أوباما في هافانا / غسان ديبة
غسان ديبة ( الجمعة ) 25/3/2016 م …
«هيا سطروا حكمكم. إن التاريخ سينصفني» … فيدل كاسترو…
«نعم نستطيع» هكذا كان شعار أوباما منذ 8 سنوات. هذا الشعار الذي عمل اليمين الاميركي على محاولة إفشاله ونجح في ذلك في كثير من الأحيان.
وبعد هذا الحصار الجمهوري طيلة سنوات، حقق اوباما أخيراً تغييراً زلزالياً في زيارته كوبا، تلك الجزيرة الشيوعية التي تبعد 90 ميلاً عن ولاية فلوريدا. هذه الـ 90 ميلاً دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تحويلها منذ 1961 الى سنين ضوئية بسبب سياساتها الإمبريالية والحصار الاقتصادي الذي فرض على كوبا، والذي قل نظيره في الزمن الحديث. صمدت كوبا كل تلك السنين، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، كانت السنين التي تلت وحتى الألفية الثالثة من أصعبها، وعرفت حتى 1995 بـ”الفترة الخاصة” حيث انهار الناتج المحلي للفرد 35% واستيراد الغذاء 50% واستهلاك البروتين 40%، أي بأرقام كارثية.
انتظر الكثيرون في تلك الفترة انهيار النظام الكوبي او اندلاع اضطرابات ولكن لا حدث هذا ولا ذاك. هؤلاء لا يعرفون الشعب الكوبي ولا مدى تعلقه بوطنه منذ زمن خوسيه مارتي، المحارب من اجل الاستقلال و”الرجل المستقيم من حيث تنبت اشجار النخيل”. وهؤلاء لا يعرفون مدى الحب العميق لتشي غيفارا الذي ترك بلاده وملذاتها وهواءها العليل في بوينوس ايريس ليحارب في السييرا مايسترا جبال كوبا الابية، حتى استفاقت سانتا كلارا لتراه آتيا ذات صباح لن تنساه الى الأبد.
بعد النصر، حمل غيفارا أمميته الى بوليفيا ليموت بين فقرائها وفلاحيها حتى”لا ينام العالم بكل ثقله على اجساد البائسين والفقراء والمظلومين” مودعاً فيدل وكوبا. فيدل كاسترو، ذلك الفارس الذي لم يترجل منذ ذلك اليوم الذي واجه فيه قضاة محكمة باتيستا. فكان الثوري والقائد الذي أحبه الناس لأنه أصبح منهم، يمشي بينهم، يحادثهم، لا ينام الا ساعات قليلة، ولا يأكل إلا القليل، ناذراً نفسه لكوبا. لا يتميز اولاده الذين يعيشون حياة عادية كما يعيش كذلك أولاد غيفارا. ارتاح منذ سنوات ولا يملك في حسابه إلا ما تراكم من معاشه الحكومي. فكما قال لاغناسيو رامونيه، إنه ادخر معاشاته لأن كل ما كان يحتاجه كان مؤمناً من الدولة. اليوم انتقلت الشعلة الى راوول الذي في حياته بقي في الظل ولم يرد أو يحب الأضواء. كان خادماً للثورة، ولضحيلي المعرفة، فراوول سبق فيدل في روزنامة الثورة وكان عضواً في الشبيبة الاشتراكية قبل الهجوم على المونكادا. بعد الثورة أصبح وزير الدفاع فكان مجيئه بعد فيدل التجسيد الأخير لعطاءاته لكوبا.
على الرغم من الحصار والإخفاقات في التنمية الصناعية، حقق الكوبيون انجازات اقتصادية واجتماعية كبرى. ما لا يعرفه الكثيرون أن الناتج المحلي الكوبي للفرد يبلغ اليوم حوالى العشرين ألف دولار عالمي وهو يضعها في مصاف الدول مرتفعة الدخل. وتحتل كوبا المراتب العليا عالمياً في الصحة والتعليم. فبحسب مؤشر التنمية الإنسانية فان كوبا تنتمي الى الدول ذات التنمية العليا. وفي المجال الطبي وصناعة الأدوية تعتبر كوبا في مصاف الدول المتقدمة في العالم. وتعتبر علاجات السرطان ومن بينها اللقاح المضاد لسرطان الرئة CimaVax الذي سيجرب قريباً في أميركا من الأكثر تطوراً في العالم. وفي مجالات التعليم والطب، تفتخر كوبا بأنها كانت الأكثر أممية في العالم في توفير العلم لآلاف الطلاب الأفريقيين والأميركيين اللاتينيين والآسيويين وأرسلت الآلاف من أطبائها الى أنحاء العالم ليخدموا فقراءه الذين يفتقدون لمن يواسي جراحهم وآلامهم. ففي فنزويلا، يعيش هؤلاء في مساكن مشتركة ويطببون فقراء أحياء كراكاس التي نساها الأوليغارشيون في خضم نهبهم لثرواتها. كما كان الكوبيون أمميين محاربين فبعثوا بخيرة شبابهم الى القارة الافريقية ليحاربوا نظام الفصل العنصري وأذنابه في انغولا وحتى حدود ناميبيا. وعندما ذهبوا في اولى رحلاتهم، ركبوا بواخر الشحن الى افريقيا حتى لا يعلم أحد بهم لا العدو ولا حتى الصديق. هكذا كانت اممية الشعب الكوبي، وهكذا جعلت الثورة كوبا عظيمة في العالم.
اليوم يقول البعض إنها استسلمت. وهؤلاء لا يعلمون التاريخ ولا الحاضر والمستقبل. للذين لا يعلمون، إن كوبا لم تكن هي المبادرة بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة وحتى بعد انقطاعها لم ترد لهذا الانقطاع بالاستمرار. والكوبيون لا يكرهون الشعب الاميركي وأرادوا أحسن العلاقات معهم. لكن الولايات المتحدة استمرت في حصارها وفي سن القانون تلو الآخر حتى التسعينيات كقانوني توريشيلي وهيلمز-بيرتون وذلك لمعاقبة كوبا ولتحقيق حلمها بالإطاحة بالنظام. وأحد أقدم هذه القوانين هو قانون 1966 الذي يتيح لأي كوبي تطأ قدماه الولايات المتحدة، بأي طريقة كانت، الحصول على “الغرين كارد” ومن ثم الجنسية بسهولة. في 2001 وفي مؤتمر حول التنمية في هافانا، سأل أحد الحاضرين لماذا هناك دائماً محاولات للهروب الى اميركا؟ كان فيدل بين الحضور فرد بسؤال: “هل تتصورون لو ان اميركا عممت هذا القانون على كل الدول النامية ماذا كان سيحدث؟” فكرت كثيراً بالموضوع منذ ذلك الحين. وقال أيضاً فيدل يومها: ارتكبنا أخطاء كثيرة تملأ مجلدات. وفكرت في هذا أيضاً كثيراً.
اليوم تغير العالم بالتأكيد. تخلت اميركا عن اكثر سياساتها وأتى الرئيس الاميركي ليس الى كوبا التي يحكمها “منفيي ميامي” ولا أحد آخر غير الحزب الشيوعي. خلال الزيارة اجتمع وزير خارجية اميركا بممثلي «القوات المسلحة الثورية الكولومبية (الفارك)»، ومن كان يحلم بذلك؟ بالتأكيد ليست فرق الموت اليمينية ولا الموساد الإسرائيلي من نفذ، على سنوات، أجندة اميركا القبيحة في كولومبيا.
في نهاية هذه الملحمة الكبرى، لم تحِد كوبا قيد انملة عن سياساتها المبدئية. لربما رأى اوباما ان الكوبيين لا يكرهون الشعب الاميركي، ولكنه رأى اكثر كم يحب الكوبيون بلدهم ورأى أيضاً بعينيه وأحس بحدسه ما لم يكن متوقعاً أبداً من رئيس اميركي أن يراه أو أن يحسه وهو انه على رغم كل شيء، لا تزال كوبا ترفع وتحمل في قلبها شعار “وطن حر أو الموت“.
التعليقات مغلقة.