حكاية الانتخابات الفلسطينية من طقطق إلى السلام عليكم / هاني المصري
هل حقًا تم تأجيل الانتخابات من أجل القدس؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من القول إنّ الرفض الإسرائيلي لإجراء الانتخابات بالقدس كان متوقعًا من الكل الفلسطيني وليس مفاجئًا على الإطلاق.
للإجابة عن السؤال، نعود إلى 15/12/2020، عندما طالب حزب الشعب بتعديل قانون الانتخابات، بحيث تضاف صلاحية إجراء الانتخابات في القدس إلى لجنة الانتخابات المركزية، وتحديد عدد من مراكز الاقتراع في أحياء المدينة، تحسبًا لعدم موافقة إسرائيل على إجرائها، في إشارة إلى عزم الفلسطينيين على تجاوز أوسلو، بما في ذلك سلطة الحكم الذاتي، وتجسيد الدولة الفلسطينية التي اعترفت بها 140 دولة.
ولم يتم الأخذ باقتراح حزب الشعب، ومع ذلك صوّت أمينه العام مع تأجيل الانتخابات!
كذلك لم يؤخذ بكل الاقتراحات التي تكررت وطالبت بالبحث عن البدائل بالقول إن البدائل موجودة، وتبيّن لاحقًا إن عدم الحسم بالبدائل قصد منه جعل ورقة الانتخابات بالقدس في الجيبة حتى يمكن استخدامها إذا لزم الأمر … وهكذا ما كان.
وفي حوار القاهرة في شباط الماضي، طُرح موضوع الانتخابات في القدس، وكان الانطباع العام أنه إذا لم توافق إسرائيل على إجرائها، فهناك بدائل يسمح قانون الانتخابات في المادة 115 في البحث فيها، وهذا ما أكدته لجنة الانتخابات في شهر كانون الثاني الماضي، وكذلك في بيانها الأخير قبل أيام من تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، حين أكدت استعدادها للبحث في تنفيذ أية بدائل تتفق عليها الفصائل.
وحتى تكتمل الصورة لم يكن موضوع القدس في الصدارة، بحكم أن الاتفاق والرهان كان مُنصبًّا على الصفقة المعقودة بين حركتي فتح وحماس، التي تشمل الانتخابات بمراحلها الثلاث.
ولكن لم تتفق الفصائل على البدائل، لا في شباط ولا في آذار أو نيسان، بحجة أن الرد الرسمي الإسرائيلي لم يصل رغم إرسال إسرائيل إشارات عديدة تدل على أنها ترفض إجراء الانتخابات بمجملها، وليس فقط في القدس، ولكنها لا تريد أن تتحمل مسؤولية إفشالها، لدرجة أنها أبلغت قناصل عدد من الدول الأوروبية في أواخر نيسان الماضي أنها لم ترفض ولم تقبل إجراء الانتخابات في القدس.
وبدلًا من أن تدعو القيادة الفلسطينية الفصائل والقوائم إلى اجتماع للبحث في كيفية حل مسألة إجراء الانتخابات في القدس منذ البداية، أو فيما بعد والدعوة إلى اجتماع عاجل عندما اتضح الرفض الإسرائيلي؛ اتخذت قرارها بتأجيل الانتخابات بشكل انفرادي، وبعيدًا عن الإجماع الوطني، وأخذت تهيئ المسرح لإخراج هذا القرار.
طبعًا، ليست من صلاحيات الرئيس، ولا اجتماع المقاطعة، تأجيل الانتخابات كما أفاد مختلف القانونيين، وإنما هذا الأمر من صلاحيات لجنة الانتخابات التي أصرت على جاهزيتها للبحث في البدائل .
وأحرج القيادة أيضًا أن أوروبا زادت نشاطها في الأيام الأخيرة عشية اقتراب بدء الدعاية الانتخابية، وأكدت ضرورة إجراء الانتخابات وعدم تأجيلها حتى اللحظات الأخيرة، لكي تتحمل إسرائيل المسؤولية مع بدء الدعاية الانتخابية، ليصل الضغط على إسرائيل إلى أقصاه، وتعهدت بمواصلة حث إسرائيل على الالتزام ببروتوكول الانتخابات في أوسلو، وأيدت بحث الفلسطينيين عن بدائل إذا استمرت إسرائيل في رفضها الفعلي. وفعلًا، كادت أن تأخذ القيادة بفكرة تأجيل اتخاذ قرار التأجيل لأسبوع أو أسبوعين، ولكنها صرفت الأنظار عنه بحكم أن القدس ليست السبب الحقيقي للتأجيل، وخشية من أن قوة الدفع المتولدة بعد الشروع في الدعاية الانتخابية ستُصعب اتخاذ قرار التأجيل، ولتجنب المصاريف والجهود التي ستبذل، إضافة إلى تجنب المواجهة مع الاحتلال .
بالتأكيد، كان بمقدور أوروبا أن تمارس ضغطًا أكبر على إسرائيل، ولكن من المشكوك فيه أن تقدر في ظل ما يربطها بها و الخلافات بين دولها، على إجبار إسرائيل على تغيير موقفها من خلال استخدام الأوراق التي تملكها، وبالتالي فإن الرهان على الموقف الأوروبي، أو تحميله أكثر ما يحتمل، أمر يجانبه الصواب.
كان هناك طريق واحد لفرض الانتخابات في القدس، خصوصًا مع هبة القدس المجيدة التي أزالت الحواجز من باب العامود، يمكن شقه من خلال الاستعداد لمواصلة هذه الهبة وتطويرها ووقف العمل في الاتفاقات، خصوصًا التنسيق الأمني، ما دام هناك رفض إسرائيلي للالتزام بها، كما تم الترويج سابقًا لتبرير إعادة النظر في قرار التحلل من الاتفاقيات.
إن هبة مستمرة ومتعاظمة ووقف الاتفاقات سيدفعان أو يمكن أن يدفعا أوروبا والأمم المتحدة، وحتى إدارة بايدن وأوساط إسرائيلية، إلى تغيير موقف الحكومة الإسرائيلية التي لم تهتم بملف الانتخابات التشريعية على المستوى السياسي، وأبقته بيد المستوى الأمني الذي فضل رفض إجراء الانتخابات، لأنه يفضل بقاء الوضع الراهن المريح للاحتلال، لا سيما أن الانتخابات باتت تحمل معها احتمال التغيير، ولا أحد يعرف أو يضمن التحكم به وبمداه وتداعياته، خصوصًا أن الانتخابات الرئاسية بعد شهرين وقائمة “الحرية” التزمت بترشيح الأسير القائد مروان البرغوثي للرئاسة في ظل وجود فرص كبيرة له بالفوز.
وإذا لم تغيّر إسرائيل وأصرت على منع الانتخابات، فالصورة التي سترسل إلى العالم وفيها يحاول الفلسطينيون الاقتراع في الصناديق التي ستوضع من حارة لحارة ومن مسجد لمسجد ومن كنيسة لكنيسة ومن مدرسة لمدرسة ومن مؤسسة لأخرى، ستظهر فلسطينية القدس أكثر من تصويت جزء بسيط من أصل 6300 المسموح لهم الانتخاب من إجمالي 50 ألفًا من أصحاب حق الاقتراع من المدينة المقدسة. فهم ينتخبون في مراكز البريد الإسرائيلية، ضمن السيادة الإسرائيلية كما ينص البند الثاني من أوسلو والبند السادس من الملحق، ومن دون وجود لجنة الانتخابات، ولا مراقبين محليين أو أجانب، ولا مندوبي القوائم، بحيث يسلم موظف إسرائيلي مغلفات المنتخبين وكأنهم جالية أجنبية وليسوا أصحاب البلاد الأصليين.
هل يعقل أن التصويت في صناديق مراكز البريد الإسرائيلية بموافقة إسرائيلية، وضمن السيادة الإسرائيلية، هو تأكيد على السيادة الفلسطينية، بينما يعني التخلي عن الرفض الإسرائيلي بإجرائها التخلي عن هذه السيادة؟!
وإذا كانت الانتخابات في القدس التي يوافق عليها الجميع مع اختلاف الصيغ بين مراكز البريد الإسرائيلية المهينة وبدائل أخرى تحت عنوان تحويلها إلى معركة مع الاحتلال وليس الانصياع للفيتو الذي وضعه على إجراء الانتخابات ليست السبب وراء التأجيل، فما السبب؟
ما سبق لا يعفي الاحتلال من المسؤولية، فهو يتحمل المسؤولية الأساسية، ولكنه يُظهر أن القيادة لم تختر المواجهة مع الاحتلال، لأنها أصلًا أرادت الانتخابات لتجديد شرعية السلطة، والحفاظ على الأمر الواقع، وتأهيل الجانب الفلسطيني للمفاوضات القادمة، ما يقتضي التمسك بأوسلو وليس تجاوزه.
والدليل على ذلك أن مسيرة المصالحة في جولتها الأخيرة بدأت بعد قرار التحلل من الاتفاقات الذي اتخذ في شهر أيار الماضي، ووفر أساسًا سياسيًا صلبًا للوحدة، ثم حدثت استدارة كاملة بعد فوز بايدن والعودة عن قرار التحلل الذي بلعته حركة حماس وبقية الفصائل، وكأنه أمر ثانوي وليس قضية مفصلية يجب الوقوف عندها وعدم التحرك إلى الأمام من دون التوصل إلى اتفاق وطني حولها.
وفي حوار القاهرة رُفِضَ إضافة للبيان الصادر عبارة تتحدث عن الالتزام بقرارات المجلسين الوطني والمركزي بخصوص إنهاء العلاقة مع إسرائيل والتخلص من الاتفاقات المبرمة معها، في دلالة على أن الانتخابات تجري لتكريس سلطة أوسلو وليس لتجاوزها، ولم تتحول المعارضة القوية لذلك إلى أزمة شاملة تهدد الحوار.
وحتى تكتمل الحكاية، أضيف أن قطار الانتخابات كمدخل للحل وإنهاء الانقسام كان يمثل وضعًا للعربة أمام الحصان، فالأصل أن يجري العكس، ولكنه انطلق عندما اتفقت حركتا فتح وحماس على القائمة المشتركة التي أصر الرئيس أن تحصل “فتح” فيها على 50% زائد واحد، مغطاة بالقائمة الوطنية الموحدة، وعلى دعم محمود عباس كمرشح توافقي لانتخابات الرئاسة، وعندما سقطت القائمة المشتركة لأنها رُفضت من داخل حركتي فتح وحماس وخارجهما، ومن إسرائيل وأميركا ودول عربية، وحتى أوروبا، سقطت الصفقة كلها، ما وضع علامة سؤال كبيرة على إمكانية إجراء الانتخابات.
وعندما ترأس ناصر القدوة قائمة الحرية بقيادة الأخ الأسير القائد مروان البرغوثي، وفشلت كل المحاولات والضغوطات لسحبها قضي الأمر الذي فيه تختلفان، إذ تأكد للقاصي والداني أن قائمة “فتح” لن تفوز بالأغلبية، ولن تكون الأولى، وربما ليست الثانية، ما يعني تغييرًا جوهريًا في خارطة المجلس التشريعي القادم والحكومة، الأمر الذي سيؤثر أيضًا على نتائج الانتخابات الرئاسية شبه المحسومة، وهذا أمر لم يحظ بالقبول من السلطة، ما دفعها إلى تأجيل الانتخابات في ظل توافق إسرائيلي عربي أميركي على ذلك.
لو لم يكن الأمر كذلك، لما استطاع الرئيس ومن أيده في التأجيل تمرير هذا القرار الذي عارضته أغلبية سياسية وشعبية كبيرة، لا تخطئها عين بصيرة ولا قصيرة.
ما العمل الآن؟
ما بعد تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى إلى أن توافق إسرائيل على إجرائها، يختلف عما قبلها، وذلك لأن هناك فراغًا في الشرعية حدث، ويمكن أن يبقى ونسير بعده إما نحو الفوضى والفلتان، أو تملأه أفكار ومبادرات وقوى وقوائم تحمل الأمل وتستجيب إلى الحنين الجارف للتغيير الذي أخرجته الانتخابات التي طال انتظارها من قمقمه، وبات من الصعب إعادته إليه، لذا التغيير آت آت من خلال الانتخابات التي توجد مطالبة قوية بتحديد موعد جديد لها.
أو من خلال الكفاح والضغط من أجل فتح حوار وطني شامل تمثيلي واسع يعترف بضرورة التغيير العميق، وبالحقائق الجديدة التي أظهرتها ما تقوم به الجاليات و مجموعات عديدة في الشتات، والحراكات والقوائم الانتخابية في الضفة والقطاع، خصوصًا الوازنة التي يجب أن تشارك في الحوار، من أجل الوصول إلى خطة خلاص وطني، عليها أن تتناول مختلف الملفات ضمن حل الرزمة الواحدة الشاملة التي تطبق بالتزامن والتوازي بلا غالب ولا مغلوب.
ويمكن أن تشمل الرزمة الشاملة الاتفاق على البرنامج الوطني الواضح والملموس الذي يجيب عن الأسئلة حول الهدف الوطني وأشكال النضال والعمل السياسي لتحقيقه، والموقف من أوسلو والتزاماته، وكيف ومتى يمكن إنهاؤها، والموقف من المفاوضات وشروط أي عملية سياسية جديدة، والموقف من المقاومة وسلاحها، وضرورة تشكيل جيش وطني واحد له مرجعية وطنية وإستراتيجية واحدة، وبرنامج يبني على التفاهمات والاتفاقات السابقة بما فيها وثيقة الأسرى، ويسعى لتطويرها واستكمالها، على أسس الشراكة والديمقراطية التوافقية، والاتفاق على تغيير السلطة لكي تبتعد عن سلطة الحكم الذاتي، وتقترب من تجسيد الدولة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال، والقائمة بحكم الحق الطبيعي والاعتراف الأممي، ومن خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم بالحقوق الوطنية، وتوحد المؤسسات وتنهي الانقسام وتداعياته، بما في ذلك ملفات الموظفين والأراضي والمعابر … إلخ. حكومة قادرة على التعامل مع المجتمع الدولي من خلال التسلح بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بعيدًا عن شروط اللجنة الرباعية.
كما تتضمن الرزمة الشاملة إعادة تشكيل وبناء مؤسسات المنظمة بدءًا من المجلس الوطني لتضم الجميع، ويمكن تشكيل إطار قيادي مؤقت جديد، أو توسيع جدي وتمثيلي للإطار القيادي المؤقت الذي في كل الأحوال مرجعيته يجب أن تبقى مؤسسات المنظمة، إلى حين تشكيل المؤسسات الشرعية الجديدة لتضم ممثلين عن اللاعبين الجدد داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وأماكن اللجوء والشتات، بمن فيهم المرأة والشباب والكفاءات، على أن يكون الإطار الذي سيتولى المسؤولية إلى حين إجراء الانتخابات وتشكيل المؤسسات.
طبعًا، هذه خطة طموحة، وربما خيالية، وتحتاج إلى وقت، وحتمًا ستكون مرفوضة في البداية على الأقل من القيادة المتنفذة ومن المستفيدين من بقاء الوضع الراهن، ما يفرض جهودًا حثيثة متواصلة وتحركات ومؤتمرات وضغوطًا شعبية وسياسية سلمية وقانونية متزايدة ومتراكمة لتصل إلى حد فرض إرادة ومصالح الشعب الفلسطيني على جميع اللاعبين القدامى والجدد.
قلنا سابقًا ونجدد القول إن الحلول الجزئية والشكلية وتجنب القضايا الجوهرية مثل دعوة المجلس المركزي المختلف عليه بعد توسيعه للانعقاد لمنح الشرعية لمصادرة الحق الدستوري الديمقراطي، وتأبيد الوضع السيئ القائم، والتركيز على توسيع الحكومة أو تشكيل حكومة وحدة أو وفاق تارة والموظفين تارة أخرى والانتخابات تارة ثالثة والمنظمة والمجلس الوطني تارة رابعة لم تنجح، ولن تنجح نسختها الجديدة المتمثلة بالدعوة غير الجدية لتشكيل حكومة وحدة توافق على القرارات الدولية (أي الالتزامات المعروفة)؛ ما يجعل الحل الوحيد الممكن والقابل للنجاح، ولم يجر تجريبه، هو حل الرزمة الشاملة الذي يشمل البرنامج الوطني، مفتاح الحل وإنهاء الانقسام فعلًا، بحيث تكون سلطة واحدة، على أن يتم تغيير السلطة وإعادة بناء مؤسسات المنظمة بالتزامن والتوازي .
إذا كانت هناك إرادة هناك حل، وإذا لم تكن فيجب أن تكون
التعليقات مغلقة.