رد حزب الله… وأمراض عربية.. المغالاة / فايز رشيد

 

 

د.فايز رشيد ( الأردن ) الخميس 29/1/2015 م …

 

لا تستطيع إلا الانحناء أمام العمل البطولي.. الذي يعبّر عما بداخلنا، الفعل الذي يفهمه العدو المتغطرس، العنجهي.. العنصري، الذي يعتقد أن أمتنا عاجزة.. قاصرة.. لا لن تستجيب إلا للغة القوة، هكذا يفهمون العرب، هم ليسوا أقوياء وسوبرمانيين، انتصاراتهم تأتي من ضعفنا، انتصاراتهم تأتي لأن حكوماتنا عاجزة عن إعداد الخطط لمواجهتهم والتعامل بالمثل مع صلفهم، انحازت حكوماتنا إلى ما تعتقده إمكانية صنع السلام مع الكيان، هي لا تقرأ عدونا الذي يؤكد بالمعنى العملي (وليس بالتصريحات السياسية البراقة) احتقاره للسلام.. احتقاره لأمتنا ولشعوبنا. هذه هي دولة الكيان.. تريد استسلام العرب.. يريدوننا خدما مطيعين لتحقيق أحلامهم ومخططاتهم، عدونا لا يعرف سوى لغة القوة وإجباره على الرضوخ لحقوق شعبنا وامتنا. عدو لا يعترف ولا ينتهج سوى شريعة الغاب ولغة الإجرام.. فأي سلام عادل سيستجيب له. وقت ونوعية رد حزب الله هو تعبير عن مضمون إرادة شعبنا وأمتنا.. تعيد شيئا من الاعتبار لتاريخنا وتراثنا وعزتنا وكبريائنا.. وقبل كل شيء كرامتنا المهدورة على أبواب قاعات التسول والتوسل..

من كل هذه المعاني ينطلق رد حزب الله الذي جاء سريعا.. ففهم الحزب لجملة «سيكون ردنا في الوقت المناسب» ليس تهربا من مسؤولية ولا إسقاطا لعجز.. نحيي الأبطال الذين اتخذوا القرار وقاموا بتنفيذ العملية.

اعذروني إن جاءت كلماتي على وجه السرعة.. فأنا على عجالة لتعديل مقالتي المرسلة لـ»القدس العربي» منذ الأمس والخط الأحمر لإعداد النشر بقي عليه أقل من ساعة، أشكر سيدتيّ الفاضلتين على الاستجابة لطلبي بالتعديل في الوقت الحرج والشكر من القلب لهما.. فما حصل يستحق الوقوف عنده ولو من خلال التعبير بكلمات قليلة، على أمل الكتابة عنه في متسع من الوقت لإيفائه حقه. وعندما أكتب عن أمراضنا.. أعبر عما أحسه وغيري من الملايين بمرارة الوضع العربي برمته.. كلنا نريد وضعا أفضل مئات المرات مما نحن فيه.. ورغم كل الأمراض ما زالت أمتنا بخير.

معروف عن امتنا الالتصاق بالزعيم وصولا إلى عبادته، هكذا كانت جماهيرنا مع عبدالناصر. الزعيم الوطني القومي الأممي الكبير. وصل الأمر بالبعض منا عشق الزعيم وصولا إلى تأكيد رؤية صورته في القمر، وأن معزة نطقت باسمه، بالتأكيد لذلك أسبابه الكثيرة وتفسيراته ولعل أهمها: ندرة الزعماء الذين ينطقون ويعبّرون عن ضمير الجماهير العربية. المقصود القول: جعل من نحب ملاكا في ثوب إنسان. وإن كرهنا أحدا نجعله إبليسا وشريرا. نفتقد التوازن في الحكم على الظواهر والأشخاص.. فإما أبيض أو أسود.. ولا وجود للون الرمادي، حتى الحقيقة ليست مطلقة فهذه نسبية فمثلا، قد تبدو حقيقة وجود كأس وفنجان مصفوفين على طاولة بترتيب معين يجلس إليها صديقان متقابلان، حقيقة مطلقة.. لكن الأول وفقا لموقعه يرى الكأس موجودة على يمين الفنجان بينما الثاني: يرى الفنجان على يمين الكأس.. وكلاهما صادق وصحيح..فأين هو المطلق في الحقيقة؟ كل ظاهرة.. إنسان فيه الإيجابيات والسلبيات، في التقييم علينا رؤية الجانبين.

من الأمراض العربية: عدم احترام الوقت، يعدك أحدهم بالمجيء لزيارتك بعد العشاء، قد لا يدرك الواعد أن ما بعد العشاء فترة زمنية طويلة تمتد ساعات، فلماذا يفترض أن مستقبليه ليست لديهم أشغال سوى استقباله؟ يعدك أحدهم بالمرور عليك حوالي الثانية بعد الظهر (لسبب ما) فلا تتفاجأ إن أتاك في السادسة، من غير أن يتصل بك للاعتذار أو لإعلامك باضطراره لتأجيل الموعد.

للأسف في عالمنا العربي تجد تضخيما للذات على حساب الآخرين، المهم أنا وليكن بعدي الطوفان، يظهر ذلك في مظاهر يومية كثيرة، في قيادة السيارة، في الانتظار في الدور لشراء غرض أو المحاسبة عليه، وقس على ذلك.

في عالمنا العربي مظاهر سلبية كثيرة عنوانها التمرد على القوانين والأنظمة الحياتية (وليست السياسية) ولكن إن ذهب أحد منا إلى أحد البلدان التي توجد فيها مظاهر تطبيق الأنظمة.. تراه يلتزم حرفيا بما هو سائد، والسؤال هو لماذا لا نحرص على الالتزام بهذه القضايا في بلداننا؟

كتبت في مقالة سابقة في هذه السلسلة (التي يبدو أنها لن تنتهي) عن تواضع نسبة القراءة في وطننا العربي مقارنة بمثيلاتها في البلدان الأخرى، وعن أن هاوي غناء أو راقصة أو مغنية تتمايل بإيحاءات جنسية مثيرة ( مع الاحترام لكل منهم) تحقق مدخولا وشهرة في البلدان العربية خلال شهور، لا يستطيع معه كاتب أو روائي عربي جاد مضاهاته وحتى تحقيق جزء منه في أربعة عقود (بل قل في أربعة قرون) ولو قامت هذه الفنانة (بامتياز) بطبع مذكراتها، لوزّعت آلاف أضعاف ما توزعه رواية عربية مهمة. هذا هو الواقع للأسف، ومن يخالفني الرأي.. فسأكون سعيدا بقراءة حقائقه. تحضرني حادثة جرت في موسكو أواخر السبعينيات احتفاء وتكريما لرئيس أمريكي زائر إلى الاتحاد السوفييتي آنذاك.. تم تنظيم حفلة لأحد عروض الباليه في مسرح البلشوي الشهير، وتمت دعوة العديدين من الكتّاب والروائيين السوفييت.. كان من بينهم القامة الأدبية الكبيرة ميخائيل شولوخوف.. صاحب الملحمة الخالدة: «الدون الهادئ».. و»الأرض الطيبة» و«مصير إنسان» وغيرها من الروائع، الإنسان الفلاح المتواضع الحائز جائزة نوبل عام 1965 عن روايـــة «الدون الهادىْ»، حضر إلى المسرح وللصدف نسي إحضار بطاقة الدعوة، ولم يسمح له بالدخول.. بكل بساطة انسحب وعاد إلى بيته. ثارت ضجة هائلة في اليوم التالي بين الناس وفي معظم الصحف السوفييتية.. والكل استغرب وتساءل من منظار تقييمي، أن الكاتب أهم مئات المرات من بريجنيف ومن الرئيس الأمريكي.. فكيف لهذه القامة أن تلقى مثل هذه المعاملة في بلدها؟ السلطة حينها عملت جاهدة لامتصاص النقمة التي أثارتها الحادثة فاضطرت إلى إقالة بعض المسؤولين… في وقت كان الإعلام فيه يملأ الدنيا ضجيجا بكتيّب صغير لبريجنيف (أعتقد أنه تمت كتابته للزعيم وليس ابتكارا من بنات أفكاره) ولقد نسيت اسم الكتاب. الحصيلة ذهب بريجنيف وزائره من الذاكرة.. وبقي شولوخوف وسيظل مزروعا فيها.

معروف عن الروسي بشكل عام بساطته وانتماؤه لوطنه وتقديسه لمن قدموا حيواتهم في سبيله وحبه للمطالعة.. دليل على البساطة أورد ما يلي: الإذاعات الأوروبية والأمريكية المحيطة بالحدود السوفييتية إبان الحرب الباردة كانت تبث بشكل حاقد ضد النظام كل ساعات النهار والليل.. وحتى بعنصرية وعنجهية ووقاحة ضد الروس البسطاء، فتطلق عليهم في الكثير من الأحيان لفظ «الدببة» الذي يمشون في الساحة الحمراء وشارع غوركي، أو تعبير «الدب الروسي» وغيرها، في أحد المرات ناقشني صديق روسي عن كذب الدعاية الغربية وادعاءاتها بأن الدببة تمشي في شوارعنا، وسألني: هل رأيت دبا واحدا يمشي في شوارعنا؟ انفجرت ضاحكا.. سألني عن السبب؟ لم أود إيلامه وندمت فعلا على ضحكي… وقد حصل رغما عني، لم يعرف صديقي البسيط أنه وغيره من الروس الطيبين هم المقصودون بالتعبير الكريه. لذلك لم أستغرب ما روي عن خروتشوف من نوادر: حادثة ضربه منصة الأمم المتحدة بحذائه احتجاجا على اضطهاد الإمبريالية للشعوب، حادثة اجتماعه مع رئيس فنلندا وهو على مدى ساعات الاجتماع يهرش صدره وتحت إبطيه وكأنه يعاني من القمل، الحادثة في قصر بيكينغهام حين نظّمت الملكة اليزابيت حفلا على شرفه.. ألقى خطابا انتقد فيه الإمبرياليين الذين يدّعون بأن الروس وحوش وحيوانات.. وما كان منه إلا أن استدار أمام الحاضرين وانحنى مبرزا لهم مؤخرته ورافعا ذيل معطفه وسائلا.. انظروا… هل لي ذيل؟

المواطن العربي (فكيف بالمسؤول؟) مقموع ومضطر إلى العمل حتى وهو مريض، ومع كل ذلك لا يحب توجيه النقد إليه، يغلف العديدون منا معاناتهم.. يستحون هم وأقرباؤهم من الإعلان عن أمراضهم.. فالسرطان بالنسبة لهم هو «هذاك المرض» أو «اللي ما يتسماش» ويخجلون أمام الطبيب من التعبير عن الإصابة بـ»العجز الجنسي». كثيرون يحابون مسؤوليهم وينافقونهم ويعبرون عن مدى قدراتهم الخارقة والتغني والغزل بهم.. حتى لو كانوا على خطأ، كثيرون يجعلون من انتماءاتهم الحزبية الأساس الطاغي حتى على الهدف والانتماء للقضية، لا يدركون أن الحزب/ الحركة/ التنظيم ليس أكثر من وسيلة لتحقيق الهدف الوطني.

مكسيم غوركي أحد رواد الواقعية الاشتراكية في الأدب هو وغيره بالطبع، اعتبروا أن للأدب رسالة.. شعبية، إنسانية ووطنية.. لم يلتحقوا بالنظرية الأفلاطونية للأدب ومقولة «الفن للفن»، استكملوا ما بدأه بلزاك وفلوبير وغيرهما من تحديد سؤال: الغاية من الأدب وأهمية رسالته.. لكل ذلك لم ينتم غوركي للحزب الشيوعي، رغم صداقته الحميمة للينين، شعر بأن الانتماء سيقيد حريته، الحرية للكاتب الحر(وليس لكاتب السلطات المأجور والببغاء في ترويج سياساتها) هي فضاء إبداعاته.

لقد دعا سارتر (أبو الوجودية) إلى «المثقف الجديد» رافضا من قبل الربط بين المثقف والكلاسيكية كمنهج تفكير.. فالمثقف عنده هو من يندرج في الحركة الشعبية (وهذا ما يعطيه بعدا شعبيا) أي العيش الحقيقي والفعلي لمطالب الجماهير كي يصل في النهاية إلى الثورة.. لا يرتبط المثقف بأي مؤسسة خاصة أو رسمية وهو ملزم في النهاية بإخفاء تناقضاته لصالح إنتاج الأفكار المؤرقة للسلطات الحاكمة المتماهية مع أهداف الجماهير الشعبية. وما بين الحيرة لما أراده كولن ويلسون من مؤلفه «اللامنتمي» وتصنيف انتماء هذا العمل الإبداعي الكبير للفكر الوجودي أم للأدب، ووصولا إلى تطويره لأفكاره في كتابه التالي: «ما بعد اللامنتمي».. فإنه يخلص إلى نتيجة بأن الأفكار هي المقدمة الطبيعية لأهداف الحياة… فالفكر لا ينفي الحياة وإنما يطعّمها بلونه (وهو يناقض في ذلك من احترمهم وأجّل أفكارهم من قبل نيتشه، لورانس، كيغارد، شوبنهاور وغيرهم).

بالنسبة لمقالة البوح: بداية أوضح.. لا أكتب حبا في تمجيد الذات ولا من أجل شهرة.. فهذا ما أكرهه، بعد حفلات توقيعي لروايتي الأخيرة الصادرة حديثا عن دار الآداب بعنوان «عائد إلى الحياة» وهي باختصار تعكس تجربة ذاتية في الإصابة بالسرطان، وتداعيات ذلك في صراع وحوارية: الأنا والذات.. والأنا والآخر.. والأنا والمرض (وهي ليست رواية كما تصورها صديقي الشاعر المبدع والناقد العميق اسكندر حبش عند سماعه بصدورها: تغريبة فلسطينية جديدة بعدما اعتبره تغريبتي الأولى في رواية سابقة لي بعنوان.. وما زالت سعاد تنتظر).. روايتي ربطت فيها بين سرطانين..عام: صهيوني، وشخصي مرضي، وقررت فيها ما دمت قد قاومـــت الأول فواجبي أن أقاوم الثاني.. وأمامي طريقان لا ثالث لهما: الانتصار أو الانتصار. عدت من أربع حفلات توقيع لها في لبنان.. أذهلني حب الناس.. الذي هو زادي المعنوي والمادي في مجابهة المرض وتداعياته.. زادي ليس المال.. والحمدلله لا أملك منه لا أموالا منقولة ولا غير منقولة.. شجاعتي أستمدها من ثرائي العظيم وهو.. عائلتي: زوجتي، ابناي، حفيدتي الجميلة… وحب الناس.

في ذكرى وفاته السابعة… أحيي القامة الكبيرة ورمز النضال الفلسطيني والعربي الأممي الرفيق د. جورج حبش وأكبر فيه… احترامه الشديد والكبير للمثقفين الفلسطينيين والعرب.. وحرصه دوما على مواصلة سماعهم ومناقشتهم في آرائهم شخصيا وحتى بعد مرضه وخلاله.. خاصة في الإجابة عن سؤال كبير وغاية في الأهمية.. طرحه: لماذا هُزمنا؟

وإلى بوح جديد.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.