«العودة الى لينين»: ماذا نتعلّم من البلاشفة؟ / عامر محسن
عامر محسن ( السبت ) 7/5/2016 م …
«العودة الى لينين» هو شعارٌ سوفياتي كان يرفع في كلّ مرحلة يروم فيها القادة الشيوعيون إصلاحاً، أو نكوصاً عن عهدٍ سابق؛ فرُفع الشعار أيّام خروتشيف تبرؤاً من ستالين، وفي فترة غورباتشيف، وفي مراحل كثيرة بينها. إن كان مفهوم الإصلاح يمثّل دوماً «عودة» الى الجذور، أو الى الأسس «القويمة» التي تاه عنها النظام وانحرف، فإنّ لينين قد مثّل لمن خلفه ذلك الماضي «المجيد»، مرحلة الإنجازات والنقاء الثوري، قبل أن تتحوّل التجربة الى صراعات و»بيروقراطية» ومصالح حكم.
يقول آدم أولام في كتابه عن البلشفيين (وهو عملٌ من مرحلة الحرب الباردة، يهاجم الشيوعية بشراسة) إنّ «العودة الى لينين» كانت، في الغالب، تكتيكاً خطابياً هدفه نقض عهدٍ وتثبيت آخر، ولكن حتّى أولام كان مضطرّاً للإعتراف بأنّ مكانة لينين لم تأتِ من فراغ: كان من حقّ أتباعه أن يروه «صانع معجزات»، يقول أولام، حين نتأمّل كيف قاد حركةً صغيرة، أقلوية، لتستلم ــــ خلال سنوات ـــــ الحكم في روسيا بلا منازع.
هنا، يجب أن نعقد تمييزاً أساسياً بين البلشفيين الثوريين، كمجموعة سياسية نافست في إطار الحرب الأهلية الروسية، وبين الماركسية كفلسفة، وبين النّظام الشيوعي الذي تلى انتصار البلاشفة وتأسيس الاتحاد السوفياتي. فالدّرس الأهمّ للّينينيّة، بخاصّة لمن يعيش في زمننا، قد لا يكون في المحتوى الإيديولوجي، أو أقوال لينين وكتاباته، بل في نظرتهم الى الصراع السياسي والتنظيم والبروباغاندا في عصر الحداثة والسياسات الجماعية، وكيفية تحوّلهم ـــــ خلال سنوات قليلة ـــــ من أقلية ايديولوجية معزولة الى حركة شعبية كاسحة.
في العمق، كانت نظرة البلشفيين الى الميدان السياسي بسيطة: هناك كتلة تؤيدك وتناضل معك، وهناك في المقلب الآخر كتلة (أو كتل) تعاديك وتحاربك، وأنت لن تغيّر موقفها، لأنه يقوم على مصالح وتناقضات لا تحلّ بالحوار، وهناك كتلة في الوسط، يجري التنافس عليها. كلّ اللعبة السياسية بالنسبة الى البلاشفة، وكلّ الصّراع الإيديولوجي، كان يتمحور حول كسب هذه الكتلة الوسطية التي لم تلتزم سياسياً بعد.
يقول المؤرخ بيتر كينيز في مقال قديمٍ عن لينين والصحافة، إنّ البلاشفة «انتصروا في الحرب الأهلية لأنّهم تفوّقوا على خصومهم في مجالين حيويّين: التنظيم والبروباغاندا». والبلاشفة تمرّسوا في فنون التنظيم والدعاية بفضل ماضيهم الثوري وتراث العمل السرّي، وهو ما ميزهم عن القوى البرجوازية الروسية وضباط الجيش (الذين كانوا يأنفون السياسة و»يترفّعون» عنها). بالنسبة الى لينين ورفاقه، كانت البروباغاندا الأداة الأساسية لكسب «من هم في الوسط»، والصحافة ــــ لمن يتساءل عن دورها ومكانها اليوم ــــ كانت السلاح الرئيسي هنا. في تلك المرحلة، كان الناشط السياسي صحافياً بشكلٍ أوتوماتيكي، يكتب المقالات ويساهم في إنشاء المطبوعات، ولكنّ لينين بشكلٍ خاص ــــ يحاجج كينيز ــــ كان يحمل تقديراً فريداً لأهمية الإعلام في الصراع السياسي. في مقالٍ كتبه عام 1901 بعنوان «من اين نبدأ؟»، كتب لينين بوضوح أن «الإستحقاق الأهمّ والمباشر لدى الإشتراكيين يتمثّل في تأسيس صحيفة قومية». وإضافة الى عمله الطويل في الصحافة والتحرير، كان لينين ينظّر باستمرار لدور الإعلام في كتاباته، ويؤنّب رفاقه من الكوادر العليا ــــ يروي كينيز ــــ لأنّهم لا يكتبون ولا ينشرون كفاية في صحف الحزب.
من هنا، كان إصرار البلاشفة منذ الأسابيع الأولى لسقوط النظام القيصري على تأسيس مطبوعاتٍ والمنافسة في ميدان الإعلام ورفع عدد قرائهم. كانوا يرسلون القطارات المحمّلة بالصحف والكتب (والناشطين) الى الأماكن القصيّة، ويؤسسون نسخاً في القرى والأقاليم عن صحف العاصمة، بعضها موجّهٌ للفلّاحين أو فئات معينة، وينشرون آلاف المثقفين والدعاة في المحافظات للتبشير وكسب تأييد «من هم في الوسط». بهذه السّبل تمكّن البلشفيّون، خلال أشهرٍ قليلة، من مضاعفة عضوية الحزب أكثر من أربع مرات، يقول كينيز، وتحويله الى أكثر الحركات شعبية في روسيا، بل إنّ الحركة العمّالية (التي كان التمثيل البلشفي فيها أقلوياً) باتت بغالبيتها، في العاصمتين، الى جانب لينين، إضافة الى قطاعات كبيرة من الجيش وضباطه. نجد هنا ردّاً على الموقف ــــ الذي يسود دائماً بين قطاعٍ من المسيّسين ـــــ والذي يعتبر الكتابة والإعلام «تنظيراً» لا لزوم له. هذا الموقف المعادي للفكر يحاجج غالباً بأنّ الكتابة والحرب الفكرية هي نافلة، لأنّنا «نعرف الحقيقة» وعقيدتنا صلبة ولا نحتاج لمن «يتفلسف» علينا ــــ كأنّ المسألة هي تثقيفٌ داخلي ـــــ وأنّ التنافس السياسي تحسمه القوة والموارد، وليس القلم (ومن يفكّر هكذا لن يقدر على كسب مؤيّد واحدٍ خارج دائرته الصغيرة، ناهيك عن تشكيل خطابٍ شاملٍ وفعّال، والمنافسة في لعبة الهيمنة).
الأمثولة الثانية للبلاشفة قد تكون أكثر أهمية، وهي تفسّر سلوك جلّ المثقفين والنّخب في أيّامنا. هناك مفارقةٌ لا يمكن إغفالها، وهي ساطعة في بلدٍ كلبنان: مقابل العدد الهائل لـ «يساريين» و»ثوريين» ينشقّون ويتحوّلون الى اليمين، فيعملون في مؤسساته وينظّرون له، من شبه المعدوم أن تجد يمينياً سلك الطريق المعاكس ــــ أي أنّه تطوّر، داخل المؤسسة اليمينية، الى اتّجاهٍ معارضٍ لها وانشقّ عليها. التّفسير المالي قد يكون الأبسط (الناس يميلون نحو المكان الذي يدفع أكثر) ولكنّه ايضاً تبسيطي. إصرار اللينينييّن على الإنضباط، وهوسهم بالحزب والتنظيم، كان ينبع من هذه النقطة تحديداً: طالما أنّك تمثّل قوّة معارضة وضعيفة، ولو كانت «الطبقة العاملة» بأسرها، فأنت لا تملك المؤسسات والمصالح والقوّة الإجتماعية التي يمتلكها اليمين والسلطة القائمة. والتي تقدر على الإغراء والضبط وتضمن منع الإنشقاق والتفتّت، وتعيد انتاج نفسها باستمرار. إن لم تعوّض عن ضعفك هذا بتنظيمٍ (كالحزب مثلاً) يكون أكثر انضباطاً وفعالية وحديدية من أيّ تنظيمٍ آخر في المجتمع، فأنت تخوض معركة خاسرة سلفاً ـــــ سيتمّ شراء عناصرك فرداً فرداً، وسييأس البعض وينشقّ، ويجترح البعض الآخر بدعه وايديولوجيته الخاصة.
من هنا كانت وصايا لينين في «ما العمل»، والتي تبدو متصلّبة و»قمعية» للوهلة الأولى، حين يقول إنّ هناك طريقين لا ثالث لهما في السياسة، وإنّ أي خيارٍ خارج الطريق الاشتراكي هو خدمة للبرجوازية؛ وإنّ ترك الأمور «على طبيعتها» والمناداة بـ «العفوية» تعني ــــ حكماً ــــ انتصار اليمين. فاليمين بطبيعته، يكتب لينين، وهذه أمثولة لكلّ زمان ولكلّ حركةٍ ترمي التغيير، «أقدم بكثير» من الايديولوجيا المنافسة، «وأكثر تطوّراً بكثير منها، ويمتلك وسائل أكثر تفوّقاً بما لا يقاس للدعاية والإنتشار».
التعليقات مغلقة.