبق له هناك أحد .

ارتحل الحاج عيسى مدثراً بالألم الى الأردن ، فالعودة إلى فلسطين أشد استحالة من المحال ، وحيث غادر بلدته صغيراً ، فالأغلب أنه لا يمتلك أو لا يعلم أنه يمتلك فيها شيئاً .

بحث الحاج عيسى عن بقايا ” شروشه ” فوجد بعضهم ممن يتصل بهم في الجد الرابع ، أقام عندهم فترة ، لكن فقرهم من جهة ، وظنونه بأنهم ” أكلوه ” عصفت بالقدرة على احتماله ، فلجأ الى ابن عمومة آخر ، يعود الى الجد الخامس ، لكنه هناك أيضا تصرف بطريقة لا تبعث على احتماله من الزوجة، فكان ( الخروج )الأخير.. وفي هذا يبدو أن السن والحزن الممض وتوابعهما قد بلغا منه مبلغا ، فتصرف بما لا يليق ، وبما لا يسمح لقريبه باحتماله ، اواقناع الزوجة على الاحتمال . 

ووجد في تلك المغارة القريبة من أحد المساجد مستقراً أشد سوءاً من السوء ،  حيث لا حمام و مغسلة ولا اي شيء من معالم الحضارة ، كان يزور اسرة يعود والدها الى الجد الرابع في مدينة مجاورة ، وهناك كان يبث أحزانه ويلقي أشعارا حزينة باللهجة العراقية يبكي فيها أسرته التي فقدها في حرب لا ناقه له بها ولا جمل ، لتكتمل حلقة جديدة من حلقات أحزانه ابتداءً بدفنه حياً في طفولته الأولى .. فيما كانت صبايا ابن الجد الخامس يستمعن بخشوع لأشعاره وتدمع عيونهن .

ولما عاد صاحبنا من بلد مجاور ليستقر هنا ، وجد أن عيسى يحتل في ذاكرة اهله ووالدته وبناته ، عطفاً وإشفاقاً ، وكانت والدته  المسنة التي لا يربطها رابط قربى مباشرة بالحاج عيسى ؛ كثيرا ما تحثه على زيارة الحاج عيسى والسؤال عنه حيث يقيم ، وفي مرة من زياراته له ، كانت الثلوج قد غطت الطرق في العاصمة عمان في موجة الثلوج التي عمت البلاد سنة 91 ـ 1992 .. إثر الحرب على العراق.. لم يكن من سبيل للوصول الى الشيخ عيسى إلا الصعود الى الجبل مشياً على الأقدام وسط الثلوج والبرد القارس .

كان الحاج في كهفه اشد سوءا من السوء ، يبصق اينما كان ، وقد امتلأ المكان بروائح سيئة ، ولم يتوقف الأب عن زيارة عيسى بل زاره مرات مع خطيبته ثم زوجته .

ورغم سوء حال الحاج عيسى كان يحرص على زيارة صاحبنا بين حين وآخر ، سواء في المدينة المجاورة ، او بعد انتقاله لعمان ، وكان حريصاً على أن يلبس ملابس نظيفة ، وان يحمل معه كيسا من ورق به ولو بضع حبات من برتقال أو سواه ، وعندما كان يقال له ( ليش غلبت حالك يا حاج عيسى ) كان يقول ، أن تدخل وبيدك كيساً  ولو فارغاً منفوخاً أفضل من ان لا تحمل شيئاً ،؛ كان كريما بحدود طاقته .

كانت المرة الأخيرة التي التقاه صاحبنا فيها كانت في منزله الجديد بعمان ، كان يهم بالذهاب لمتابعة عمله ، استأذنه وخرج ، كان الوضع صعباً ، مرت فترة دون أن يراه ، حتى وجد يوماً صورة لمتوفى يشبهه ، لكن لم يخطر بباله أبداً أنه هو ، كانت الصورة في الصحيفة قد مر على تاريخها بعض وقت ، توفي فيما يبدو على قارعة طريق ما ، رأى الصورة في حينه أحد ما فعرفه ، فتولى واجبات مواراته التراب .

يسجل صاحبنا صفة جميلة للحاج عيسى إضافة إلى كرمه بالقياس لإمكاناته ، أنه كان حريصا على لم شعث عائلة لم يجد موطيء قدم مستقر داخلها ، لاعتقادها انه تصرف بعباطة تجاهها . ورغم تقادم الزمن بقى الحاج عيسى (يرحمه الله ) في الذاكرة حالة نموذحية لحزن ممض ، وغربة ، وسعي في مناكب حياة ليست يسيرة عليه منذ وقت مبكر جداً من حياته المليئة بالمعاناة والمشقة .  

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.