مضايا : صورة الحرب السورية / عمر عبد الأمير
عمر عبد الأمير ( الجمعة ) 26/2/2016 م …
المفارقة الكبيرة أنّ رأس حربة حملة مضايا هم من مناصري فصائل تكفيرية وإبادية المنهج والخطاب
مضايا، اسم جديد يتحوّل الى قصة جديدة من بين مئات قصص الحرب السورية على مدى 5 سنوات. أساسها مجاعة غير مسبوقة تحلّ بسكان قرية مضايا السورية، حيث انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الصور التي تظهر أجساداً تحولت إلى شبه هياكل عظمية. المجاعة المفترضة سببها حصار القوات الحكومية وحلفائها -حزب الله تحديداً- لهذه القرية. فهل هناك فعلاً مجاعة؟ وما قصة هذا الحصار العسكري المفروض عليها؟
هدنة فمعركة… فهدنة فمعركة!
منذ اشتعال الحرب السورية، خرجت العديد من القرى والمدن (خصوصاً الأرياف) من تحت سيطرة الحكومة السورية، وكانت مضايا إحدى هذه المدن. وفي خضم هذه الحرب اتبعت الحكومة استراتيجية الهدن أو التسويات في بعض المناطق، عن طريق وساطات وجهائية من أهل تلك المناطق. على إثر هذه التسويات يتم تطبيق وقفٍ لإطلاق النار، على أن يبقى مسلحو المعارضة كحرس داخلي للمنطقة في ما تكون قوات الحكومة خارج المنطقة، كما في حالة معضمية الشام وبرزة مثلاً. وفي حالات أخرى يتم عقد مصالحة بين الحكومة ومسلحي المعارضة بحيث يعفى عنهم وتدخل المنطقة تحت سيطرة الحكومة مثل ببيلا ويلدا. مضايا بدورها شهدت أكثر من حالة بين هدن وتسويات حتى وصلت إلى هذه اللحظة. في فبراير/ شباط 2012، بدأ الجيش السوري عملية لاستعادة السيطرة على مضايا، حيث كان محيطها تحت سيطرة الحكومة. أسفرت بداية المعارك عن وقف للعملية ونجاح تسوية لتجنيب البلدة الدمار. لكن بعد أشهر عديدة انهارت الهدنة لتعود وتبرم تسوية أخرى في مطلع 2014 ضمن فترة التسويات التي شملت مناطق عدة في ريف دمشق كبرزة المعضمية، وترافق معها عفو عن عشرات المسلحين ودخول التلفزيون السوري للبلدة وإجراء لقاءات مع الأهالي والمسلحين الذين قبلوا بالتسوية. سرعان أيضاً ما سقطت تلك الهدنة، وسقوط الهدن المتكرر يرجع لأسباب عدة: لجوء مسلحين وافدين للمنطقة على إثر المعارك في القرى المجاورة في ريف دمشق الجنوبي كالزبداني أو المعارك في قرى القلمون وريف دمشق الشرقي، وأيضاً وجود عدد مؤثر من مسلحي المعارضة المتشددين التابعين لجبهة النصرة الذين يرفضون مبدأ التسويات مع النظام.
رغم ذلك لم ييأس الساعون لتجنيب مضايا أتون الحرب في لجنة المصالحة داخل القرية، رغم ما واجههم من عراقيل وصلت الى مرحلة التصفية الجسدية (حيث اغتيل أحد أعضاء هذه اللجنة داخل مضايا حسن نعمة) فأبرمت تسوية جديدة في مطلع عام 2015 ، يتم على إثرها خروج المسلحين الرافضين للتسوية للجبال على حدود القرية، ويرفع العلم السوري داخلها ويتم إدخال التموين بشكل طبيعي. لكن هذه التسوية أيضاً لم يكتب لها الاستمرار طويلاً، فانهارت مع اندلاع معركة الزبداني التي أطلقها الجيش السوري وحزب الله ضمن جهود الأخير في تأمين الحدود اللبنانية السورية من الجماعات المسلحة المعادية له، بعد معركة القصير ومعارك قرى وجرود القلمون.
وضع حد لهذه المعاناة هو بإيقاف الحرب لأنّ قدرة الحسم العسكري لأي طرف هي محض وهم
مع بدء معركة الزبداني، أخلى الجيش السوري وحزب الله مدنييها إلى بلدات مضايا وبلودان وبقين، حيث لم تكن تلك المناطق ضمن نطاق العملية العسكرية. لكن مع اشتداد الخناق على مسلحي المعارضة داخل الزبداني، قام مسلحو مضايا بمهاجمة مراكز الجيش السوري وحزب الله لتخفيف الضغط على نظرائهم داخل الزبداني و إمدادهم عبر الأنفاق، فاندلعت مواجهات محدودة بين الطرفين ودخلت مضايا مجدداً في المواجهة العسكرية بسقوط آخر تسوية.
لكن قدرات مسلحي مضايا لم تكن في وارد إعاقة عملية الزبداني العسكرية، لذلك مع اندلاع معركة الزبداني قام جيش الفتح في إدلب، وعلى رأسه عبد الله المحيسني بعملية انتقامية على قريتي الفوعة وكفريا. وظهر المحيسني على قناة “أورينت” المعارضة مهدداً «إلى كل من سيبكون وسينددون إذا رأوا المجازر هنا [في كفريا والفوعة] سنقول على نفسها جنت براقش». وقصة هاتين القريتين اللتين تقعا شمال مدينة إدلب تتلخص في تركيبتهما السكانية، حيث غالبية سكانهما من الطائفة الشيعية (وليس فقط لأنّ قوات النظام من يسيطر عليها). القريتان وقعتا تحت الحصار مع سقوط معظم ريف إدلب الشمالي بيد جماعات المعارضة المسلحة بحلول 2013، واشتد الحصار بشكل حاسم مع سقوط كامل مدينة إدلب بيد جيش الفتح في مارس 2015.
مع بدء عملية الزبداني قام عبد الله المحيسني بشن حملة تحريض واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي وبالخطب المسجلة على القريتين على أساس انتمائهما الطائفي، بلغة تكفيرية وإبادية ضد أهلها الذين يناهزون 30 ألفاً من «الرافضة». وبدأت عمليات القصف العنيف على القريتين بمدافع الغراد والاسطوانات المتفجرة، واستتبعتها محاولات اقتحام عديدة استخدم فيها عشرات السيارات المفخخة التي يقودها انتحاريون. الخطاب الإبادي ضد السكان الذي جاء به مسلحو المعارضة وعلى رأسهم المحيسني الذي كان يودع الانتحاريين بنفسه عند الجبهة، جعل الحصار هو خيار حياة مقابل مصير الفناء لو اقتحمت القريتين، حيث كانتا على شفا مواجهة ما حلّ بعدة قرى في محافظة إدلب من تطهير ومجازر على أساس انتمائها الطائفي، كقرية اشتبرق التي تعرضت لمجزرة وسبي للنساء والأطفال على يد جبهة النصرة وغيرها من فصائل جيش الفتح.
لكن صمود القريتين أنقذهما من تهديدات المحيسني وجيش الفتح، وفتح مجالاً لطرح موضوع تسوية بين كفريا والفوعة والزبداني. وبالفعل عقد اتفاق بين جيش الفتح والحكومة السورية من بنود عدة وينفذ على مدى ستة أشهر، يتم خلالها التفاوض على حل دائم. أبرز هذه البنود هو وقف إطلاق النار ومنع القصف الجوي، وإدخال المساعدات الإنسانية لكفريا والفوعة بالتزامن مع قرى مضايا وبقين وسرغايا، وإخراج ما تبقى من مسحلين وعوائلهم من الزبداني إلى إدلب، وإخراج النساء والأطفال وكبار السن من كفريا والفوعة، وإجلاء الجرحى من كل القرى.
وقد خرج كل طرف في هذا الاتفاق ليشرح وجهة نظره منه ويعتبره نجاحاً له، حيث اعتبر عبدالله المحيسني الاتفاق فرصة لإنقاذ مسلحي الزبداني المحاصرين وحماية مدينة إدلب من قصف الطيران الحربي (حيث يلتزم طيران الجيش بعدم قصف ادلب). في حين خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وشرح ملابسات الاتفاق بشكل مسهب خلال مقابلة تلفزيونية، وبرر قبول الحزب بالاتفاق ليقايض مسلحي الزبداني المتبقين بهدنة تحمي الفوعة وكفريا -المعرضتين لخطر الإبادة- وتدخل المساعدات لهم.
مجاعة في مضايا؟!
بالفعل تم البدء بتنفيذ أول بند (رغم التأخير في التنفيذ) في 18 اكتوبر/ تشرين الأول 2015 بإدخال عشرات شاحنات المساعدات في القرى المشمولة بالاتفاق، كفريا والفوعة ومضايا وببقين وسرغايا بالتزامن، وقبل أسابيع في آواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول -ورغم التأخير مرة أخرى- تم تنفيذ بند آخر وهو إجلاء الجرحى وعوائلهم من المناطق ذاتها. لكن منذ آوائل شهر يناير/ كانون الثاني الماضي بدأت حملة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل ناشطي الفصائل السورية المسلحة تتحدث عن مجاعة في مضايا بسبب حصار تفرضه القوات الحكومية وحلفاؤها عليها. هذه الحملة زخّمها الإعلام الممول خليجياً، وتلقفتها وسائل الإعلام الأجنبية، حيث نشرت «إندبندنت» البريطانية تقريراً في 1 يناير، الذي ينقل عن «ناشطين» مجهولي الهوية روايات للوضع داخل البلدة. تنقل الصحيفة عنه أن صور الجثث بدأت تخرج من البلدة (طبعاً لم يرَ أحد تلك الصور، ولم تنشرها الصحيفة)، وأنّ 20 شخصاً قضوا من الجوع، ثم تنقل من «ناشط» آخر أنّ الغذاء نفد من البلدة منذ شهرين (رغم أنّ أحدث قافلة مؤن كانت وصلت قبل شهرين، فأين ذهبت حمولة القافلة؟). من أوائل التقارير التي نشرت حول الموضوع في الصحافة الأجنبية كان في موقع «فايس نيوز» (4 يناير)، وقدّم الرواية ذاتها التي نشرتها «اندبندنت» لكن مع بعض الصور لأطفال هزيلين
لكن بعد أيّام من الحملة الإعلامية قام بحذف الصور بدعوى «أنّها قد لا تكون من مضايا»، والحقيقة أنّ الصور فعلًا ليست من مضايا بل من إحدى مخيمات اللاجئين في دول الجوار. بعد ذلك غرقت وسائل الإعلام بمختلف أشكالها ومواقع التواصل الاجتماعي بمجملها بتلك الرواية الوحيدة.
لكن ما صحّة ما تتضمنه هذه الرواية الصور التي ترافقت معها. خصوصاً أن ما أعطى الحملة وقعها وصداها السريع والحاد، هو ادعاءات كتجويع مضايا لستة أشهر أو 200 يوم، ونشر عدد هائل من الصور التي تظهر تحول الناس إلى ما يشبه هياكل عظمية والضخ المركز من قبل إمبراطورية الإعلام الخليجية وتوابعها.
من أوضع الانحطاط الأخلاقي هو الارتزاق السياسي باستثمار شعارات الإنسانية
أمام كل ذلك الضخ والصور المروعة لم يعد مجال لأي نقاش، حول مصداقية الصور أو ما هي رواية الأحداث الحقيقية. وهنا يلاحظ على هذه الحملة أمور عدة:
أولاً، التجاهل التام لوجود قضية كفريا والفوعة وبقية القرى المشمولة في اتفاق الهدنة (بل وتجاهل وجود ذات الاتفاق في أحيان كثيرة). والملاحظة هنا ليست للمناكفة، بل لأنّ القضيتين مرتبطتان. ورغم أنّ لكل منطقة قصة خاصة مع الحرب السورية كما ذكر سالفاً، إلّا أنّ اتفاق كفريا الفوعة – الزبداني جعل كل هذه المناطق في مركب واحد. أي وكما نص الاتفاق، يتم إدخال قوافل الإغاثة إلى جميع البلدات في الوقت ذاته وحجم الكمية ذاتها بالنسبة لعدد السكان (حسب تقدير المؤسسات الإغاثية)، أي أنّ المنطقتين يفترض أنّهما تواجهان ذات الوضع الإنساني منذ توقيع الاتفاق. فإن كان هنالك مجاعة في مضايا، يفترض أن تكون كذلك في كفريا والفوعة.
وهنا نتجاوز حقيقة أن كفريا والفوعة محاصرتان برياً منذ فترة أطول بكثير، وتتعرضان لعمليات عسكرية وقصف مستمر منذ أكثر من 3 سنوات أحال معظمهما إلى دمار وأدى إلى وقوع مئات القتلى والجرحى. هؤلاء الجرحى عالقون في منطقة تنعدم فيها أي تجهيزات طبية جدية ولا يستطيعون نقلهم إلى الخارج. وحتى الإمداد الذي كان يلقي به بعض الأحيان الطيران المروحي كان بالكاد يكفي عوائل عدة. إذ مع خروج جزء كبير من أسراب طيران الجيش من الخدمة بسبب الدمار أو سيطرة المعارضة على المطارات، تركز عمل ما تبقى على المعارك المشتعلة في مختلف المناطق. أيضاً، كان الإمداد يتم عبر وسائل بدائية ويتركز في غالب
الأحيان على المعدات العسكرية لمساعدة حامية القريتين (حيث أن سقوطهما يعني خطر تعرضهما للإبادة). أما الإمداد الإنساني إذا تمّ، فهو عبر تعبئة حاويات براميل الحديد وما شابها بعدة كراتين من الأدوية أو الغذاء لتلقى على القريتين. لذلك كان اتفاق الهدنة فرصة مؤاتية لإمداد القريتين بأطنان من المساعدات (لم يكن إمداد أشهر من الطيران المروحي يساوي ما تمدّه شاحنيتن أو ثلاث)، وحمايتهما من خطر الاقتحام والإبادة (وحتى الاستسلام لم يكن خياراً متاحاً). بخلاف مضايا التي تقلبت بين هدن ومواجهات -في معظمها كانت محدودة- كان يسمح باستمرار خلالها بعبور الأفراد والمؤن بل والحركة التجارية منها وإليها كما أشير سابقاً، والأهم أنّها ليست معرّضة لخطر إبادة، بل أقصى ما يمكن أن تحاول الحكومة فرضه عند أي مواجهة هو انسحاب المسلحين من البلدة.
لكن بعد توقيع اتفاق الزبداني أصبحت قضية دخول المؤن لجميع هذه القرى مسألة واحدة ومرتبطة ببعضها. إذاً لماذا هذا التجاهل التام من قبل حتى الإعلام الغربي والتهميش الواضح لكفريا والفوعة حتى في تصريحات بعض المسؤوليين الأممين في مقابل التركيز الحصري على مضايا؟ بل في المرات النادرة التي ذكرت فيها قضية القريتين هامشياً تم تقليل معاناتهما بالادعاء أنهما تتلقيان معونات من طيران الحكومة السورية، فيما الحقيقة أنّه حتى الذي كان يلقى من الجو (ولم يكن يكفي أي من احتياجات البلدة) توقف التزاماً ببنود اتفاق الزبداني الذي بناء عليه تتوقف الحكومة عن القصف الجوي وإلقاء الدعم في مقابل توقف فصائل عن مهاجمة القريتين. من الجدير بالذكر أيضاً أنّ هناك قرية أخرى قرب مضايا تحت سيطرة المعارضة، ومشمولة بذات الاتفاق وهي سرغايا، لم نسمع عنها أي شيء. وهنا لا يمكن إلّا استنتاج أحد أمرين، أن هناك ازدواجية فاضحة في القضايا الإنسانية وأنّ خلف هذه الحملة استثمار سياسي، أو أن تكون كمية المؤن التي دخلت البلدات في 18 اكتوبر كانت كافية لسكان بحيث لا تكون هنالك معاناة، لكن طرأ عامل خاص على مضايا عن بقية المناطق جعلها تعاني بشكل استثنائي.
ثانياً، الضخ الكبير والهائل للصور التي تبيّن أنّ غالبيتها العظمى مفبركة من أجل دفع الحملة الإعلامية. وهذا الأمر لم تسلم منه حتى وسائل الإعلام الأجنبية (التي قد يعتقد البعض بصرامة القواعد المهنية لديها). وهنا نماذج لعدد من وسائل الإعلام التي اعتمدت على هذه الصور (المزيفة):
عدد من وسائل الإعلام حذف تلك الصور بعد أيّام (كحالة «فايس نيوز»)، لكن من دون أن يقدم أحد أي توضيح للناس. أيضاً عشرات من الصور الإضافية المفبركة تداولتها حسابات مواقع التواصل الاجتماعي من قبل شخصيات وكتاب وحسابات ناشطة. طبعاً وسائل الإعلام الغربية خصوصاً خلال الحرب السورية تعتمد مراراً بشكل أعمى على رواية المعارضة وتسوقها، لذلك من غير المستغرب أن تقع في خطأ كهذا. لكن لماذا اتبعت المعارضة والإعلام المناصر لها هذا السلوك، رغم وجود عدد من المشاهد الحقيقية من مضايا التي يمكن الاعتماد عليها بدلاً من عشرات الصور المفبركة؟!
الهدف البديهي من ذلك هو خلق حالة استثنائية لمأساة غير مسبوقة تحدث في البلدة يتسبب بها عدو فاق في وحشيته كل الحدود. فتسمع التصريحات والبيانات التي تصف ما حدث بالمأساة الأسوأ التي مرت على الحرب السورية أو المأساة الأسوأ منذ حرب البوسنة، بل بلغت بجون كيري وصفها بالمأساة الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، ليتم إلهام الجمهور ضد هذا العدو، واستثمار ذلك في الحملات السياسية والإعلامية.
نقاش الوقائع
في خضم هذه الحملة الإعلامية (والتي كان جزء كبير منها موجّهاً ضد حزب الله، رغم أنّ تواجده الأساسي في المنطقة انتهى مع توقف معركة الزبداني) علّق الإعلام الحربي التابع لحزب الله ببيان توضيحي، مذكراً بدخول المساعدات التي تكفي لأشهر عدة ضمن اتفاق كفريا الفوعة-الزبداني، وأنّ المزيد من المساعدات ستدخل للبلدة في الأيام القادمة استكمالاً للاتفاق ذاته. وكذّب الاتهامات له بتجويع البلدة شارحاً ملابسات الأحداث فيها. بعد ساعات في اليوم ذاته ظهر المتحدث باسم الصليب الأحمر (وهو الطرف المسؤول عن تنفيذ الاتفاق بالتعاون مع الهلال الأحمر السوري) مؤكداً ما ذكره بيان الإعلام الحربي من دخول المساعدات «التي تكفي لشهرين» لكل من مضايا وكفريا والفوعة بالتزامن، وأنّه من المفترض دخول دفعات جديدة في الأيام القادمة. وبالفعل، مساءً في اليوم نفسه (الخميس 7 يناير) نشرت وكالات الأنباء نقلاً عن الأمم المتحدة خبراً عن موافقة الحكومة السورية دخول المساعدات إلى مضايا. وحقيقة الخبر (الذي هو عبارة عن بيان للأمم المتحدة) هو ما تحدث عنه بيان الإعلام الحربي والمتحدث باسم الصليب الأحمر بداية، وهو استكمال بنود اتفاق كفريا الفوعة – الزبداني بدخول المساعدات إلى مضايا وبقين وكفريا والفوعة بشكل متزامن كما حدث في الدفعة الأولى في أكتوبر. إذاً يتضح من كل هذا، أنّ قصة تجويع مضايا لـ«ستة أشهر من الحصار» هو تضليل كبير، وأنّ المؤن دخلت وسوف تستمر بالدخول حسب الاتفاق المذكور.
لكن هل هذا يعني أنّ واقع مضايا هو على أحسن ما يرام؟ لا هي ولا قريتي الفوعة وكفريا في أفضل حال، حيث وإن كانت تعاني كل قرية من مشكلة خاصة، هناك مشكلة عامة تواجه مئات القرى والمناطق في سوريا. بالأساس غالبية المدن والقرى السورية حتى التي لا تعيش بشكل مباشر على تماس مع جبهات مشتعلة تعاني بفعل الحرب نقصاً في التموين في المواد الغذائية والطبية (حتى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، كحلب الجديدة وحمص)، فما بالك بمضايا التي -وبعد سقوط هدنة مطلع 2015- أصبحت ضمن دائرة المعارك العسكرية. إذاً هناك أزمة عامة خلفتها أجواء الحرب الداخلية في سوريا وضربت الجميع. إضافة إلى ذلك، تعاني
مناطق سيطرة المعارضة من مشكلة إضافية وهي تنافس الفصائل المسلحة على المساعدات الخارجية، واحتكار توزيعها (كأداة لبسط النفوذ الإجتماعي) وتعاون بعض أمراء الحرب وتجار السوق السوداء الذين يحتكرون بيع المؤن الغذائية. وأبرز مثال هو ما حدث في الغوطة من احتجاجات على هذه الخلفية. وقد نقلت بعض صفحات أخبار المعارضة خبراً عن تظاهرة لأهل تفتناز في إدلب تحتجّ على عدم التوزيع العادل للمساعدات.
وفي حالة مضايا، فنفسه إعلام المعارضة يعترف أنّ الغذاء موجود لكن بأسعار خيالية، حيث يبلغ كيلو الأرز أو الحليب عشرات الدولارات و يصل حتى 100 دولار. ونشر البعض حملات تبرع بالمال لإيصاله الى داخل مضايا لشراء الغذاء ( إنّ صحّ أنّ هذا المال يذهب لمضايا). إذاً من يسيطر على هذا الغذاء وتوزيعه؟ بيان الإعلام الحربي الذي قدم رواية حزب الله سبق أن اتهم المسلحين بالسطو على الغذاء واحتكاره، وقد نشر مشاهد خاصة به من داخل مضايا صورت بتاريخ 10 يناير تشير إلى محلات عديدة تبيع أنواع من المؤن، كما أكدت أغلب المصادر المختلفة. إذاً هناك مشكلة حقيقية خاصة في مضايا مرتبطة بمن يدير توزيع المؤن داخل القرية. أيضاً هناك مشكلة أخرى قد تكون سبباً في معاناة سكان البلدات، وهي سرعة وآلية تنفيذ اتفاق الهدنة، حيث أن المفاوضات المعقدة التي استهلكت وقتاً طويلاً وفشلت 3 مرات قبل أن تنجح، تشير إلى طبيعة العملية المعقدة، إضافة إلى ذلك التأخير في تنفيذ البنود، حيث استغرق إرسال أول قافلة أكثر من 20 يوماً منذ توقيع الاتفاق وأخذ تنفيذ بند إخلاء الجرحى حوالى الشهرين. لكن من يقف خلف هذا التأخير؟ هل هي الحكومة السورية، أم المعارضة؟
لو كانت الحكومة السورية ستمنع المساعدات عن مضايا، فهذا بالنتيجة يعني منعها عن كفريا والفوعة (حيث تم الالتزام في الاتفاق بعدم استخدام الطيران لرمي المساعدات لهما)، خاصة أنّ وضع القريتين أكثر حساسية لأنهما ورغم الهدنة يتعرضان للقصف من قبل جيش الفتح حتى لحظة كتابة هذا المقال، في حين لا يوجد في مضايا أي عملية عسكرية أو هجوم من قبل الجيش السوري أو حزب الله. والحكومة السورية وحزب الله وقفا عند آخر كلم مربع في مدينة الزبداني (وكانا يستطيعان إكمال المعركة للسيطرة عليه) من أجل مقايضة مسلحي الزبداني المتبقين لحماية قريتي الفوعة وكفريا، ولم يكن لديهم أي هدف عسكري خاص بمضايا. لذلك من غير المنطقي أن يرغبا في تأخير المساعدات.
في المقابل، أيضاً قد يكون من غير المنطقي أن يكون المسلحين في داخل مضايا يرغبون في تأخير المساعدات وهي الطريق الوحيد لهم. لكن هل هم وحدهم من يمثل الطرف الثاني في هذا الاتفاق؟ الحقيقة أنّ المسلحين في داخل الزبداني يتبعون لفصائل مختلفة، وكل فصيل له رعاة خارجيون يوجهونه. وهذا ما تبيّن أثناء المفاوضات حيث كان أحد مسببات تأخر الوصول للاتفاق هو الخلافات بين فصائل المعارضة، خصوصاً بين «أحرار الشام» الذي مثّل المعارضة في المفاوضات و بقية الفصائل. إضافة الى عدم قدرة «أحرار الشام» على تأمين الطريق اللوجستي نحو كفريا والفوعة، في حين مناطق النظام تسيطر عليها جهة واحدة، تسيطر على مناطق المعارضة عشرات الفصائل مختلفة التوجهات والرعاة الخارجيين. وتبيّن هذا عندما قطعت بعض المجموعات الطريق لمنع وصول القافلة الأولى للمساعدات نحو كفريا والفوعة. أيضاً، عندما تم إخلاء الجرحى عن طريق تركيا ولبنان تبينت قدرة المعارضة على توفير طريق بري بين كفريا والفوعة ودمشق. لكن ملابسات هذه الحملة الإعلامية الأخيرة «قد» تشير إلى عامل آخر، خصوصاً مع التحرك الدبلوماسي الأخير من أجل دفع عملية التسوية السياسية. إذ حسب ما ذُكِر في بيان فيينا الذي يحدد الخطوط الأساسية للتسوية، سيتم تصنيف الجماعات إلى إرهابية ومعتدلة، ليتم عقد هدنة مع الأخيرة وتوحد الجهود لمحاربة الأولى. لذلك ستكون الجماعات التي ستصنف معتدلة هي الحاكمة -بحكم أمر الواقع- على المناطق التي تسيطر عليها. وبما أنّ حركتي أحرار الشام وجبهة النصرة ورعاتهما الخارجيين (قطر وتركيا) فقدوا نفوذهم المؤثر في وسط وجنوب سوريا وخصوصاً في محافظة دمشق، فسيكونون حريصين على الحفاظ على آخر تواجد لهم في دمشق (مضايا والزبداني). حتى الآن رغم أن المرحلة الأولى لاتفاق الزبداني (التي تستمر ستة أشهر، وشارفت على نهايتها) تنص على ترحيل ما تبقى من مسلحي الزبداني، إلّا أنّ هذا البند لم ينفذ. لذلك، قد يفهم من هذه الحملة الأخيرة (والتي كانت قاطرتها الرئيسية هو الإعلام الممول قطرياً) تطيير بنود اتفاق الزبداني، وخصوصاً بندي إخلاء ما تبقى من المسلحين في الزبداني وإخلاء مدنيي كفريا والفوعة. وبالفعل هذا ما يحصل، حيث تم تجاوز بقية البنود تحت ضغط الحملة الإعلامية حتى كاد الشرط الذي يفرض إرسال المساعدات لقرى كفريا الفوعة أن يتم تجاوزه.
في النهاية، تمّ في يوم الاثنين 11 يناير استكمال اتفاق الزبداني بإيصال دفعة جديدة من المساعدات الإنسانية إلى كفريا والفوعة بالتزامن مع مضايا، لحقتها دفعة أخرى مماثلة في يوم الخميس. ونقل الهلال الأحمر السوري في اليوم التالي حالة واحدة حرجة استدعت النقل للمشفى. اللافت للانتباه أيضاً، بينما كانت قناة «الجزيرة مباشر» التابعة لإمارة قطر تبث صوراً مباشرة لكن صامتة لتجمع أهالي مضايا المنتظرين لوصول القافلة كان مراسل قناة «المنار» التابعة لحزب الله الذي واكب قافلة المساعدات في المنطقة نفسها يجري لقاءات مع الأهالي. معظم الأهالي الذين قابلهم اشتكوا من غلاء الأسعار والاحتكار داخل البلدة كما نقلت مختلف التقارير سابقاً، وبعض المستصرحين اتهموا المسلحين بالمسؤولية عن هذا الأمر. وهذا ما نقله تصريح أحد السكان لإحدى وكالات الأنباء العالمية (وبث شريطه قنوات عدة منها «الجزيرة الانكليزية»)، ومراسل صحيفة «القدس العربي» القطرية الذي كان أيضاً ضمن الوفد الإعلامي المواكب للقافلة، شكا بعض السكان من «المتاجرة بدمائهم». وبغض النظر حول ما إذا كان هؤلاء السكان يشكلون نسبة تمثيلية كبيرة أم لا، فما يظهر من خلال رفض هذا الجزء -على الأقل- للمسلحين ورغبته في إخراج البلدة من دائرة الصراع يتماشى مع ما أظهرته محاولات الهدن الثلاث التي تهاوت بعد صراع إرادات داخل البلدة بين طرف يريد تجنيب البلدة ويلات الحرب وبين طرف يريد إدخالها في أتون المعارك.
وشهدت أيضاً تلك العملية إجلاء الحكومة السورية لحوالى 300 فرد من داخل مضايا رغبوا بالخروج منها. وهذا ما ينفي الادعاء الذي رافق الحملة عن منع الحكومة السورية أو حزب الله لأي من المدنيين الراغبين بالخروج. وهذا الادعاء غير أنّه بلا دليل فهو يناقض المنطق، وسلوك النظام وحلفائه في مناطق أخرى طيلة الحرب. فالمنطق يقول إنّ النظام يريد المنطقة خالية من المدنيين ليسهل عليه إن رغب حصارها أو مهاجمتها عسكرياً، وهذا كان سلوكه في أكثر منطقة وآخرها كان في الزبداني، حيث أجلى مدنييها إلى مضايا نفسها وقرى أخرى قبل بدء العملية العسكرية، في ما أسمته المعارضة عملية «تهجير».
بعد ذلك بأكثر من أسبوع أرسلت قافلة ثالثة (أي مجموع ما دخل مضايا في اقل من أسبوعين هو آكثر من 80 شاحنة) لجميع البلدات تصطحب معها إضافة للمعونات صهريج من الوقود. الملفت عند كل إرسال كل هذه القوافل، أنّ الأمم المتحدة والصليب الأحمر أدخلا وفودهما لتقصي أوضاع الحالات الإنسانية في مضايا وإصدار بيانات حولها، في مقابل رفضهما (3 مرات) لإدخال وفود لكفريا والفوعة من أجل التقصي بحجة عدم تأمين الطريق وسيطرة المسلحين على مداخلهما (أصدر مكتب تنسيقية الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في 31 يناير أول تقرير تصدره منظمة إنسانية يخص القريتين منذ فرض الحصار عليهما، وكان
التقرير محدوداً جدّاً وعمومياً بخلاف التقارير العديدة التي أصدرها من أجل حالات مماثلة). وهذه القضية شاهد آخر على الازدواجية التي تعاطت معها هذه المنظمات، فهي إما غير جادة بتحمّل المسؤولية والمجازفة من أجل أداء مهمتها الإنسانية، أو إن تم منعها بالقوة من طرف المسلحين فهي تتستر عليهم بعباراتها الفضفاضة في بياناتها التي لا تحدد المسؤولية. طبعاً تبعاً لما تداولته بعض الأخبار ولحوادث سابقة، الأرجح أن المسلحين منعوا بالقوة هذه الوفود من الدخول. في المقابل سمحت الحكومة السورية للوفود بالدخول للتقصي في مضايا وإجلاء من لا يمكن علاجه داخل البلدة من قبل الهلال الأحمر متجاوزاً مبدأ المعاملة بالمثل
لكفريا الفوعة… بل سمحت للهلال الأحمر السوري (وجمعيات أهلية أخرى) بإدخال عيادة ميدانية لمضايا فيما لم يسمح المسلحون لعبور مثلها لكفريا والفوعة حتى لحظة كتابة هذا المقال.
كل هذه المعطيات تشير الى حقائق عدة: أنّه لا يوجد تجويع مفروض منذ 6 أشهر لبلدة مضايا ولا مجاعة قاهرة تضرب البلدة كما حاولت أن تصوّر أرقام عشرات ضحايا الموت من الجوع والصور المنشورة. عشرات من تلك الصور تبيّن عدم علاقتها بالأمر، والتقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام ذاتها عن عشرات ضحايا الجوع هي نقلاً عن نشطاء المعارضة المجهولين (حتى بيانات منظمات كأطباء بلا حدود اعتمدت على تقارير النشطاء ذاتهم ولا تملك تواجد على الميدان)، ولم توثقها بعثات الصليب والهلال الأحمرين الذين دخلا البلدة مراراً. أيضاً، البلدة تسيطر عليها المعارضة ويسيطر على محيطها الحكومة السورية منذ بداية الأزمة، ولم تخضع لأي حصار غذائي طيلة تلك السنوات. عندما اندلعت معركة الزبداني في منتصف 2015 لم تكن هناك أي أهداف عسكرية أو سياسية تجاه البلدة، أي لم يكن هناك حصار غذائي كـ«سلاح» في معركة عسكرية. وما حدث أنّ مآلات معركة الزبداني
وإشعال المعارضة -الجهادية- قضية كفريا والفوعة أقحم مضايا في اتفاق هدنة يفترض به أن يضمن إستمرار وصول المؤن لها ولبقية القرى المعنية. لولا هذه القضية لكانت مضايا تحصل على المعونات من دون الاضطرار إلى تزامن ذلك مع بلدة أخرى. كما يحدث في البلدات التي سواء بينها وبين الحكومة هدن أو تسويات مثل برزة والمعضمية وكفربطنة أو حتى التي لا زال بينها وبين الجيش مواجهات مثل دوما والتل (التي يتقاسم السيطرة عليها «داعش» و«النصرة» وفصائل أخرى). جدير بالذكر هنا أن ما حصل بعد اتفاق ميونيخ هو بلا معنى (استثمره المبعوث الدولي من أجل ادعاء وجود تقدم في عملية المفاوضات)، أي أن كل البلدات التي تم تسيير القوافل لها بعد الاتفاق كانت القوافل تسير لها قبله، وتوزيع المساعدات إلى الفوعة وكفريا ومضايا يتم حسب اتفاق الزبداني.
لكن، نعم الوضع غير الطبيعي الذي تعيشه البلدة سبّب حالات عديدة لعوائل وأفراد يعانون من نقص حاد في التغذية لأسباب عديدة، كعدم عدالة توزيع المساعدات داخلها أو تأخير وصول القوافل المرتبطة بفعل الاتفاق بوصولها لكفريا والفوعة، وما يواجه وصول القوافل لها من عوائق عديدة كما أشرنا سابقاً. وأخيراً، حجم الحقائق المزورة التي تم توظيفها والازدواجية المتعمدة في التعامل مع الحالات الإنسانية في سوريا تثبت الدافع المسيّس خلف هذه الحملة الإعلامية.
رغم كل هذه الوقائع، قد يعترض البعض بأن مبدأ رهن مؤونة الناس بأي اتفاق هو مشكلة بذاته. وهو اعتراض محق لكن يجب أن يسجل ضمن سياق الوقائع الحقيقية، لا أن يسجل اعتماداً على التضليل وكأنّ القضية تحدث في فراغ معزول، خصوصاً أنّ الجواب على السؤال الذي يقول إنّ الاعتماد على اتفاق الهدنة الذي يعتبر الوسيلة الوحيدة في الوقت الراهن لضمان دخول المساعدات لجميع القرى هو أمر أخلاقي أم لا، ليس بمسألة بسيطة ومحسومة.
الخلاصة
ما أحاط بهذه القضية يشكل نموذجاً تكرر -وسيتكرر- عشرات المرات في خضم الحرب السورية (وشبيهاتها من الصراعات العربية) من استغلال وتحوير معاناة الناس (حقيقيةً كانت أم مختلقة) بهدف التحشيد لغايات سياسية، رغم أنّ من أوضع الانحطاط الأخلاقي هو الارتزاق السياسي باستثمار شعارات الإنسانية والأخلاق. وما يضاعف وضاعة الأمر هو الفبركة والتضليل، وكأنّ ما هو حقيقي من أهوال الحرب السورية ليس بكافٍ من أجل أنّ يشيب له شعر الطفل الصغير. والحاجة لهذه الفبركة تأتي من باب محاولة صنع أسطورة من المعاناة الإنسانية الاستثنائية التي لم تحدث قط في تاريخ البشرية، فضحية بريئة واحدة هي كافية لوصف جريمة، لكنها غير كافية لصنع سردية «مظلومية» استثنائية يتم من خلالها تبرير كل مُستَنْكَرٍ ومُحرّم من خيارات وشعارات سياسية وعسكرية. لذلك كانت الصورة وحرب أرقام الضحايا دائماً أدوات من أجل إعطاء زخم للحملة الإعلامية، وتحشيد الناس وإلهاب مشاعرهم استثماراً في «سوق المظلوميات» (كما يصف الباحث العراقي حارث حسن)، لا لأجل إيجاد مخرج لمعاناة الناس، بل لجني المزيد من الأرباح على ظهرها.
والمفارقة الكبيرة أنّ رأس حربة هذه الحملة هم أشخاص وجماعات من مناصري فصائل في المعارضة السورية -كجيش الفتح- تكفيرية وإبادية المنهج والخطاب، تقتل الآخر بناءً على هويته المذهبية، وتتلذذ بإعداد إصدارات للإعدامات الجماعية لأسرى الحرب.
وفوق كل ذلك هي عين انتقائية، تتجاهل ويلات الحرب التي تتسبب بها أطراف عدة. والحصار تمارسه أطراف عديدة، كما تفعل جبهة النصرة وحلفاؤها في جيش الفتح في كفريا والفوعة وفعلت في نبل والزهراء، أو ما يفعله مسلحو المعارضة في حلب من قطع المياه والكهرباء و«تعطيش» أحياء حلب الجديدة، أو ما يفعله تنظيم «الدولة الإسلامية» في دير الزور. والجيش السوري هو الآخر غير بريء من هذه الأعمال، حيث ساهم سابقاً في حصار مخيم اليرموك وأحياء في غوطة دمشق.
ولكلِّ من هؤلاء غرضه السياسي الذي يحشد من أجله. فهناك من يسعى جاهداً من سنوات لاستجلاب التدخل الخارجي، أو فرض مناطق عازلة. وهناك من يريد أن يستغل ذلك من أجل التحريض والمناكفة الطائفية التي يقتات عليها أو لديه حسابات يريد أن يصفيها مع حزب الله، وهناك من يريد أن يستغل هذه القصة من أجل استجلاب المزيد من المقاتلين للمشاركة في الحرب، كما فعل عبد الله المحيسني في إحدى خطبه المليئة بالتحريض في أحد المساجد . بل وأخيراً، ورغم دخول أكثر من 80 شاحنة محملة بمختلف المساعدات لمضايا، نشرت مصادر المعارضة بالتزامن مع انطلاق محادثات جنيف خبر تضور الناس من الجوع داخل البلدة . ووفد المعارضة أخذ يستعمل هذه القضية للربح منها وتعطيل بدء المحادثات. لكن كل هذه الأغراض تصب في غرض واحد، وهو إطالة أمد هذه الحرب، وهو التناقض الصارخ مع الشعارات الإنسانية التي تذرف الدموع من أجل معاناة الناس. وضع حد لهذه المعاناة هو بإيقاف الحرب، والطريق الوحيد من أجل ذلك هو التسوية السياسية، لأنّ قدرة الحسم العسكري لأي طرف هي محض وهم ما دام كل طرف له سند ومدد خارجي.
إنّ أي طرف يسعى أو يساهم في إطالة أمد الحرب هو في حكم المسؤول المباشر عن معاناة كل السوريين. وكما في مضايا كحالة مصغرة لهذه الحرب، المسؤول الأصلي ليس المعركة العسكرية (فالمعركة تعني حكماً معاناة الناس)، وليس من احتكر الطعام أو أخّر وصوله، بل من أصر على إدخال البلدة في أتون المعارك رغم محاولات الهدن المتتالية التي تهاوت لتحييد البلدة وتجنيبها ويلات الحرب، ومن يصر على إفشال أي تسوية سياسية لوقف الحرب.
* كاتب وباحث عربي
التعليقات مغلقة.