.. شخص غارق في الطين مبكرا .. وما زال

 

محمد شريف الجيوسي

كان طموح علي؛ في سني شبابه الأولى ، تتلخص في أن يصبح صحفياً  كبيراً ، يفوق قدراته والفرص المتاحة المجدية المردود .. في النصف الأول من ستينات القرن الماضي .

تولّع بشراء الصحف والمجلات وقرائتها والاستماع الى الإذاعة أكثر من مطالعة كتبه ومتابعة دروسه، كان ذلك بالنسبة له مثيراً ومغريا ، كما الحاسوب ومواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية والإيميل والواتس أب في أيامنا ، وإن لم يكن جميع أبناء جيله وقتذاك معنياً  بهذه الأمور .

ذات مرة زار منزلهم المتواضع خاله المحامي المعروف ؛ نقيب المحامين السابق ، الذي أنقده ديناراً ، كان الدينار وقتها ثروة كبيرة ، لم يخطر بباله أن يشتري كما أقرانه شيئاً يؤكل أو لعبة وإنما شراء قلم ملون وأشياء ذات صلة بطموحاته في الصحافة والأدب .

كان زملاؤه في السنة الأخيرة من الصف العائشر التي درسها نظاميا ، يلقبونه بشاعر الصف ، وكان لا يتحدث غالباً إلا باللغة العربية الفصحى ، كان لا يجيد من العربية إلا أوزان الشعر وتقطيع أبيات القصائد ، وكان في الإعراب ( يفتح الله ) لكنه غالباً لا يلحن! . 

وقد غذى ميله المبكر للصحافة ، صدور صحف مسائية للشباب أواخر خمسينات القرن الماضي ، في نطاق تسابق يوميتي تلك الأيام الأبرز الدفاع والجهاد على كسب القراء، وهو السباق الذي عبأ ربما أوقات شباب تلك الأيام والمراهقين بما هو أجدى ، لكن هذا السباق الذي ربما كان مرسوما من الحكومة لغايات سياسية ، توقف بعد وقت يسبر ،حيث لم يكن مجدياً ماديا لكلى الصحيفتين .

وخدم ميله هذا استعداد ابن عمه المهاجر الى الكويت ؛ الذي التقاه حديثا في بيت العقد الموروث عن الأجداد ذات عطلة صيفية ، حيث تبرع ابن العم بتغطية رسوم دراسة الصحافة بالمراسلة ، وأهداه أول ساعة وضعها في معصمه ..

لم تكن دراسة الصحافة بهذه الطريقة مجدية ، لكنها شكلت لديه صورة معينة مفيدة بقدر, ومع نهاية الصف العاشر ، وقدوم العطلة الصيفية، توجه الى العاصمة عمان وزار مقر صحيفة عمان المساء التي ورثت فيما يبدو تجربة اصدار صحف مسائية شبابية اجتماعية ، والتي كان رئيس تحريرها عرفات حجازي ومدبيرها شقيقه ياسر حجازي ؛ الذي طواه الموت مبكراً وأصبح مراسلها في مدينة الزرقاء .

لم يكن ذلك ليجر عليه أي ربح مادي ، بل كان يذهب من هناك الى مقر الجريدة على حسابه وهو يحمل بضعة أخبار حصل على بعضها وفبرك البعض الآخر ، فقد كان مجتمع الزرقاء محدوداً جداً ، يندر ان تجد فيه مادة خبرية ذات قيمة ، ولأن طموحه كان كبيراً في أن يكوّن لإسمه مكانة محترمة تتيح له لاحقاً فرصة مناسبة، فقد كان يفبرك أخباراً اجتماعية لا أساس لبعضها، ويبدو أن ياسر حجازي شعر بذلك ففاجأه ذات مرة بسؤال عن أسماء أصحاب وصاحبات تلك (الأخبار) المرمزة ، لكن صاحبنا لم يهتز أو يرتبك متباعاً اللعبة والف اسماء ملائمة للأخبار المرمّزة ومرت المسألة بسلام !؟ لكنه لم يعد إلى هذا النوع من ( الأخبار) بعدها.

كان من بين الأخبار الصحيحة التي نشرها ، خبر زواج أحد موظفيْ مقسم من مدرّسة جميلة عانس معروفة وذات موقف سياسي .. بطريقة كانت تشتمل على ما قد يُفهم انه تعريض مبطن بالموظف .. الذي التقاه معاتباً، شعر صاحبنا بالحرج ، واللافت أن هذا أصبح أمينا عاما لحزب بعد عقود ، لم يستطع تسديد إيجار مقر حزبه ، فتعاقد مع محام بمواجهة صاحب مقر الحزب ، وأصبح المحامي الذي لم يتقاض أجراً ، نائباً للأمين العام ..

وأغرت فكرة تأسيس حزب ؛ المحامي ، لاحقاً ، فالمحامي ؛ نائب الأمين العام ، كان يفوق أمينه العام ثقافة ودهاءً وقدرات وعلاقات ، فانشق ، وشكل حزباً باسم جديد وكان هذا لاحقاً وربما سابقاً من أوائل من طبّعوا مع الكيان الصهيوني.. لكن أحداً لم يعد ليسمع به أو يراه منذ سنوات طوال ، أكبر الظن أنه غادرالى ما لا يحمد أن يكون مستقره فيه.

كان هذا المحامي في سني شبابه الأولى ، غريب الأطوار ، بوهيميا لا يستقر في عمل ، يزعم الماركسية ملحدا ، سجن في بلد مجاور حيث تبين انه يحمل هويتين مدنيتين لبلدين ، وأطلق سراحه في الأيام التالية لهزيمة حرب حزيران مع سجناء آخرين ، دون أن يرحّل . 

غادر الى بلد عربي وهناك تعرّف إلى شخصية متنفذة جداً كانت مدمنة تعاطي المسكرات ، وأصبح بمثابة نديم لها ، حتى ارتقاء تلك الشخصية في سلم المسؤولية المباشرة على غير ما كان يحلم ، لكن لا احد يعلم لماذا عاد صاحبنا ، ودوره التالي .

كان يقول عندما وقعت معاهدة وادي عربة أنه ينبغي التعامل معها بصدق وليس مناورة ، وأن الأردن أخذ حصته من المياه وزيادة ، و(منح) الكيان الصهيوني ؛ الأردن حصة إضافية.

لم يكف هذا المخلوق، كل ما سبق ، فحاول تشويه القرآن الكريم ، وصياغة سوراً وآيات مزورات، تستمد نصوصها من موروثات في غير سياقها وما تسرّب من ( أحاديث ) غير صحيحة .

وقبل ان يختفي فكّر بإصدار ورقية أسبوعية ، بتمويل غير نظيف ، لكن مغادرته غير المفهومة احبطت الفكرة .وحاول تأسيس جامعة لكن الجهات المعنية لم توافق له لسبب غير معلوم .

كان هذا المحامي ؛ الذي ربما أوقفته النقابة عن العمل ، يعتقد أنه سيوكل اليه تشكيل حكومة ، وقد أعلن قريبه بعد اختفائه أنه في حال أوكل لحزبه الذي لم يعد موجودا تشكيل حكومة ، فستحل مشكلات البلد المستعصية، وقد أثار هذا التبجح سخرية رسمية وشعبية ، في حين كان هاتفه مفصولاً ولا يوجد له عنوان .

لم تكن بداياته مذ كان طالباً تبعث على ارتياح ، فقد كانت له أفكاراً فجة سياسياً مزاودة حيناً وتيئيسية حينا آخر ، وهو ما أكده كاتب صحفي معروف ، عندما كان يعمل في التدريس في الشمال ، والتقاه ذات مساء في عزاء والدة صاحبنا ، وكشف تاريخه المبكر .

وعندما غادر علي بلده أواسط الستينات تحت ضغط ظروف سياسية ، الى بلد مجاور ، فوجيء علي بالمحامي ؛ الذي لم يكن قد أصبح كذلك، يزوره بالفندق االذي نزل فيه ، دون أن يدري كيف علم بمكان إقامته في فندق شعبي ، واكتشف أن له شبكة علاقات واسعة بين طلبة بلاده الدارسين في الجامعة في ذاك البلد .

وعندما عاد علي الى بلاده شاهد المحامي المعزول يضع في قدميه ما يشبه الصندل يستقل حافلة عامة في طريقه الى مكتبه في أحد جبال العاصمة ، فلحق به من باب الفضول إلى مكتبه الذي يشكل جزءا من مكتب آخر .

وكما في البلد الآخر كانت علاقات المحامي واسعة ، وبالأخص الديبلوماسية منها ؛ الأكثر اختلافاً مع القضايا الرئيسة العامة ، ويكاد لا يغيب وكامل أعضاء أسرته عن اي حفل استقبال ديبلوماسي ، ويجيد على الأقل اللغة الإنجليزية إجادة تامة ، وكثير السفر الى مؤتمرات ذات طابع غربي.   

ومن أطرف أطوار المحامي، أنه لم يكن  يلبس حذاء في قدميه ، فغسلهما من المنكرات عنده، ما تسبب بقروح ، ولم تكن لتظهر النعمة عليه ، سواء في وجهه أوملبسه ، وعندما تتأمله تخال أن الماء نادراً ما يلامسه ، ترى فيه بوضوح شديد خبث الثعلب وقذارته .

لا أحد يعلم اين استقر شخص هذا المحامي المختلف ، لكن لا أحد ممن عرفه لا يجهل أنه الأسوأ على غير صعيد ، وأن شبهات لا حصر لها تَعُمّه ، وسلوكيات غير مقبولة تجعل البعد عنه (غنيمة ) ورغم ارتباطاته المشبوهة كان يعيش في ضنك ظاهر ، ما يعزز السؤال كيف يترك أولئك زلمهم حتى دون غطاء معنوي .

الأحد 1/2/2015 م

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.