الحركة الإجتماعية بأمريكا الجنوبية – دُرُوس وعِبَر … نموذج تشيلي وكولومبيا / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 30/5/2021 م …

تقديم:




تأثرت أمريكا الجنوبية بشدة بأزمة وباء الفيروس التّاجي “كوفيد – 19″، وتضرّرت اقتصاديًّا وصحّيًّا واعتبرتها الأمم المتحدة أثر مناطق العالم مُعاناة من أكبر انكماش في الناتج المحلي الإجمالي سنة 2020 وبلغ معدّل انكماش الناتج المحلي بجنوب القارة الأمريكية 7,7% سالِبَة مقابل 7,4% سالبة أيضًا في أوروبا و 3,6% سالبة في الولايات المتحدة، وتحتاج أمريكا الجنوبية ومنطقة بحر الكاريبي حوالي 14 سنة لتَدَارُكِ تَخَلُّفِها عن أهداف التنمية الاقتصادية لسنة 2030، والتي أقرتها الأمم المتحدة، وقد يُؤَدِّي الوضع الإقتصادي والإجتماعي إلى تصاعد الإحتجاجات الشعبية، لأن هذه الأزمة الأخيرة (المتزامنة مع “كوفيد 19”)، أدت إلى ارتفاع سريع وحادّ في معدلات الفقر في البلدان التي تفتقر إلى شبكة أمان اجتماعي، في كولومبيا وتشيلي، والبرازيل والأرجنتين، وغيرها، فيما ضخّت الدول الغنية (أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان) مبالغ كبيرة لدعم الإقتصاد…

واجهت حكومات دول أمريكا الجنوبية، قبل جائحة كورونا، احتجاجات عنيفة، خاصة في تشيلي وبيرو والإكوادور وبوليفيا ونيكارغوا، وازداد الوضع تعقيدًا مع جائحة كورونا، التي يدفع ثمنها الأشد فقراً، وكذلك الفئات متوسطة الدّخل التي تضررت كثيرًا، فيما ارتفعت ثروة الأكثر ثراءً (مثل بقية مناطق العالم) مقابل زيادة الفقر وانخفاض نصيب الفُقراء من الثروات الوطنية التي يخلُقُها العاملون.

شهدت سنة 2019 تصاعد احتجاجات الأُجَراء والفُقراء في عدد من مناطق العالم، بما فيها أوروبا وأمريكا الشمالية، ما يُفيد أن أزمة النّظام الرأسمالي كانت ملموسة قبل انتشار وباء “كوفيد 19″، وهي احتجاجات ذات صبغة اقتصادية، بفعل ظروف العمل السّيّئة وارتفاع نسبة البطالة والفَقر، وانعدام الأمن الغذائي وارتفاع رُسُوم التعليم والضرائب غير المباشرة، وما إلى ذلك، ولم تهدأ هذه الإحتجاجات في بعض بلدان أمريكا الجنوبية، حيث واجهت الحكومات النيوليبرالية احتجاجات شعبية هائلة، منذ سنة 2019، ضد نموذج التنمية النيوليبرالي الذي أنهَكَ العاملين والكادحين والفُقَراء، وانتفضت الجماهير في “إكوادور”، سنة 2019، ضد شروط صندوق النقد الدّولي، كما واجه انقلاب اليمين المتطرف، في بوليفيا، مقاومة شعبية، أزاحت اليمين الإنقلابي (المدعوم أمريكيًّا)، بعد سنة واحدة من الاستيلاء على السلطة، ومنعته من فرض أجندته النيوليبرالية، ومن خصخصة مناجم “الليثيوم”…

اغتنمت الولايات المتحدة أخطاء القوى التي تدّعي الإشتراكية، وقوى “اليسار المعتدل”، في أمريكا الجنوبية، كالأرجنتين والبرازيل، منها فساد بعض قادَتها، فعززت القوى العميلة للإمبريالية، في فنزويلا وبوليفيا وإكوادور والبرازيل وسلفادور وغيرها، في حين لم تتمكّن قوى اليسار من “تجاوز الرأسمالية”، وحاولت تنفيذ إصلاحات وإعادة توزيع عائدات الثروات (مواد أولية) في إطار قواعد النظام الرأسمالي، ومنها النظام الإنتخابي العامودي التقليدي، بدل نظام أُفُقي قاعدي، فانهزمت هذه القوى في البرازيل سنة 2018، وفي إكوادور وأروغواي، أما في بوليفيا فكان الانقلاب الأمريكي للاستيلاء على الليثيوم، وتمكّنت الإمبريالية الأمريكية من إضْعاف اقتصاد فنزويلا وعزل البلاد وشعبها، بمساعدة الأنظمة العميلة لها في كولومبيا والبرازيل …

في المقابل، تكبدت الإمبريالية الأمريالية، والأنظمة التي طبّقت الوصفات النيوليبرالية، بعض الهزائم، بفضل المُقاومة الجماهيرية، في شيلي ضد سياسات الرئيس سيباستيان بينيرا وفي الأرجنتين (ماوريسيو ماكري) والبرازيل (بولسونارو) وبيرو (أُسْرَة  ألبرْتُو فوجيموري، ومارتن فيزكارا)…

اعتبر صندوق النقد الدّولي (والإمبريالية الأمريكية) كولومبيا (مثل تشيلي) نموذجًا يحتذى به، والبَلدَان عُضْوان في تحالف المحيط الهادئ، الذي بادرت الإمبريالية الأمريكية إلى تأسيسه سنة 2013، وهو تَجَمُّع تجاري نيوليبرالي، يجمع حلفاء الولايات المتحدة الآخرين مثل المكسيك وبيرو، يهدف منافسة مجموعة “ميركوسور” التي تهدف التعاون الإقتصادي لأمريكا الجنوبية، مع دول “الجنوب”، وبادرت الأنظمة التقدمية ( الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وفنزويلا وأرغواي…) إلى تأسيسها منذ سنة 1991، ثم تعزيزها وتوسيعها، وعَرْقَلت الولايات المتحدة الإتفاقيات التي أبرمتها مجموعة “ميركوسور” مع الإتحاد الأوروبي أو مع دول وتجمّعات أخرى، خارج أمريكا الجنوبية ومنطقة بحر الكاريبي…

ساعدت الولايات المتحدة الأنظمة العميلة لها على اجتذاب الإستثمارات الأجنبية، واعْتَبَرَ صندوق النقد الدّولي أنظمة الحكم في تشيلي وكولومبيا، نموذجًا يجب الإحتذاء به، وهما عضْوان في “منظمة التنمية والتعاون الإقتصادي”، لكن تَزَعْزَعَ استقرارُ التلاميذ النّجَباء لصندوق النقد الدّولي وعُملاء الولايات المتحدة، خاصة منذ سنة 2019، ولا تزال الإحتجاجات الجماهيرية، الرافضة لنمط التّنمية النيوليبرالي،  مُستمرة (منتصف أيار 2021)، واتخذت شكل رفض شروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والسياسات الناجمة عن ما سُمِّيَ “وفاق واشنطن” ( Washington Consensus – 1989 ) الدّاعي إلى سيادة اقتصاد السّوق والخصخصة وإلغاء الدّعم، والإعتماد على استخراج المواد الخام، واقترحت بعض مجموعات المعارضة نماذج بديلة لتنمية متوازنة ومُستَدَامَة، وإلغاء دعم الدولة كبار ملاك الأراضي والأعمال التجارية الزراعية من خلال التخفيضات الضريبية والإعانات…

يقدّم هذا المقال بعض أسباب ومظاهر فشل النيوليبرالية التي يعمل صندوق النقد الدّولي (وهو أداة الإمبريالية لنشر، بل فَرْضِ نمط الإنتاج الرأسمالي النيوليبرالي)، في بلدَيْن – تشيلي وكولومبيا –  اعتبرتهما تقارير البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي ومنظمة التعاون والتنمية، نماذج يُحتذى بها في البلدان “النامية”، مع محاولة إبراز دور المقاومة الشعبية في إفشال هذا المُخَطّط الذي لا يخدم سوى مصالح الشركات العابرة للقارات والأثرياء المحليين.

 

النموذج الأول- تشيلي:

في تشيلي، انطلقت الإضرابات الضخمة، بقيادة نقابات عُمّال مناجم النّحاس، وعمال الموانئ منذ سنة 2006، من أجل تحسين ظروف العمل وزيادة الرّواتب، وبدأت احتجاجات الطلبة، منذ 2011، ضد التعليم الإنتقائي (الطّبَقِي) وارتفاع رُسُوم التّسجيل والدّراسة بالجامعات، ولم تَهْدَأ رغم تغيير اللّون السياسي للحكومات وللأغلبية البرلمانية، وكشفت مظاهرات تشرين الأول/اكتوبر 2019، للتشيليين وللعالم، استمرار النظام الذي أقامته الدكتاتورية العسكرية بزعامة الجنرال “أوغستو بينوشيه” (1973 – 1990)، فبقي الدّستور الذي أقَرّته الدّكتاتورية العسكرية، سنة 1980 (وما انبثق عنه من مُؤسسات نظام الحُكْم)، سارِيَ المفعول، واستمر القمع الشديد ضد الكادحين والفُقراء، ويرأس الدّولة، منذ سنة 2010 – 2014 ثم من 2018 إلى الآن (2021) “سيباستيان بينيرا”، وهو رأسمالي رجعي، داعم للدّكتاتورية العسكرية، ولكن اضطرّ الرئيس (كرمز لطبقة الأثرياء) لقبول فكرة وضع دستور جديد، في مواجهة حركة اجتماعية عامة وقوية، وبمشاركة مُكثّفة للنساء والشباب، في محاولة من الإئتلاف الطبقي الحاكم لسحب البساط من تحت أقدام المُقاومة الشعبية، غير المُحصّنة، وغير المُتجانسة، فهي تتركب من الطلاب والعُمّال والمتقاعدين والفئات الوُسْطى التي أنهكتها الدّيون، ويُمثل مُقترح الرئيس تنظيم انتخابات تضفي قشرة ديمقراطية على النظام، من خلال تغيير الدستور دون تغيير النظام النيوليبرالي.

ارتفعت حِدّة الإحتجاجات، بداية من يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2019، وأدّت إلى تقسيم مُكوّنات “الديمقراطية التَّوافُقِيّة”، خصوصًا بعد لُجُوء الحكومة إلى قانون أمن الدولة (قانون طوارئ يسمح بأحكام فورية باسم الحفاظ على النظام العام) وإلى حظْر الجولان، وإغلاق جميع خطوط المواصلات وقطار العاصمة التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة، بداية من يوم 25 تشرين الأول/اكتوبر 2019، لتنتهي خُرافة استقرار نظام “الديمقراطية النّموذجية”، بانتشار الجيش في السّاحات والشوارع، ما أعاد إلى الأذهان ممارسات الدّكتاتورية العسكرية، وأعلن الرئيس “سيباستيان بينيرا”، وريث الدّكتاتورية العسكرية: “نحن في حرب ضد عدو قوي، عنيد، لا يحترم شيئًا ولا أحدًا، وهو (العَدُوّ) مستعد لاستخدام العنف والإجرام بلا حدود…”،  ولم يكن هذا العَدُوّ دولة أجنبية، بل سُكّان البلاد الذين يُطالبون بالعيش الكريم، وبالديمقراطية، وباحترام حقوق السّكّان الأصْلِيِّين (مابوشي)، كما يُندّد المتظاهرون بالفساد والإثراء السّريع والمشْبُوه، وبفساد رجال الكنيسة…

شكّلت تصريحات رئيس الأثرياء “سيباستيان بينيرا” (مؤيد للديكتاتورية العسكرية) وإعلان حالة الطّوارئ وحَظْر التّجوال، واحتلال الجيش والدّرك والشرطة الفضاء العام، استفزازًا أدّى إلى توحيد العديد من فئات الشّعب، من أبناء الطبقة العاملة في ضواحي المدن الكبرى، إلى أحياء الطبقة الوسطى، ضدّ السُّلْطة، وانعكس ذلك في شعارات المتظاهرين المُطالِبَة بتأميم النحاس والليثيوم والماء والكهرباء، والاعتراف بحقوق الشعوب الأصلية

أدّى القمع، خلال أربعة وأربعين يومًا، إلى استقبال قسم الطوارئ بمستشفيات العاصمة “سنتياغو”، أكثر من إثنتي عشر ألف جريح، وإصابة نحو ألْفَيْن مواطن بأسلحة نارية تابعة للشرطة والجيش، ونحو 350 بجروح خطيرة في العين، وأحصت منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية الآلاف من حالات سوء المعاملة في أقسام الشرطة ومئات التقارير عن العنف الجنسي التي ارتكبها ضباط الجحيش والدّرْك والشرطة، والتي وصلت إلى المحاكم، لكن بقيت ثقافة الديكتاتورية والإفلات من العقاب سائدة، إذْ ظل أكثر من ألْفَيْ شخص، بينهم قاصرون، في السجن لفترة فاقت السَّنَة دون محاكمة، بحسب تقرير منظمة العفو الدّولية (21 تشرين الثاني/نوفمبر 2020) الذي اعتبر هؤلاء الأشخاص “سجناء سياسيين”، فيما يُطالب العديد من المحامين وبعض نواب البرلمان بقانون عفو، خوفًا من توسّع واستمرارية حركة الإحتجاجات، بحسب منظمات أرباب العمل، وأحزاب اليمين، فيما قبلت قيادة نقابة العمال المركزية الموحدة (CUT) تحت الضغط، تنظيم إضراب عام كان ناجحًا، رغم تحذيرات المعارضة البرلمانية، وبعض القيادات النقابية “الإصلاحية”، وأحزاب “يسار الوسط”، من هذه الحركة الأُفُقية التي اتسمت باللامركزية، وعَبّرَ بعض قادة أحزاب الديمقراطية الإجتماعية والمسيحية، الذين تداولوا على إدارة الإقتصاد النيوليبرالي، لفترة ثلاثة عُقود، عن تخوفاتهم من “انتشار الفوضى”، بحسب تصريحات بعض زعمائهم، ليلة 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أثناء نقاش البرلمان ما اعتبرته الحكومة مشروع “اتفاقية سلام اجتماعي وتنظيم استفتاء لدستور جديد”، وما اعتبرته الحركة الإجتماعية “طعنةً في الظّهر”…

سمحت أحزاب “يسار الوسط” للرئيس سيباستيان بينيرا بالتحكم بزمام الأمور: فهو ينظم الاستفتاء على الجمعية التأسيسية (التي لن تكون قادرة على التشكيك في المعاهدات الدولية مثل اتفاقيات التجارة الحرة) والانتخابات البلدية والإقليمية والانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، فيما تصاعد القمع من جديد، وصرح متحدث باسم المتظاهرين: “لقد بنينا ودافعنا عن مطالبنا في الشارع وفي النضال لإسماع صوتنا ومطالبنا ضد الأحزاب والقوى التي شاركت في إدارة الليبرالية الجديدة … ستضفي هذه الانتخابات قشرة ديمقراطية على النظام الذي يغير الدستور دون تغيير النظام النيوليبرالي”، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية ( أ.ف.ب 19 آذار/مارس 2021)…

هناك قواسم مشتركة بين اقتراع سكّان تشيلي على تشكيل “لجنة لصياغة دستور جديد” واقتراع التونسيين، سنة 2011، على مجلس تأسيسي يصوغ دستورًا جديدًا، حيث استخدم الإقتراع كمُتنفّس يُفْرغ الحركة الإجتماعية من جوهرها الطّبقي، ويَبُثُّ أوهام التّغْيير عبر صناديق الإقتراع، بدل خلق ميزان قُوى قادر على هزيمة الطبقات التي تستغل وتضطهد أغلبية مكونات المجتمع…

صوت التشيليون يوم السبت 15 والأحد 16 أيار/مايو 2021، مايو لأربعة اقتراعات متزامنة: رؤساء البلديات ، وأعضاء مجالس المدن، وحكام المناطق، ولجنة لصياغة دستور جديد للجمهورية، وكانت المشاركة ضعيفة جدًّا، حيث بلغت نسبة الامتناع عن التصويت 61,4% وهي نسبة تاريخية مُتدنّية، خاصة في أحياء الطبقة العاملة، حيث لم يتجاوز عدد المُقْتَرِعِين 30% من عدد المُسَجَّلِين بالقائمات الإنتخابية، حيث طغى مطلب مواصلة النضال في الشارع ومقاطعة “المهزلة الانتخابية

دفعت الأحزاب التقليدية اليمينية واليمينية المتطرفة، ورثة الديكتاتورية العسكرية للجنرال بينوشيه، مع زعيمها الرئيس “سباستيان بينيرا”، ثمن سياساتها النيوليبرالية والقَمْعِية، طيلة ثلاثة عُقُود، وخسرت رهان الإنتخابات، ووصفت الصحافة التشيلية اليمينية هذه الهزيمة بالزلزال السياسي، إذ لم يحصل ائتلاف اليمين واليمين المتطرف سوى على 23% من الأصوات (37 مقعدًا)، ولم يتمكن من الفوز بثلث المقاعد (52 من أصل 155)، لكي يكون في موقع “الأقلية المعطلة” التي تتمتع بحق النقض أثناء التصويت على مواد دستور المستقبل، فيما حصلت الأحزاب الديمقراطية الإجتماعية والمسيحية الاشتراكية الليبرالية، التي تحالفت لتحكم من سنة 1990 إلى 2010، دون إعادة النظر في الإرث الاقتصادي للديكتاتورية (بما فيها الحزب “الإشتراكي”)، على 25 مقعدًا فقط…

أما غالبية المُنْتَخَبِين فهم من الحركات الاجتماعية، من رُموز انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019، والحركة النسائية، أو من الحزب الشيوعي، ومِمّن ينتقدون الإرث الاستبدادي والنيوليبرالي للديكتاتورية العسكرية، لكن هؤلاء جميعًا لا يُشكّلون كُتلةً مُتجانسة، ما قَدْ يُشتِّتُ هذه الأغلبية العَدَدِيّة وما قد يجعلها غير فاعلة.

 

النموذج الثاني – كولومبيا:

اشتهرت كولومبيا بأنها أكبر مُنتج عالمي لنبتة الكوكا، التي يُستخرج منها مُخدّر الكوكايين، وخُصِّصَت حوالي 70% من الأراضي الصالحة للزراعة بالبلاد لإنتاج الكوكا.

قَدّر تقرير الأمم المتحدة، نُشر سنة 2019، إيرادات اقتصاد المخدرات بنحو 2,7 مليار دولارا، ويحتل المرتبة الثالثة في قائمة ترتيب قيمة صادرات البلاد، بنهاية سنة 2018، وارتفع الإنتاج بنسبة 25% سنة 2017، مقارنة بالسنة السابقة (2016)، بحسب تقرير الأمم المتحدة.

في المجال السياسي، يُقارن التّقدميون بجنوب القارّة الأمريكية نظام “كولومبيا” بالكيان الصهيوني، بسبب التحالف الوثيق لنّظام الحكم مع الولايات المتحدة، واستخدام أراضي البلاد كقاعدة أمريكية للعدوان على الشعوب المُجاورة (إكوادور وبنما وبيرو وفنزويلا والبرازيل)، وينعكس هذا العنف ضد بلدان الجيران على المستوى الدّاخلي، حيث ينتشر العُنف المُؤَسَّسَاتي، وكذلك عُنف عصابات الجريمة المُنَظَّمَة (المتحالفة مع السُّلْطة) ونَشَرَ موقع الأمم المتحدة تقريرًا بتاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 2020، أشار إلى ارتفاع حجم جرائم القَتْل سنة 2018، بنسبة 6,7% عن العام السابق (2017)، ليصل عدد الجرائم المعروفة والمُوَثَّقَة إلى 12130 حالة قتل، وأعلن مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، توثيق ما يقرب من 66 مجزرة أسفرت عن 255 حالة وفاة واغتيال 120 من المدافعين عن حقوق الإنسان في كولومبيا خلال العام 2020، وكذلك سنة 2019، بالإضافة إلى اغتيال 244 من المقاتلين السابقين في القوات المسلحة الثورية لكولومبيا (فارك)، منذ اتفاق السلام المبرم سنة 2016 بين الثوار والحكومة الكولومبيةكما نُفِّذت مذابح جماعية ضد الفلاحين الفُقراء وضد السّكّان الأصليين والسّكّان السود – أحفاد الإفريقيين والإفريقيات الذين جلبهم الإستعماريون الأوروبيون واستعبدوهم في قارة أمريكا- من قِبَل القوات الحكومية، أو الجماعات غير الحكومية والجماعات الإجرامية والعناصر المسلحة الأخرى المتحالفة مع القوات الحكومية، وعادة ما يتم تشريد سُكّان القُرى النائية والإستيلاء على أراضيهم، وتتهم رئيسة لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، الحُكُومةَ بحماية المسؤولين عن العُنف، بدل تفكيك المجموعات الإجرامية المُسلحة، واتهمتها بعدم حماية السّكّان وعدم توفير الخدمات الأساسية، كما اتهمت الحُكُومةَ بعدم إجراء تحقيقات نزيهة ومستقلة وشفافة في الاتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان…

 

ظروف احتجاجات 2019- 2021:

يمكن اعتبار الإحتجاجات الحالية، في كولومبيا، مواصَلَةً لاحتجاجات سنة 2019، في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية، ومنذ 28 نيسان/ابريل 2021 (إلى غاية كتبة المقال، يوم 22 أيار/مايو 2021)، لم يمر يوم دون مظاهرات واشتباكات مع الشرطة، ولقي العشرات مصرعهم برصاص الشّرطة والجيش، وكانت الإحتجاجات في البداية تستهدف “الإصلاح الضريبي”، الذي أَمَر به صندوق النّقد الدّولي، ويتمثل في زيادة الضريبة غير المباشرة، على السلع والخدمات (ضريبة القيمة المُضافة) التي لا تُراعي مستوى الدّخل والفوارق بين الأثرياء والفُقراء، وتطورت الحركة الإحتجاجية إلى رفض شامل لسياسات الحكومة، وللتنديد بالقَمْع الرّسمي وقمع المليشيات المُسلّحة التي تُطلق النّار على المتظاهرين (في مدينة “كالي” على سبيل المثال)

نشرت منظمة العفو الدّولية تقريرًا عن وضع حقوق الإنسان بكولومبيا لسنة 2020، وَثَّقَ عددًا من الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، في المناطق الحَضَرِيّة، كما في المناطق الريفية من أجل سيطرة المجموعات الإجرامية على الأراضي التي كانت تحت سيطرة القوات المسلحة الثورية للجيش الشعبي الكولومبي، كما وثَّقَ التّقرير حالات من العنف الجنسي ضد النساء والفتيات، وإفلات الجُناة من العقاب، لتصبح كولومبيا (وليس إيران أو سوريا أو فنزويلا…) أخطر دولة في العالم بالنسبة للمدافعين عن حقوق الإنسان، واستنتج مُعِدُّو التّقرير ضرورة “حماية النّقابيين والمدافعين عن الحق في الأرض والصحة والسّكن، خصوصًا من المزارعين والسّكّان الأصليين، في منطقة الأمازون، وكذلك مسؤولي المجتمع المدني والنّساء…”، وسجّل التّقرير “الاستخدام المفرط للقوة من قبل الشرطة التي ارتكبت جرائم التعذيب، حتى الموت للمعتقلين، أو إطلاق النار بغرض القتل على المتظاهرين والمُحتَجِّين، وفاق عددهم عشرة أشخاص خلال شهر واحد، مع إفلات الجُناة من العقاب… “

اغتنمت سلطات كولومبيا، كما العديد من الدّول الأخرى، انتشار وباء “كوفيد 19” لإعلان حالة الطّوارئ، في السابع عشر من آذار/مارس 2020، حرمت الفقراء والمزارعين والسكان الأصليين من الوصول إلى سبل عيشهم، ومن الحصول على من فرص الحصول على الصحة والمياه والغذاء، وأقَرّت الدّولة 164 مرسومًا – معظمها غير دستوري – يَحُدُّ الحُرّيات أو يُلغيها، وتعزّزَ بذلك وجُود المليشيات المُسلّحة التابعة للمنظمات الإجرامية، المدعومة من أجهزة الدّولة، بدل تفكيكها وفق اتفاق 2016 مع القوات الثورية، وتلَا إقرار هذه المراسيم حملة قَمْعِيّة غير مسبوقة، أضرّت بمصالح بعض الأوساط البرجوازية، ما أدّى إلى انقسام في الفئات الدّاعمة للنظام القائم، أفْضَى، في آب/أغسطس 2020، إلى إقرار المحكمة العليا وضع الرئيس السابق “ألفارو أوريبي فيليز” قيد الإقامة الجبرية الوقائية ، فيما يتصل بإجراءات ضده بتهم الفساد والاحتيال والتلاعب بالشهود، تم رفع هذا الإجراء في تشرين الأول/أكتوبر 2020، ومواصلة التحقيقات، بالتعاون مع بعثة التّحقيق التابعة للأمم المتحدة، ما يعني أن الحماية الأمريكية رُفِعَتْ عن “أوريبي”، ليُمْكن تعويضُهُ بعميل آخر، بدل انهيار النظام ككل، وهو ما حصل أيضًا في تونس أو مصر أو اليمن أو السّودان أو غيرها من بلاد العالم.

تمكنت قوات أمن الدولة والمجموعات شبه العسكرية، مثل “قوات الدفاع الذاتي الكولومبية”  (AGC) ومجموعات الجريمة المًنَظّمَة والمافيات المُسلّحَة المُختلفة، من ارتكاب أعمال قتْل مُستهدَف وعنف وتهجير آلاف الأشخاص قسراً، أو احتجازهم، أو تعرضهم للعنف، بحسب تقرير صادر عن 500 منظمة من منظمات المجتمع المدني، التي لاحظت تعزيز التسليح لدى المجموعات شبه العسكرية في 22 مقاطعة من أصل 32 مقاطعة في البلاد، أو حوالي 90%من الأراضي الكولومبية، من أجل السّيْطَرة على مناطق إنتاج وتهريب المخدرات ومناطق التعدين، وأكّد تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في حزيران/يونيو 2020، أن المجموعات المُسلّحة هجّرت، خلال النّصف الأول من سنة 2020، ما لا يقل عن 16190 شخصا، وقع إحصاؤهم، بالإضافة إلى تشريد جماعي لأكثر من 1590 فردًا من السكان الأصليين في منطَقَتَية واحدة، بهدف الإستيلاء على أراضيهم، وأكّد مكتب المُفَوّض السّامي لحقوق الإنسان ارتكاب قوات الأمن والمجموعات المُسلّحة التي تحظى بحماية الحكومة، ما لا يقل عن 66 مجزرة (قتل ثلاثة أفراد أو أكثر في نفس الوقت وفي نفس المكان)، وما لا يقل عن 51 مذبحة لأشخاص محميين بموجب القانون الإنساني الدولي، وقتل 41 عضو سابق في القوات المسلحة الثورية لكولومبيا – الجيش الشعبي، وهم محميون باتفاق 2016، بحسب تقرير الأمم المتحدة الذي أحصى قَتْلَ 317 شخص من المُدافعين عن حقوق الإنسان، وخاصة من السكان من أُصُول إفريقية أو من السكّان الأصليين، خلال سنة 2020، وسدّدت النساء والفتيات ثمنًا باهِظًا للعنف، ولإفلات مُرتكبيه من العقاب، حيث تم الإبلاغ عن ما لا يقل عن ستمائة عملية اغتيال نساء وبنات خلال سنة 2020، وفقًا لمرصد عمليات قتل النساء في كولومبيا، بالإضافة إلى آلاف عمليات الإغتصاب في بلد لا تزال قوانينه تعتبر الإجهاض “جريمة جنائية”…

 

احتجاجات 2021:

في هذا المناخ انطلقت مُظاهرات تشرين الأول/اكتوبر 2019، وهدأت بفعل إجراءات الحجر الصّحّي وحالة الطّوارئ، منتصف آذار/مارس 2020، بذريعة الحد من انتشار وباء “كوفيد 19″، وهي المناسبة التي استغلّها النظام الحاكم لتكثيف القمع والرقابة وانتهاك الحقوق، ما جعل النقابات والحركات الطلابية والأحزاب اليسارية، تَدْعُو، يوم الإثنين 21 أيلول/سبتمبر 2020، إلى مظاهرات ضد الانتهاكات، وتم قَمْعُ المتظاهرين بشدة من قِبَلِ الجيش وقوات مكافحة الشغب والمليشيات المُسَلّحة المنتشرة في البلاد، ما جعل السناتور “كارلوس لوزادا” يُصَرّحُ: “إن إرهاب الدولة هو وسيلة تم تبنيها في كولومبيا للحفاظ على النّظام السياسي الذي يَفْرِضُ مصالح الشركات من خلال الإرهاب…”، وتجدر الإشارة أن الرئيس “إيفان دوكي”، وكذلك سَلَفُهُ “ألفارُو أُورِيبِي”، يُمَثِّلان مصالح الأوليغارشية الزراعية والاستخراجية الكولومبية، التي أنشأت أحزابًا تُدافع عن مصالحها، من الوسط الديمقراطي إلى اليمين الراديكالي، بالتوازي مع المجموعات والمليشيات المُسلّحة التي تَفْرِض مصالح الأثرياء بقوة السلاح، والإغتيال والتّهجير القَسْرِي، وما إلى ذلك من الأساليب العنيفة ضد النساء والمُزارعين والسّكّان الأصليين وأحفاد الأفريقيين المُسْتعْبَدِين…

بعد إكوادور وبوليفيا وتشيلي، جاء دَوْرُ كولومبيا، التي شهدت حربًا أهلية دامية لأكثر من نصف قرن – حتى العام 2016 – بين الجيش ومجموعة الماركسيين التابعين للقوات المسلحة الثورية لكولومبيا (فارك)، وتسبّبَ تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في إطلاق هذه الجولة الجديدة من الإحتجاجات، وسرعان ما انضمت النقابات، التي دعت إلى إضراب وطني في 21  تشرين الثاني/نوفمبر 2020 ، إلى أحزاب المعارضة والطلاب والأهالي والمنظمات البيئية والفنانين، في مواجهة مشروع “إصلاح العمل” (أي تَيْسِير عملية التّسريح وزيادة عدد ساعات العمل وتجميد الرواتب…) والمعاشات، وأيضًا في مواجهة نقص الاستثمار في الصحة والتعليم ، وفي مواجهة البطالة والفساد…

أدى الإغلاق في أيار/مايو 2020 إلى زيادة الفقر وعانت العديد من الأسر من المجاعة، ما أدّى إلى اندلاع مُظاهرات تشرين الأول والثاني/اكتوبر/نوفمبر 2020، في شوارع معظم المُدُن، احتجاجًا على حكومة الرئيس اليميني “إيفان دوكي”، ورَدّد المتظاهرون عبارة “مُقاومة – مُقاومة”، وقَمعت قوات الشرطة هذه المظاهرات السلمية بعنف شديد، وبعد أقل من عام من الإغلاق، أثار مشروع إصلاح ضريبي لمكافحة إعادة التوزيع مستوحى من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، غضب المواطنين…

انطلقت سلسلة من الاحتجاجات المستمرة، منذ 28 نيسان/ابريل 2021، احتجاجًا على تطبيق شروط صندوق النقد الدّولي، المُتَمثِّلَة بزيادة الضرائب على الإستهلاك (ضريبة القيمة المُضافة) من 16% إلى 19% وتمديدها لتشمل المنتجات الأساسية مثل الغذاء والطاقة والبنزين والماء، وتوسيع رُقعة الجِبايَة، وتعسير شروط الرعاية الصحية، وخصخصة قطاع الصّحّة، واتّسعت رقعة الإحتجاجات، خاصة بعد قتل الشرطة الشاب “مارسيلو أغريدو” (17 سنة) بطلقتين في الظهر، وجرح طفل برفقته في سن الثالثة عشرة، وأدت حادثة القَتْل المُتعمّد برصاص الشّرطة، إلى توسيع الفئات المُشاركة في المظاهرات إلى الشباب والنّساء وأعضاء النقابات، والسكان الأصليين للمطالبة بظروف معيشية أفضل، ونشرت الحكومة حوالي خمسين ألف جندي وشُرْطي في مُدُن البلاد، ارتكبوا العديد من الإنتهاكات والجرائم ضد المواطنين والمواطنات، منها جرائم الإغتصاب، وإطلاق النار على المدنيين، فيما حطّمت مجموعة من السّكّان الأصليين، نَصْبًا أقامته الدّولة تكريما لرمز الغَزْو الإسباني للبلاد “سيباستيان دي بيلالكازار”، في القرن السادس عشر، واعتَبَر السّكّان الأصليّون الغزو الإسباني، الذي بدأ سنة 1499، بداية الإبادة التي تعرّض لها أصحاب البلاد، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية ( 04 أيار/مايو 2021)، وكانت الحكومة تهدف من زيادة الضرائب، زيادة الإيرادات الحكومية، لكن هذه الضرائب تُؤَدِّي إلى مزيد من إفقار الناس، وبعد عدة أيام من التظاهرات، سحبت الحكومة مشروعها يوم الأحد 2 أيار/مايو 2021، واستقال وزير المالية في اليوم التالي، ورغم تراجُعِ حكومة “إيفان دوكي”، استمرت التعبئة، وشملت شعارات المتظاهرين مُعارضَةَ سياسات الحكومة المُتَّسِمَة بغياب المساواة بين الطبقات، حيث يشهد البلد فجوة هائلة بين الفقراء والأثرياء، مع اتساع تفشي البطالة في البلاد.

ردّ المتظاهرون، على التحليق المستمر للطائرات المروحية العسكرية، وعلى انتشار المُدرّعات والدّبّابات في مناطق سَكَنِيّة بالعاصمة “بوغوتا” وبمدينة “كالي”، بإقامة الحواجز، وتمكنوا – بفعل الأعداد الكبيرة للمحتجّين – من اختراق الحواجز التي نصبتها الشرطة ليعبّروا عن مزيد الغضب من الدفع بالجيش لمواجهة احتجاجات شعبية سلمية، وسقوط مئات الضحايا والمُصابين بالرصاص الحي، وطالبت السيدة “كلوديا لوبيز”، رئيسة بلدية العاصمة “بوغوتا”، وهي مُعارضة لسياسة الحكومة الحالية، إجراء حوار مع الشباب تحديداً، فهم وجدوا أنفسهم خارج النظام التعليمي، ومُعطّلين عن العمل، ما يُؤدّي إلى الإحباط والشعور بالظّلْم.  

إن ما أشعل الغضب في الشارع هو الطريقة العنيفة التي واجه بها الجيش والشرطة الاحتجاجات التي بدأت سلمية، لكن عُنْفَ الجيش والشُّرطة أجّج غضب العاملين والفُقراء وبعض الفئات الوُسطى والنساء والشباب والسكان الأصليين والسكان السود، وأحرق المتظاهرين بعض المباني التي تُمَثِّلُ رَمْزَ السّلْطَة، فيما أعلنَ أمين المظالم الكولومبى، يوم 18 أيار/مايو 2021، في حديث لإذاعة “بلو”: “وصلتني شكاوى من تجاوزات وانتهاكات خطيرة للغاية من قبل الشرطة، بما فى ذلك أعمال الاعتداء الجنسى، وموت سيباستيان كوينتيرو، وأعمال إرهابية ضد مؤسسات الطب الشرعى ومكتب المدعى العام مع إتلاف الأدلة”.

كان الرئيس السابق “خوان مانويل سانتوس”، قد عقد اتفاقية سلام مع القوات الثورية الكولومبية المعارضة سنة 2016، لوضع حَدٍّ لعقود من الحرب الأهلية في البلاد، وتحولت الحركة المسلحة الثورية إلى العمل السياسي، فيما لا يزال “جيش التحرير الوطني” يحمل السلاح، لكن الحكومة السابقة والحكومة الحالية لم تُطَبِّق شُرُوط اتفاقية السّلام، بل اغتال الجيش والمليشيات الموالية للحكومة العديد من قادة الحركة الثورية، ما جعل حركات المعارضة وبعض الفئات من المواطنين تعتبر أن حكومة الرئيس الحالي (دُوكي) تخضع للأب الروحي، الرئيس السابق أورويبي، الذي يُسَيِّرُ الحكومة من الكواليس، وصرّح الرئيس السابق “أوريبي” أن الاحتجاجات الاجتماعية “هي امتداد للحركات المتمردة في “فارك” و”جيش التحرير الوطني.

بعد اتّساع نطاق الاحتجاجات وإراقة دماء المتظاهرين، دعى الرئيس “دوكي”  إلى حوار بين جميع الأطياف السياسية، ولم تستجب النقابات والمُعارضة، لأن هذه الدّعوة نُسخة لدعوة سابقة، إثر مظاهرات سنة 2019، حيث لم ينتج من اجتماع الأحزاب أية نتائج ملموسة للفقراء، بل استخدم النظام هذه المُشاورات للمماطلة ولربح الوقت، وتأتي الدّعوة الحالية للحوار، قبل أقل من سنة من موعد الإنتخابات المقبلة. 

 

السياق العام:

يعد نظام الحكم في كولومبيا من أكثر الأنظمة قمعية في أمريكا الجنوبية والعالم، وهو مدعوم من قِبَلِ الولايات المتحدة التي تستخدم أراضي الدولة كقاعدة ضد فنزويلا والأنظمة التقدمية في المنطقة.

تُعاني كولومبيا من الوباء، كما تُواجه مشاكل الدّيون والعجز في الميزانية، بسبب انخفاض الإيرادات، وتخصيص جزء منها لتسديد الدّيُون وفوائدها. أما على المستوى الإجتماعي فقد ارتفع معدل الفقر بكولومبيا من نحو 36% سنة 2019 إلى أكثر من 42% سنة 2020، وارتفعت نسبة البطالة من نحو 9,6% سنة 2019 إلى أكثر من 16% سنة 2020، بحسب الأرقام الرسمية للحكومة التي لا تتعامل مع المواطنين سوى بمنطق القُوّة والقتل والإختطاف والإغتصاب، لذلك تستمر الاحتجاجات في مختلف أنحاء كولومبيا، منذ أكثر من ثلاثة أسابيع (عند كتابة هذه الفقرات)، مع اتساع نطاقها، ما يُذَكِّرُ باحتجاجات المواطنين في تشيلي بنهاية 2019 وبداية 2020، التي لا يزال لهيبها تحت الرّماد.

شكّلت زيادة الضرائب سببًا للإحتجاجات والإضرابات في كولومبيا، بعد تراكم عدد من الأسباب الأخرى، تتعلّق بمطالب قدّمها المحتجّون منذ سنة 2019، ومنها العدالة الإجتماعية والإصلاح العميق في توزيع الثروة الوطنية، لكي تحصل الفئات الأكثر فقْرًا واحتياجًا على نصيبها…

بدأت الاحتجاجات بشكل جدي في 28 نيسان/أبريل 2021، في المدن الكبيرة مثل العاصمة “بوغوتا” (حوالي سبعة ملايين نسمة) ومدينة “كالي”، ورغم القمع، استمرت الاحتجاجات خلال الأيام التالية، رغم سَحْب الرئيس خطته الضريبية “لإعادة صياغتها”، أي تأجيل إعلانها، جون تقديم أي خطة بديلة.

أحصت “هيومن رايتس ووتش” (تمويل وزارة الخارجية الأمريكية) بين 28 نيسان/ابريل و 03 أيار/مايو 2021، أي خلال أقل من أسبوع واحد، 1089 حالة عنف من قِبَلِ الشرطة، و726 اعتقالًا تعسفيًا، و27 قتيلًا و6 أعمال عنف جنسي، وفي اليوم نفسه أحْصت منظمة محلية حالات إضافية، تمثلت في 672 حالة اعتقال تعسفي و92 حالة عنف من قِبَلِ الشرطة، ودعا الرئيس السابق “ألفارو أوريبي فيليز” إلى تمجيد العنف، و”دَعْمِ حق الجنود والشرطة في استخدام الأسلحة النارية والرصاص الحَيّ ضد المتظاهرين…” كتبت وكالة رويترز يوم 17 أيار/مايو 2021: تستمر الإحتجاجات، منذ ثلاثة أسابيع، ضد الحكومة الكولومبية والرئيس إيفان دوكى، على خلفية زيادة قيمة الضريبة المضافة وتوسيع قاعدة الضريبية على الدخل، ورغم سَحْب مشروع قانون الإصلاح الضريبي، استمرّ السخط الشّعْبِي وتحَوَّلَ إلى احتجاج أوسع مناهض للحكومة، في بلد يعاني من عنف مستمر وصعوبات اقتصادية فاقمها تفشي فيروس كورونا، وأدى قَمعُ قوى الأمن إلى سقوط 42 قتيلاً و1700 جريح، خلال أُسْبُوعَيْن…

كتبت  وكالة الصحافة الفرنسية، يوم 19 أيار/مايو 2021: دعت لجنة الإضراب الوطني (ليوم 19/05/2021)، إلى نزع سلاح الشرطة وسحب عمليات إنفاذ القانون للوحدة الخاصة لمكافحة الشغب التي تم تدريب عناصرها على القتال وحرب العصابات، ضد متظاهرين يرفعون مطالب اجتماعية، مثل تحسين الوصول إلى التعليم والصحة والوظائف والسّكن اللائق، وتعد كولومبيا، إلى جانب تشيلي والبرازيل، البلد الأكثر تفاوتًا في الدّخل في أمريكا الجنوبية، حيث تُقدّر دراسات بحثية محلية أن أكثر من 40% من إجمالي عدد السكان (خمسين مليون نسمة) يعيشون حاليا، سنة 2021، تحت خط الفقر، بحسب ما أوردت أ.ف.ب. (19 أيار/مايو 2021)…

 

خاتمة:

تَعتَبِر تقارير صندوق النقد الدولي دولة كولومبيا “الجنة النيوليبرالية للمستثمرين (الرأسماليين)، والدولة التي حققت “نموًا هائلاً، مع توازن الميزانية، وانخفاض الدين العام، وارتفاع تدفقات رأس المال الأجنبي… “، وفقًا لصندوق النقد الدولي الذي لا يهتم بعدم توجيه الإستثمارات نحو القطاعات المُنْتِجَة أو بالتفاوت الطّبقي المُجحف، وبوضع العمال ورواتبهم المنخفضة، ولا بوضع الأطفال والفلاحين والفقراء، بل يدعو إلى خفض الإنفاق الحكومي، في كل مكان، باستثناء الإنفاق على القمع (الجيش والشرطة)، لتجنب الإنتفاضات والثورات، وبقي اقتصاد كولومبيا يعتمد على تصدير المواد الخام والمنتجات الزراعية، وشكل النفط والفحم حوالي نصف صادرات البلاد سنة 2019، وإذا أضيفت المنتجات الزراعية الخام، تُقارب النسبة ثُلُثَيْ قيمة الصادرات...

أورد تقرير البنك العالمي بنهاية آذار/مارس 2019، بيانات منها أن أغنى 10% من سكان كولومبيا يمتلكون نسبة تقارب 40% من ثروة البلاد، وللمقارنة يمتلك أغنى 10% من سكان الأرجنتين وأورغواي قرابة 30% من الثروة، بنهاية سنة 2018، وبالتوازي مع ارتفاع ثروة الأثرياء وتحويل ثروات البلاد إلى القطاع الخاص، عبر خفض الضريبة على الشركات وعلى الثّروات، ارتفع حجم الدّيْن العام من 35% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2012 إلى 62,8 % من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2020، وفقًا لصندوق النقد الدولي الذي أَمَرَ بضمان إيرادات قَارّة للدّولة، عبر زيادة الضرائب غير المُباشرة، التي تَضُرُّ كثيرًا بالفُقراء.

تأثّرت الدّول التي تُطبّق النيوليبرالية، مثل تشيلي وكولومبيا (كما في البرازيل وإكوادور وبيرو)، وبالأخص تلك التي يعتمد اقتصادها على استخراج وتصدير المواد الخام والإنتاج الزراعي، بالأزمات المتتالية، أكثر من غيرها، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بوعودها، بل تُجابه الإحتجاجات بالعنف الشديد، وخاصة ضد العاملين الذين انخفضت القيمة الحقيقية لرواتبهم، والسّكّان الأصليين الذين تريد الحكومات (في تشيلي وكولومبيا، على سبيل المثال وليس الحَصْر) الإستحواذ على مناطقهم وأرضهم التي يحتوي باطنها على المواد الأولية والمياه والغابات، لمَنْحِها للشركات الأجنبية التي تريد استغلال المزيد من الليثيوم (الضروري للتقنيات الحديثة ولبطاريات السيارات الكهربائية والحواسيب والهواتف المحمولة…) والنّحاس، والمنتجات الزراعية، منها المنتجات اللازمة “للوقود الأخضر”.

من جهة أخرى، أظهرت تجارب “اليسار” في أمريكا الجنوبية أن إعادة توزيع الدّخل مكنت من الحد من الفوارق الطبقية، لكن الإقتصاد بقي يعتمد على استخراج المواد الأولية، وعلى قانون السّوق، وعجز هذا النمط من المسار التنموي على تحويل الإقتصاد من الإعتماد على تصدير المواد الخام، إلى الإعتماد على الإنتاج والإبتكار، بالإضافة إلى الحصار الإقتصادي والسياسي الذي تمارسه الولايات المتحدة وحلفاؤها، ويصل حد تنظيم الإنقلابات العنيفة أو “النّاعمة”، ما ساهم في إفشال عدد من تجارب البلدان التي حكمها اليسار، مثل فنزويلا وبوليفيا وإكوادور والبرازيل، أما في الدّول التي تُطبق أنظمتها تعاليم صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، مثل كولومبيا وتشيلي، التي اتخذناها نموذجا في هذا المقال، فقد هبّ المواطنون للإعتراض على هذه السياسات، دون امتلاك بديل يحل مشاكل الإستغلال والإضطهاد والتفاوت الطّبقي… 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.