المنشور / د.خالد تركي
د. خالد تركي* ( فلسطين ) الأربعاء 27/4/206 م …
* طبيب وكاتب شيوعي فلسطيني ( الداخل ) …
“إنَّ مصلحة عرب حيفا وعرب فلسطين تحتِّم على سكَّان حيفا العرب الرُّجوع إلى مدينتهم إلى أعمالهم ومصالحهم، إنَّ مصلحة العمَّال العرب تقضي أن يعودوا ليحتلُّوا المراكز التي كانوا يعملون فيها ويرتزقون منها فلا يفسحون المجال للمنظَّمات اليهوديَّة المتطرِّفة لتنفيذ سياسة احتلال العمل والأرض. إنَّنا نهيب بمن نزحوا عن حيفا وقضائها من العرب الرُّجوع ليستمرُّوا في نضالهم في سبيل وحدة فلسطين واستقلالها”.
في الثَّاني والعشرين من شهر نيسان من عام النَّكبة، التي ما زال شعبنا يعيشها، وبينما كان عشرات الآلاف من سكَّان مدينة حيفا العرب، التي كانت تعدُّ نحو ثمانين الف مواطنٍ عربيٍّ، ومن قضائها ايضًا، يهرع إلى بوَّابة مينائها (باب الفرج) للخلاص من الموت المؤكَّد الذي كتبته لهم عصابات صهيون “الهجناة”، وحلفاؤها في المنطقة والعالم، حيث لم يبقَ في حيفا سوى ما بين الف وخمسمائة إلى ثلاثة آلاف عربيٍّ، فضلاً عن اليهود الذين عدُّوا ثمانين الفًا أو يزيد، آثرت ثُلَّة من الأبطال النُّجباء الواعين من شباب عصبة التَّحرُّر الوطني (الشُّيوعي)، ان تحمل همَّ الشَّارع وتُجسُّ نبضه وتضع روحها ودمها على أكفِّها فداءً للوطن وعزَّته، وتدعو الأهل إلى عدم الرَّحيل، وتحمي من بقي في حيفا، حيث بقي الف وخمسمائة او ثلاثة آلاف مواطن عربيٍّ، اذ اختلفت الإحصائيَّات حول العدد..
ففي الثَّاني من أيَّار من عام النَّكبة، التي ما زال شعبي يعيشها، ومنعًا للنُّزوح عن البلد ولدرء خطر تصفية الوجود العربيِّ في حيفا وقضائها، قام الرَّفيق توفيق طوبي بصياغة منشور باسم “عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ” وخطَّه الشَّاعر عصام العبَّاسي على ورق الستانسل لتُطبع منه النُّسخ للتَّوزيع بعدها على جميع عامَّة الشَّعب المنكوب، وبحضور الرَّفيق يوسف عبده واضعين دمَهم على أكفِّهم، في مقرِّ العُصبة (مقر اتِّحاد نقابات وجمعيَّات العمَّال العرب) في درج الموارنة رقم ستَّة عشر (الواقع بين شارع الرَّاهبات وشارع ستانتون)، نادي “إميل توما” اليوم، يدعون فيه سكَّان حيفا العرب إلى عدم الرَّحيل وترك بلدهم للقوَّات اليهوديَّة (كما جاء في المنشور)..
لقد وزَّع الرِّفاق النِّداء على جميع الأهل في كلِّ مناطق حيفا العربيَّة، خصوصًا في منطقة الميناء، علَّ كلمات المنشور تغيِّر اتِّجاههم في آخر لحظة مصيريَّة من حياتهم، ليختاروا البقاء في الوطن، كذلك قام بعض الرِّفاق بنقل المنشور تحت الحديد والنَّار إلى عكَّا والنّاصرة، لتوزيعِهِ، لكبح جماح المأساة والنَّكبة. وفي نفس الوقت وزَّع رفاقنا هذا المنشور في ميناء بيروت للأهل الذين وصلوها عبر البحر هاربين من قصف وإرهاب وظلم العصابات الصَّهيونيَّة (توفيق طوبي.. مسيرته ص 56) وتحُثُّهم على العودة الى ديارهم حالاً..
كانت فاتحة البيان باسم عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ حيفا وكانت خاتمته، كذلك، موقَّعة باسم العصبة..
لقد بيَّن المنشور في بدايته نهج سياسة المستعمر في تأجيج الصِّراع القوميِّ حتَّى لا يبقى لشعب فلسطين من حلٍّ الا التَّقسيم:
إنَّ الكارثة المؤلمة التي حلَّت بكيان المجتمع العربيِّ في حيفا وقضائها، كارثة أرادها الاستعمار وسعى إليها جادًّا. هي من سلسلة مآسٍ رمى بها بلادَنا منذ أن سعى إلى إلغاء ما أجمعت عليه منظَّمة الأمم المتَّحدة من إنهاء الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبيَّة.
**
ويتابع المنشور:
وقد نبَّه حزبنا دائمًا إلى هذه المؤامرات التي يحيكها الاستعمار وإلى انجرار قادة الحركة الوطنيَّة في فلسطين وراء سياسة يُمليها الاستعمار البريطانيُّ، سياسة تقوم على تقوية الصِّراع القوميِّ بين العرب واليهود باعتبارها وسيلة لمنع التَّقسيم، وما دروا أنَّ الصِّراع القوميَّ إنَّما يُثبِّت التَّقسيم ويُفرضه بشكل يؤمِّن مصلحة المستعمر ويسلب أهل البلاد ذلك الاستقلال الذي كان يمكن أن تضمنه منظَّمة الأمم المتَّحدة بتأييد القوى الدِّيمقراطيَّة فيها.
لقد دعا المنشور أهل حيفا وقضائها، وكذلك أهل فلسطين، إلى العودة الفوريَّة إلى ديارهم، أملاكهم وارزاقهم وبيوتهم ومدارسهم، والى المزاولة الفوريَّة لأعمالهم قبل أن “يقع الفأس بالرأس”، وبذلك يكونوا قد قطعوا الطَّريق على المحتلِّ وحَدُّوا من أطماعه في ابتلاع مصالح العرب حتَّى يمنعوا عنه إتمام سيطرته على حيفا وقضائها:
إنَّ مصلحة عرب حيفا وعرب فلسطين تحتِّم على سكَّان حيفا العرب الرُّجوع إلى مدينتهم إلى أعمالهم ومصالحهم، إنَّ مصلحة العمَّال العرب تقضي أن يعودوا ليحتلُّوا المراكز التي كانوا يعملون فيها ويرتزقون منها فلا يفسحون المجال للمنظَّمات اليهوديَّة المتطرِّفة لتنفيذ سياسة احتلال العمل والأرض. إنَّنا نهيب بمن نزحوا عن حيفا وقضائها من العرب الرُّجوع ليستمرُّوا في نضالهم في سبيل وحدة فلسطين واستقلالها.
لقد خاطر رفاقنا بحياتهم حين قاموا بتوزيع منشور البقاء في الوطن، في أحياء حيفا وقبل أن يمخر لاجئوها عباب اليمِّ على سفن بحريَّة، ضمنتها لهم بريطانيا لنقل عرب البلاد باتَّجاه واحد هو الاتِّجاه الخارج فلسطين أو لركوب اليابسة الى ما وراء الوطن، إلى خارج فلسطين، حيث ارسل الملك عبد الله حافلاته حتَّى يضمن أن مسارها هو اتِّجاهٌ واحدٌ، اللجوء، وقد خاطر رفاقنا، ايضًا، بحياتهم حين وزَّعوا المنشور ذاته في ميناء بيروت حين نزل الفلسطينيُّون من المركبات إلى أرض الميناء ومنها إلى مخيَّمات اللجوء..
**
لقد هاجم المنشور الرَّجعيَّة العربيَّة أداة الاستعمار الطَّيِّعة وقوى الظَّلام البريطانيَّة وعصابات بني صهيون على انواعها المتآمرة على مصالح شعبنا العربيِّ الفلسطينيِّ، حيث اعتبرت الرَّجعيَّة العربيَّة البقاء في الوطن خيانة كبيرة، ويوضِّحُ المنشور تواطؤ الاستعمار مع اعوانه من الزُّعماء اليهود على شعبنا في تنفيذ مشروع التَّقسيم ليحصلوا على امتيازات استراتيجيَّة وماليَّة في مناطق الدَّولة اليهوديَّة ويُكمل فضحه للمؤامرة على شعبنا، وفضح سياسةَ الملك عبد الله:
إلا أنَّ للعبة الاستعمار هذه شقًّا آخر، ففي الوقت الذي يتابع فيه وكلاؤه نشاطهم لاذكاء نار الحرب القوميَّة في فلسطين يقوم أولئك بتوجيه الرَّأي العام العربيِّ نحو الملك عبد الله عميل الاستعمار البريطانيِّ “ليُنقذ” فلسطين ويُنقذ متطوِّعي الجامعة العربيَّة من الورطة العسكريَّة التي وجدوا أنفسهم فيها والأمور تجري في هذه النَّاحية كما يريدها الاستعمار فقد اتَّجهت الجامعة العربيَّة نحو الملك عبد الله ليقوم بعمل حاسم، ولهذا السَّبب وحده زاره رئيس الهيئة العربيَّة العليا وأيضًا وفود عديدة من فلسطين. وهذا هو عين ما يريده الاستعمار الا وهو دخول الجيش العربيُّ بقيادة أبي حنيك لفلسطين. إنَّ لعبة الاستعمار ستتمُّ بأن يحتلَّ جيش أبي حنيك بعض المستعمرات اليهوديَّة النَّائية وبعض أقسام من فلسطين تحتَّم الوكالة اليهوديَّة بإدخالها في نطاق دولتها ويُنكِّل بسكَّانها اليهود موهِمًا العرب بأنَّه منقِذَهم وأنَّ أعماله البطوليَّة هذه توطئة لاحتلال فلسطين بأكملها وتسليمها للسُّكَّان العرب، إلا أنَّ جيش الملك عبد الله سيقف عند حدود معيَّنة له وعندئدٍ سيجد الاستعمار البريطانيُّ سبيلاً لهدنة يعقدها بين عملائه. أمَّا الملك عبد الله إذ يمثِّل دور “المنقذ” فإنَّه يأمل بالحصول على ترحيب عرب فلسطين الأمر الذي يُسهِّل له البقاء نهائيًّا في فلسطين في الأجزاء التي يكون قد احتلَّها جيشه. وهكذا تتمُّ لعبة الاستعمار البريطانيِّ بإقامة دولة يهوديَّة تؤمِّن مصالحه وما يطمع به من مراكز إستراتيجيَّة وامتيازات بتروليَّة، وفي الوقت نفسه يضمُّ القسم العربيَّ إلى شرق الأردن حيث يرتبط مليكها بمعاهدة رقٍّ وعبوديَّة.
ويطالب رفاق العصبة في المنشور شعبنا أن يأخذ الاتِّجاه الصَّحيح في نضاله من أجل فلسطين وحرِّيَّة فلسطين لتفويت الفرصة على العابثين بها:
إنَّ مأساة حيفا وقضائها التي وقع ضحيَّتها عشرات الألوف من العائلات المشرَّدة ومئات القتلى والجرحى من نساء وأطفال يجب أن تفتَح أعين الشَّعب العربيِّ ليسلك طريق النِّضال الصَّحيح ضدَّ الاستعمار ومؤامراته، ضدَّ سياسة أعوانه وأُجَرائه من زعماء سياسيِّين وعسكريِّين يجرُّون الشَّعب العربيَّ إلى القَيد. إنَّ هذه المأساة ليست من صنع الغلاة الصّهيونيِّين الذين نفَّذوا رغائب الاستعمار فحسب بل ويساهم فيها أيضًا أولئك الزُّعماء بقسطٍ وافرٍ إذ قادوا الشَّعب العربيَّ إلى هذه المجازر التي لا تخدم إلا الاستعمار.
ويدعو المنشور الشَّعب العربيَّ إلى عدم الانخداع بتصريحات العملاء المأجورين والعابثين والمستفيدين من مآسي شعبهم، ويدعوهم إلى الذود عن الشَّعب وعن الوطن وعن الأرض والى النِّضال:
يجب أن لا ننخدع بتصريحات أولئك المأجورين الذين يستفيدون من مآسي الشَّعب العربيِّ وآلامه لتثبيت أقدامهم وأقدام المستعمرين. لن يُنقذ فلسطين خدَّام الاستعمار وعملاؤه بل نضال سكَّانها المباشِر في سبيل تحطيم قوى الاستعمار لأجل الحرِّيَّة والاستقلال والجلاء.
**
وكانت خاتمة المنشور:
إنَّ ذلك الاستعمار الذي ساعد القوَّات اليهوديَّة على احتلال حيفا وقضائها بمنعه عنها النَّجدات العربيَّة من الطِّيرة والقرى المجاورة، ويسيطر في الوقت نفسه على حركات الجيش الأردنيِّ وسكناته، لن يسمح لهذا الجيش باحتلال حيفا، التي مكَّن الوكالة اليهوديَّة منها.
فلنقف أمام الاستعمار ومؤامراته وأعوانه ولنوجِّه ضربتنا إلى صميم المستعمِر البريطانيِّ لأجل حرية فلسطين واستقلالها ووحدتها.
**
لو قرأ شعبنا المنشور، النِّداء، لفهم من بين سطوره المأساة التي تحيط به، وفهم عمق المؤامرة التي يحيكها له الثَّالوث الدَّنس، الرَّجعيَّة العربيَّة وعصابات صهيون والاستعمار، ولأدرك شعبنا انه وقع ضحيَّة مؤامرة رمت الى تشريده وتهجيره من وطنه!
لكنَّ المؤامرة كانت وما زالت أكبر، وما زال هناك من يقبل بان يذرَّ الرَّماد في عيونه، ويبقى في مساره مثل حمير الحنَّانة..
التعليقات مغلقة.