النصر السوفيتي على النازية و27 مليون شهيد / د. حسام العتوم
ليس اجمل من احتفالية موسكو العسكرية في الساحة الحمراء (مرقد اضرحة عظماء الاتحاد السوفيتي) بجوار قصر الكرملين الرئاسي بتاريخ 9 ايار من كل عام، ومع انطلاقة فصل الصيف، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية (العظمى) عام 1945، بيوم وعيد النصر على الفاشية النازية الهتلرية، واركان (المحور) المؤازرين للتوجه النازي وقتها، قبل، وأثناء، وبعد عام 1939. وهو العيد البهي الذي يتقدمه في وقتنا المعاصر رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين، الرجل الفولاذي، والرقم الصعب، والقائد الحكيم ذو الصبغة العالمية، والمواجه للحرب الباردة بحنكة، وذكاء، وبعد نظر قل نظيره. وحسب البروتوكول والتقليد الروسي لقصر الكرملين الرئاسي يتم دعوة محاربين قدامى بنياشينهم وأوسمتهم، وعددهم يتجاوز ال 4 الاف محارب، وكبار الضيوف من رؤساء الدول الشقيقة والصديقة، ودعوة سفراء، ومنهم سفيرنا الأردني في موسكو، وسط علاقات روسية – أردنية متميزة ومتطورة، ودعوة مواطنين إلى هناك لمشاهدة العرض العسكري بمختلف الأسلحة الأرضية والجوية الاستعراضية الجميلة المناسبة للطقس .
وبعد مرور 21 عاما على نهاية الحرب التي خطط لها لكي تنهي كل الحروب، والتي هي الحرب العالمية ” الأولى ” 1914 1918، و التي اندلعت وقتها بين دول الحلفاء (بريطانيا، وإيرلندا، والإمبراطورية الروسية)، ودول المركز (المانيا، و النمسا، و الدولة العثمانية، و بلغاريا) بسبب اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند و زوجته في عاصمة البوسنة والهرسك (سراييفو)، اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 نتيجة تحالف اليابان و المانيا النازية بهدف تكوين قوة عسكرية في أوروبا و آسيا، وللسيطرة على مساحات واسعة من الجغرافيا تحت مسمى (lebensraum) عبر أوروبا والاتحاد السوفيتي، وتم التطاول على الصين من قبل اليابان، وعلى أثيوبيا من قبل إيطاليا، وعلى بولندا من قبل المانيا، وبدأت الحرب في أوروبا أولا، وتم التخطيط لتحييد الاتحاد السوفييتي أولا بعد دمج المانيا للنمسا والتشيك، وبعد سماح بريطانيا وفرنسا لألمانيا بتدمير تشيكوسوفاكيا. وتم اجتياح الاتحاد السوفيتي بداية من قبل العسكرية الألمانية النازية، ووصل الاجتياح لمشارف موسكو العاصمة و لمدينة ليننغراد، ثم تحول مسار الحرب إلى مدينة (ستالينغراد)، التي أدارت رحى الحرب و المعارك صوب دحر النازية الألمانية الى الحدود و إلى عمق المانيا ذاتها، إلى وسط مدينتي (دريزدين، و برلين)، وتم رفع العلم السوفيتي فوق الرايخ “البرلمان” بعد فاتورة من الشهداء من العكسر، والضباط، والموطنين السوفييت تجاوزت ال 27 مليون شهيد، وهو رقم مرعب بكل تأكيد .
ويقابل معادلة الحرب العالمية الثانية (العظمى) هذه إشاعات، ودعايات، رمادية، و سوداء، و فوبيا، غربية المصدر و ذات علاقة بالحرب الباردة التي يراد لها أن تستمر مع سباق التسلح على حساب حاضر ومستقبل التنمية الشاملة لشعوب روسيا، والصين، وعموم الشرق، وبهدف أن تبقى نسب الأمية، والفساد، والتصحر، والصحراء، و تلوث وشح المياه، والصحراء غير المستغلة استثماريا تراوح مكانها. وصيحة جديدة اطلقها البروفيسور النائب الروسي فيجيسلاف نيكانوف من وسط كتابه الجديد ” من بدأ الحرب ؟ “، وقصد الحرب العالمية الثانية التي لم يكن للاتحاد السوفيتي حاجة لبدئها، خاصة و مساحته التي هي أكثر من 22 مليون كيلومتر مربع، هي الأولى في العالم حتى يوم انهياره عام 1991، وسياسته كانت دائما مواجهة للحرب الباردة، ولسباق التسلح، ولعدم تكرار حرب عالمية ثالثة مدمرة للحضارات وللبشرية، ومعيدة للحياة إلى ما قبل التاريخ, لذلك صنع الاتحاد السوفيتي قنبلته النووية عام 1949، بهدف الحفاظ على أمن العالم رغم تعرضه لمخطط أمريكي حينها لتوجيه عدة ضربات نووية له لولا تنبه أمريكا لوجود القنبلة النووية السوفيتية . وشيفرة (بارباروسا) الألمانية شاهد على إشارة النازية الخضراء لبدء الهجوم على الاتحاد السوفيتي بتاريخ 22 يونيو 1941 بمشاركة 4,5 مليون جندي نازي للمحور وعلى طول جبهة مقدارها 2,900 كم، والشيفرة بالمناسبة نسبة للإمبراطور الألماني، فريدريك الأول برباروسا.
وتدارك مبكر للرئيس بوتين لنزع فتيل الأزمة الروسية الأمريكية عبر رسالة ضابطة للأمن العالمي, ومنه ما يتعلق بالإعلام الرقمي بين بلاده روسيا وأمريكا العملاقتين النوويتين، لكي لا تكرر الحرب العالمية الثانية إلى ثالثة لا يحمد عقباها، خاصة و صورة اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناد قبل الحرب العالمية الأولى كادت أن تتكرر عبر محاولة أمريكا اغتيال رئيس جمهورية بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكا، وإسقاط نظامه السياسي لإضعاف روسيا، و هو الأمر الذي كشفته موسكو، وصارحت به الرئيس الأمريكي جو بايدن من خلال مكالمة هاتفية له مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا هذا العام 2021 . وكلنا سمعنا باتهام بايدن لبوتين ووصفه بالقاتل ” killer “، وهو غير اللائق، وبقي من دون اعتذار, وكل ذلك فقط بسبب التشكيك الاستخباري الأمريكي (CIA) بعبث موسكو الكترونيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عامي 2020 2021، والذي هو محظ سراب، ولا يعادل التفوق الامريكي التكنولوجي وعلى مستوى الرقابة والحماية الذاتية الالكترونية، وسبق لبوتين أن دعا أمريكا ترمب لبحث الموضوع في محكمة متخصصة على هامش قمة هلسينكي عام 2019, ودفع الأمر باتجاه طرد دبلوماسي متبادل، وعلى مستوى سحب و إرسال السفراء, و إلى فرض عقوبات اقتصادية. ووجه بوتين حديثا رسالة لبايدن عبر وزير خارجيته سيرجي لافروف لضبط العلاقات الروسية الأمريكية في إطار رقابة مشتركة. وذهبت أمريكا أيضا إلى زج ذاتها بقضية المعارض الروسي المحسوب على الغرب الأمريكي لوجستيا ” نافالني ” عام 2021 من زاوية حقوق الإنسان، بينما لمثل هكذا مهمة مؤسسة متخصصة, وأمم متحدة، و مجلس أمن. والتوجه أيضا للإعتراض على إعادة روسيا لإقليم (القرم) عام 2014، و الذي هو شأن روسي أوكراني مشترك فقط .و تسمية جزر (الكوريل) السوفيتية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية باليابانية لتحقق غرضها بنشر صواريخها النووية بهدف تطويق روسيا، وهو المستحيل. وسبق لأمريكا أن تدخلت في قضية الجاسوس المشترك ” سكريبال ” كذلك عام 2019، و هو شأن روسي بريطاني فقط .
ووساطة بيلاروسية حديثة قادها رئيسها الكسندر لوكاشينكا بين أوكرانيا وروسيا شكر خلالها الرئيس بوتين على وقفته وبلاده روسيا الشجاعة في كشف محاولة إغتياله من قبل أمريكا والشروع بقلب نظام حكمه في العاصمة ” مينسك “، وعرض على موسكو إبداء الرأي في الموضوع الأوكراني والعلاقة مع روسيا, فأجاب بوتين بضرورة إجراء حوار أوكراني من طرف (كييف) مع الدونباس و لوغانسك المسالمتين، ورحب بالرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لبحث الأمور العالقة بين بلديهما روسيا وأوكرانيا, ومن أجل الوصول إلى
مستوى أفضل من العلاقات الاستراتيجية، ولامتصاص سعير الحرب الباردة التي يراد إشراك أوكرانيا فيها من طرف الغرب الأمريكي ذاته.
ولعل أهم الجبهات التي شهدتها ميادين الحرب العالمية الثانية على ارض السوفييت كانت موسكو العاصمة، و مدينتي ليننغراد، وستالينغراد (فولغوغراد). والمعروف بأنه بعد محاصرة الألمان للجيش السوفيتي في (كييف) عاصمة أوكرانيا، أعطوا لأنفسهم الأمل بالوصول الى عاصمة الاتحاد السوفيتي العاصمة العملاقة (موسكو) في إطار عملية سريعة خطط لها لأن تكون ساحقة، و سميت بالبرق و(تايفون) أي الإعصار، لكن جبروت الجيش السوفييتي الجبار والجرار، بقيادة الزعيم جوزيف ستالين، وقائده الميداني جيورجي جوكوف كان لهم بالمرصاد رغم إحتلالهم لمدينة (سمالينسك) الواقعة على مدخل العاصمة، فعمل على دحرهم صوب الجنوب بداية تجاه مدينة) ستالينغراد (بعد ليننغراد تمهيدا لطردهم من بلاد السوفييت .
ولقد شكل حصار مدينة (ليننغراد) وقلعتها بريست من قبل النازية الألمانية نقطة تحول كبيرة في مسار المعركة مع السوفييت، وهي المدينة الباسلة التي حوصرت 900 يوما، وعاشت مجاعة حقيقية، و بلغت ضحاياها حوالي 900 الف إنسان، وتمكن الجيش السوفيتي بقيادة المارشال ليونيد غوفوروف من شق طريق بري سري إلى عمقها لإنقاذها من الحصار المميت، والذي استهدف تدميرها بكامل سكانها، و استمر الحصار من 9 سبتمبر 1941 الى 18 يناير 1943، أي أكثر من 872 يوما الى 900 يوم، و تبرع سكانها رغم الجوع و البرد القارص ب (144) طنا من الدم، وهو الأمر الذي أكده بوتين عندما زار شرقنا بتاريخ 23 1 2020 . وتحولت ليننغراد (سانت بيتر بورغ) اليوم، وهي التي زرتها شخصيا أكثر من مرة إلى متحف حضاري على شواطئ بحر البلطيق ونهر النيفا فريد من نوعه في العالم، و تعج بالقصور التاريخية ومنها (الإيرميتاج، والشتوي، وبيتيرغوف)، المطلية بالذهب الخالص، وحجر (الينتار) الثمين، وسط حدائق ونوافير غاية في الجمال لدرجة السحر والدهشة والانبهار.
وفي مدينة ستالينغراد (فولغاغراد) كانت النهاية، وهزم الجيش السادس الألماني واستسلم قائده فريدريك باولوس في 2 شباط 1943، وهو الذي دخلها في 21 اغسطس 1942، ومكث فيها وجيشه العدواني النازي (الفيرماخت) ستة شهور، واصطدموا مع البرد والجوع, وتحولت معركتهم البرية الخاطفة التي سبقها سلاح الجو إلى حرب شوارع قاتلة لهم بعدما ارتطموا والجيش الروماني المساند مع الجيش الأحمر وسط عملية (أورانوس), و بما أن المدينة المقاتلة الباسلة هذه حملت اسم الزعيم السوفيتي (ستالين)، وهو المعروف بقسوته، كان يصعب عليها الهزيمة، وكان الإصرار على النصر ودحر النازية ليس الى الحدود، ولكن الى عمق برلين .
ونهاية الحرب العالمية الثانية كانت مأساوية أيضا على اليابان، عندما قررت أمريكا الصانعة لقنبلتها النووية للتو أن تجربها فوق مدينتي (هيروشيما، وناكازاكي) اليابانيتين بهدف إجبار اليابان على وقف الحرب كما يشاع, وتسببت في مقتل أكثر من 220 الف ياباني من دون رحمة، ولا زال تأثير الضربة الأمريكية ماثلا إلى يومنا هذا بيولوجيا وعلى مستوى انتشار السرطان، ومعنويا، وإنسانيا. وذهبت أمريكا بعدها إلى قلب طاولة النصر التي كانت شريكة فيه إلى حرب باردة طويلة المدى تعدت مسافة انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه عام1991 واستمرت حتى يومنا هذا. لذا، نراها تماحك و تبحث عن الصدام، وتحرك الجمر من تحت الرماد, بدلا من أن تعتمد الحوار مبدأ عمل لدبلوماسيتها وسياستها الدولية، ونقلت عدواها إلى دول حليفة لها مثل أوكرانيا (كييف) التي تتمترس في خنادقها على حدود (الدونباس) شرقا متسلحة بقاعدة عسكرية أمريكية بدلا من تلبية دعوة الرئيس بوتين لإجراء حوار داخلي أوكراني، والتوجه لترطيب العلاقة مع موسكو خاصة بعد تفكيك (كييف) لاتفاقية (مينسك) الضامنة و الضابطة للأمن الأوكراني ومع روسيا. ومكالمة حديثة للرئيس بوتين مع رئيس وزراء الهند ناريندا مودي بتاريخ 28 نيسان الجاري 2021 للبدء بتوجيه مساعدة طبية عاجلة للهند في مجال مكافحة جائحة كورونا، تحسب في خانة العمل الانساني لروسيا في الزمن البيولوجي الصعب، وهي التي اشتهرت بتفوق لقاحهاCOVID 19)) على مستوى العالم.
التعليقات مغلقة.