سحر القضية الفلسطينية / هاني المصري

 

هاني المصري ( فلسطين ) الأحد 27/3/2016 م …

لا يشعر المرء ما معنى كون القضية الفلسطينية عادلة ومتفوقة أخلاقيًّا ومدى التأثير الذي تملكه على امتداد العالم سوى عندما يسافر إلى الخارج، ويلتقي بشعوب أجنبية تبعد بلدانها آلاف الأميال عن فلسطين، فتجد هناك تأييدًا واسعًا لدى الرأي العام فيها للقضية الفلسطينية يختلف عن رأي الحكومات، وذلك بالرغم من أنها تمر بأسوأ مراحلها بسبب الانقسام، والتعامل مع “السلطتين” كغاية بحد ذاتها، وفقدان الخيارات والبدائل بعد وصول الخيارات المعتمدة إلى الفشل أو التعطيل.

لمست سحر القضية الفلسطينية خلال عدة أيام قضيتها في أوسلو بدعوة من “لجنة فلسطين”، قابلت فيها العديد من المؤسسات والطلاب ومجموعات التفكير(Think Tanks) ، وتحدثت فيها في المؤتمر الذي نظمته “لجنة فلسطين” حاملًا الهم الفلسطيني ومتسلحًا بأمجاد الشعب في ظل النهوض الثقافي والعلمي الصاعد في السنوات الأخيرة ردًا على الانحدار السياسي، ومن أجل المحافظة على الهوية الوطنية واستمرار إبقاء راية الكفاح من أجل التحرر والعودة والاستقلال مرفوعة.

تحدثت في المؤتمر عن الأساطير الزائفة التي استخدمتها الحركة الصهيونية لتمرير مشروعها الاستعماري الاستيطاني العنصري الإجلائي، متوقفًا بصورة خاصة عند أسطورة أن أرض فلسطين “موعودة من الله لشعبه المختار” لأنه كان “يقطن” فيها منذ ثلاثة آلاف سنة ضمن مقولة الحركة الصهيونية الأساسية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، معطية للشعب الذي يزعم أنه كان موجودًا قبل آلاف السنين “حق العودة” “لأرض المعياد” متجاهلة هذا الحق للشعب الذي لا يزال نصفه داخل الوطن ونصفه الآخر مشتت في أصقاع الأرض.

وتطرقت المحاضرة إلى أسطورة أخرى تزعم أن الحركة الصهيونية قبلت قرار التقسيم وأن الفلسطينيين رفضوه، هذا صحيح من حيث الشكل، ولكنه خاطئ جوهريًا، لأن الحركة الصهيونية وافقت على القرار وهي تستعد للحرب التي شنتها فور إصداره تنفيذًا لمخطط موضوع سلفًا متذرعة بالحرب التي “أعلنها” العرب، واستطاعت من خلال المجازر، وتدمير القرى، وترويع السكان، والتفوق العسكري، ودعم دولة الانتداب البريطاني، وتواطؤ الدول العربية الخاضعة للتبعية وللاستعمار الأجنبي أن تستكمل السيطرة على 78% من فلسطين، ولو كانت تعتقد أن بمقدورها السيطرة على كل فلسطين في تلك الفترة لما ترددت لحظة واحدة. فقد كان ديفيد بن غوريون، مؤسس ورئيس وزراء إسرائيل الأول، براغماتيًا، وأدرك أن رفض قرار التقسيم سيستعدي العالم ضد الدولة اليهودية الزاحفة، فاختار الموافقة عليه شكلًا والعمل ضده فعلًا، لدرجة أنه اعتقل زعيم المعارضة مناحيم بيغين لمعارضته التقسيم، لأنه اعتبر الموافقة عليه خيانة لأهداف الحركة الصهيونية في بناء دولة لليهود على أرض “إسرائيل الكاملة”.

وأسطورة أخرى تطرقت إليها تقوم على أن إسرائيل تريد السلام، وأن العرب ضيعوا فرص تحقيق السلام ويريدون القضاء على إسرائيل ورمي اليهود في البحر، بالرغم من أن إسرائيل هي التي حرضت وشاركت في العدوان الثلاثي على مصر، وشنت الحرب على مصر وسوريا والأردن في حزيران1967، واحتلت سيناء والجولان وبقية فلسطين، بحجة أن جمال عبد الناصر يستعد لشن الحرب ضدها لتأتي الأيام وتكذب الادعاءات الصهيونية، إذ أثبتت محاضر اجتماعات هيئة أركان جيش الاحتلال قبل حرب حزيران أن المعلومات والتقديرات الإسرائيلية أجمعت على أن الجيش المصري لن يكون قادرًا على شن الحرب لمدة من الزمن، ولكن إسرائيل وجدت بذلك الفرصة وتذرعت بإغلاق مضائق “تيران” وسحب المراقبين الدوليين لضرب الدول العربية قبل أن تكون قادرة على ضربها، استكمالًا لتطبيق سياسة مصادرة أكبر مساحة ممكنة من الأرض وطرد أكبر عدد ممكن من السكان، وهذه السياسة لا تزال معتمدة حتى الآن.

ونفذت إسرائيل عدوانًا وغزوًا على لبنان استمر 18 عامًا إلى أن استطاعت المقاومة اللبنانية دحره في أيار 2000. كما نفذت إسرائيل الغارات والاغتيالات في بيروت وتونس وبغداد ودمشق طوال الوقت، وفي العديد من العواصم والبلدان على امتداد العالم كله، كان آخرها اغتيال عمر النايف في العاصمة البلغارية صوفيا.

لقد أفشلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كل المبادرات الرامية للتوصل إلى تسوية بالرغم من أن كل الدول العربية طرحت مبادرة في “قمة بيروت” العام 2002 على أساس انسحاب كامل مقابل سلام كامل، ورغم تبني جميع الدول الإسلامية هذه المبادرة التي تعطي لإسرائيل من دون مقابل إلا أنها لم توافق عليها، بل شنت حربًا شعواء أعادت فيها احتلال الضفة وتدمير مؤسسات السلطة، ومحاصرة رئيسها وصولًا إلى اغتياله بالسم، ومضت في توسيع الاستيطان لدرجة وصول عدد المستوطنين في الضفة إلى أكثر من 700 ألف مستوطن.

وبيّنت في محاضرتي ضرورة تغيير المسار الذي اتبع منذ ما قبل “أوسلو” وبعده وحتى الآن تغييرًا جذريًا، على أساس القناعة بأن لا حل وطنيًا على الأبواب، وأننا في مرحلة دفاع إستراتيجي وليس في مرحلة هجوم إستراتيجي، والأولوية في هذه المرحلة الحفاظ على المكاسب وإبقاء القضية حية، وعلى تواجد الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، وتوفير مقومات صموده داخل الوطن وخارجه، وتقليل الخسائر وإحباط المخططات الإسرائيلية.

لقد وجد هذا الخطاب التفهم والتأييد، وأوضح بعض الحقائق وكشف الرواية الإسرائيلية المضللة. وعندما تساءلت لماذا لم تعترف النرويج بالدولة الفلسطينية أسوة بـ 138 دولة في العالم، ولماذا لم يطالب البرلمان حكومته بالاعتراف بالدولة الفلسطينية أسوة بـ 12 برلمانًا أوروبيًّا؟ كان هناك تفهم لتساؤلي ومحاولة لتفسير الموقف النرويجي من خلال القول بأن إغضاب إسرائيل مكلف، لأنها دولة متقدمة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وعلى صعيد إنتاج الأسلحة المتطورة، ولأنها مدعومة من اللوبيات الصهيونية المنتشرة في مختلف البلدان، ومن الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم، إضافة – وهذا أمر يجب الالتفات له – إلى أنّ الاعتراف النرويجي لن يقدّم أو يقرّب المسافة لإقامة الدولة الفلسطينية، لأن الاعتراف بها في واد، وما يجرى على أرض فلسطين في واد آخر، ما يجعل هدف الدولة بعيدًا.

وتساءل العديد من الذين التقيتهم عن كيفية تقديم دعم لفلسطين، وعن “انتفاضة السكاكين” وأهميتها، وأنهم يفضّلون المقاومة السلمية، ولكن بعد شرح الجحيم الذي يعيش الفلسطينيون في ظله وعن حقهم المشروع في المقاومة والمقر دوليًّا، وفي الدفاع عن أنفسهم في وجه السياسات العنصرية والإعدامات الميدانية، والحرق للبشر والحجر والأشجار، وهدم المنازل والاعتداءات على المقدسات، وبخاصة المسجد الأقصى الشريف، والاعتقالات التي طالت الآلاف، ومن ضمنهم الأطفال، إضافة إلى إغلاق الأفق السياسي، وإحياء هدف إقامة “إسرائيل الكبرى”، وفرض الحصار والجدران والمعازل لدرجة جعلت قطاع غزة أكبر وأطول سجن في التاريخ؛ أصبحوا متفهمين – إن لم أقل مدافعين – عن حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، واقتنعوا بذلك في ظل فقدان المؤسسة الوطنية الجامعة والإستراتيجية والقيادة الفاعلة الذي أوجد فراغًا يجعل المقاومة تأخذ الأشكال التي أخذتها منذ بداية تشرين الأول الماضي، فلو كانت المقاومة متبناة فعليًا من القيادة والقوى ضمن إستراتيجية ومرجعية وطنية لكان الأمر مختلفًا كليًّا عمّا هو عليه الآن.

 أبدى الأصدقاء النرويجيون حماسة لمقاطعة إسرائيل كإحدى أدوات الإستراتيجية الفلسطينية الجديدة المفترض تبنيها كونها مجدية، مع أن بعضهم تحفظ على المقاطعة الأكاديمية، وشرحت لهم بأن العلاج مرتبط بالمرض وخطورته، وأن إسرائيل بوصفها تجسيدًا لمشروع استعماري استيطاني عدواني عنصري يؤمن بالقوة والعنف تشكل خطرًا داهمًا ليس على الفلسطينيين فقط، وإنما على المنطقة والعالم. فحجم الخطر الإسرائيلي يفرض استخدام كل أشكال المقاطعة، لأن الرّهان على تغيير إسرائيل من داخلها وهم لا يقل عن وهم “عملية السلام”، فالتغيير لا يمكن أن يحدث سوى بالضغط على إسرائيل من الخارج، وعندما يكبر بشكل جدي ستزيد التناقضات الداخلية في إسرائيل وسيتلاقى الضغط الداخلي مع الضغط الخارجي الذي سيبقى هو الأساس، لأن الامتيازات التي يحققها المستعمرون من نظام السيطرة الصهيوني يجعلهم أصحاب مصلحة ببقاء هذا النظام، لذلك نلاحظ أن أغلبية الجمهور الإسرائيلي متطرفة، وأن أقسامًا كبيرة منه تعتبر أكثر تطرفًا من الحكومة المتطرفة أصلًا.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.