مقال نظري هام للمفكر الماركسي المصري سمير أمين حول حتمية تأسيس الأممية الخامسة
سمير أمين ( مصر ) – الأحد 13/6/2021 م …
عبر الثلاثين عاما الأخيرة تعرض النظام العالمي لعملية مركزة شديدة للسلطة بكل أبعادها ، محليا و دوليا ، اقتصاديا و عسكريا ، اجتماعيا و ثقافيا .
ان آلاف من الشركات المساهمة العملاقة و المئات من المؤسسات المالية التي تشكل كيانا احتكاريا فيما بينها قد أخضعت أنظمة الانتاج الوطني و المعولم الى حالة من تعاقدات الباطن . و بهذه الطريقة تستحوذ الأوليجاركيات المالية على نسبة متنامية من الأرباح من العمل و من الشركات التي تحولت الى منتج بالايجار لصالح الاحتكارات المالية .
لقد استأنست تلك الاوليجاركيات أحزاب اليمين و اليسار الرئيسية، و الاتحادات و منظمات المجتمع المدني ، و الآن تمارس السلطة السياسية جنبا الى جنب مع السيطرة على الاعلام الخاضع لها ، لتخلق حالة من التضليل المعلوماتي الذي يهدف لتحييد الرأي العام . كما عطلت الاوليجاركية التعددية الحزبية و استبدلتها بنظام قريب من حكم الحزب الواحد الخاضع لرأس المال . لقد أصبحت الديمقراطية التمثيلية فارغة من معناها و بالتالي فقدت شرعيتها.
هذه الرأسمالية المعاصرة ، التي هي نظام مغلق تماما ، تنتمي لما يمكن وصفه بالشمولية ، برغم الحرص على عدم تسميتها كذلك ، تلك ” الشمولية” لازالت ناعمة لكنها دوما مستعدة لاستخدام العنف المتطرف بمجرد أن يبدأ الضحايا – الغالبية من العمال و الشعوب الفقيرة – في الثورة . كل التغيرات التي تعتبر جزء مما يسمي “التحديث” يجب أن يتم النظر اليها في ضوء التحليل السابق . هذا هو الحال فيما يخص التحديات البيئية الرئيسية (خاصة التغير المناخي) التي لا تستطيع الرأسمالية حلها ( اتفاقية باريس في ديسمبر 2016 كانت مجرد غلالة دخانية) بالاضافة الى التقدم العلمي و الاختراعات التقنية بما فيها تكنولوجيا المعلومات التي تخضع بشكل تام لمتطلبات الربح الذي يمكن أن تجلبه للاحتكارات . أما تمجيد التنافسية و حرية الأسواق التي تروج لها الميديا التابعة كضمان للحرية السياسية و فاعلية المجتمع المدني فهي النقيض التام للواقع الذي تمزقه الصراعات العنيفة بين مكونات الاوليجاركيات و هي السبب في التأثير المدمر لحكم تلك الاوليجاركيات.
2
على المستوى العالمي تتبع الرأسمالية المعاصرة نفس المنطق الامبريالي النموذجي الذي كان معولما منذ البدء (استعمار القرن التاسع عشر كان بكل وضوح شكلا من العولمة). لا تتخلى العولمة المعاصرة عن هذا المنطق : انها لا شئ اكثر من كونها عولمة امبريالية .
ان مصطلح العولمة يستخدم غالبا دون أن يحمل معنى محدد ، ليخفي حقيقة هامة : هي انه يتم تطبيق استراتيجيات منهجية طورتها القوى الامبريالية التاريخية (الولايات المتحدة ، أوروبا الوسطى و الغربية ، و اليابان و الذين يشكلون ما أسميه بالثالوث) لنهب موارد الجنوب العالمي ، و الاستغلال المضاعف للعمل ، في ارتباط مع التمركز و التعاقد من الباطن . هذه القوى تسعي للحفاظ على ميزتها التاريخية ، و لحرمان بقية الأمم من امكانية التخلص من وضعها كأطراف خاضعة . ان تاريخ القرن الأخير كان في الحقيقة تاريخ تمرد شعوب أطراف النظام العالمي الذين انخرطوا في عملية فك قيود تبعيتهم بصبغة اشتراكية ، أو صبغة تحرير وطني باهتة . تلك كانت صفحة تم طيها ، الى حدود هذه اللحظة التاريخية . اما عملية اعادة الاستعمار الراهنة فهي فاقدة للشرعية و هي لذلك هشة .
لهذا قام الثالوث الامبريالي التاريخي باقامة منظومة للهيمنة العسكرية على الكوكب ، تديره الولايات المتحدة . عضوية الناتو التي لا تنفصم عن اعمار اوروبا و اعادة تسليح اليابان تعكس متطلبات هذا النظام الامبريالي الجماعي الذي حل محل الامبرياليات الوطنية ( لدول الولايات المتحدة و بريطانيا العظمى و اليابان و ألمانيا و فرنسا و آخرين ) و الذين كانوا دوما في حالة صراع عنيف .
في هذه الظروف ، يجب أن يصبح الهدف الرئيسي هو النضال من أجل تأسيس جبهة أممية من العمال و الشعوب لمواجهة زحف الرأسمالية الامبريالية المعاصرة .
3
في ضوء هذا التحدي الهائل ، كان من الواضح عدم كفاية النضالات التي شنتها الشعوب الفقيرة ضد هذا النظام . و قد تعددت مواطن الضعف التي يمكن ان أصنفها تحت العناوين التالية :
التجزئة الشديدة للنضال على المستوى المحلي و العالمي ، هذا النضال الذي أصبح يتسم بالنوعية ، و الذي يستهدف أماكن و مسائل خاصة ( كالبيئة و حقوق المرأة و متطلبات المجتمع الخ( . ان الحملات القليلة التي تم تنظيمها على مستوى محلي أو دولي لم تحرز أي نجاحات تذكر ، فلم تستطع فرض أية تغييرات على السيساسات التي تنتهجها السلطة . و العديد من هذه النضالات استطاع النظام احتوائها معززا الوهم القائل بامكانية الاصلاح .
و مع ذلك تتسع صفوف البروليتاريا بشكل متسارع ، فالغالبية العظمى من سكان الدول الرأسمالية المركزية يتحولون الى عمال مأجورين يبيعون قوة عملهم . و أدت عملية تصنيع مناطق الجنوب الى خلق بروليتاريا عمالية و طبقات وسطى مأجورة ، بينما تم ادماج فلاحي تلك المناطق في نظام السوق . لكن الاستراتيجية السياسية التي طبقتها مراكز القوة نجحت في تشتيت قوة البروليتاريا العملاقة الى شظايا مشتتة في تصارع مع بعضها البعض، و هذا تناقض يجب حله .ان شعوب الثالوث (الولايات المتحدة و غرب ووسط اوروبا و اليابان) تخلت عن مبدأ التضامن الدولي ضد الامبريالية ، المبدأ الذي استبدلته في أحسن الأحوال بالحملات الانسانية و برامج المساعدة الخاضعة لرأس المال الاحتكاري . أما القوى السياسية الاوروبية التي ورثت تقاليد اليسار فهي الآن تدعم الطرح الامبريالي المعولم .
الدعم الشعبي الذي تلقته الأيديولوجية اليمينية الجديدة .
لقد تراجعت السمات الاساسية للكفاح الطبقي المعادي للرأسمالية في الشمال ، او تم تقزيمه الى أشكل تعبير مبتسرة بشدة ، لمصلحة الطرح الجديد عن الثقافة المشتركة ، او الفئوية التي تفصل الدفاع عن بعض الحقوق عن الصراع ضد الرأسمالية .أما في بعض دول الجنوب ، فقد انحسرت تقاليد النضال التقدمي المعادي للامبريالية لصالح أوهام رجعية متخلفة تتخفى في الأديان و الأخلاق الزائفة . و في دول أخرى في الجنوب ، أدي نجاح النمو الاقتصادي و تسارعه عبر العقود الأخيرة الى تغذية الوهم القائل بامكانية بناء رأسمالية وطنية متطورة قادرة على المشاركة الفعالة في تشكيل العولمة .
4
ان قوة الأوليجاركيات الامبريالية المعاصرة تبدو غير قابلة للهدم ، في دول الثالوث و حتى على النطاق العالم (نهاية التاريخ؟!). ان الرأي العام يؤيد هذا النظام تحت اسمه المستعار ‘ديمقراطية السوق’، مفضلا اياها على نقيضها الاشتراكي الذي يتم وسمه بالأوتوقراطية المجرمة أو القومية او الشمولية و غيرها من الصفات الذميمة .
لكن بالرغم من ذلك فهذا النظام لا يبدو قابلا للحياة لأسباب عديدة :
– يتم تقديم الرأسمالية المعاصرة باعتبارها نظام منفتح للنقد و الاصلاح ، كنظام مبتكر و مرن. و تدعي بعض الاصوات أنه يمكن وضع نهاية لمساوئ الفوضى المالية و اجراءات التقشف التي تصاحبها و هي الاجراءات التي يمكنها حسب هذا الرأي ان تحمي الرأسمالية . و لكن تلك الادعاءات ستظل فارغة لأن الممارسات الحالية تخدم مصالح أوليجاركيات الثالوث ، و هذا هو جوهر المسألة ، لأن تلك الممارسات تضمن الزيادة المستمرة لثروة الأوليجاركيات بالرغم من الركود الاقتصادي الذي يضرب بلادها .
– ان المنظومة الأوروبية التابعة هي جزء من العولمة الامبريالية ، و قد تم بناؤها بروح رجعية امبريالية معادية للاشتراكية و خاضعة للقيادة العسكرية للولايات المتحدة . بداخل تلك المنظومة ، تمارس ألمانيا هيمنتها ، خصوصا في اطار منطقة اليورو و اوروبا الشرقية التي تم الحاقها تماما كما أُلحقت أمريكا اللاتينية بالولايات المتحدة . و تخدم ‘أوروبا الألمانية’ مصالح الأوليجاركية القومية الألمانية التي يتم التعبير عنها بغطرسة كما رأينا في الأزمة اليونانية . ان أوروبا هذه غير قابلة للحياة و قد بدأ انهيارها بالفعل .
– ان تباطؤ النمو في دول الثالوث يتضح في ظل تسارع النمو الاقتصادي في بعض دول الجنوب التي استطاعت الاستفادة من العولمة . لقد تم بشكل متعجل استنتاج أن الرأسمالية لازالت حية و بخير بالرغم من أن مركزها ينتقل من غرب الأطلنطي الى الجنوب وتحديدا في آسيا. في الحقيقة ان الصراعات التي تقطع طريق هذه الحركة التصحيحية تتخذ طابعا أكثر عنفا بما في ذلك الصراعات المسلحة . ان القوى الامبريالية لا تنوي السماح لأي دولة طرفية – كبيرة أو صغيرة – بالتحرر من الهيمنة .
– الخراب البيئي المرتبط حتما بالتوسع الامبريالي يعزز الأسباب التي تجعل هذا النظام غير قابلا للحياة .
اننا في مرحلة ‘خريف الرأسمالية’ تلك الحالة التي لم يتم حتى الآن تعزيزها بانبثاق ‘ربيع الشعوب’ و البعث الاشتراكي.ا ن احتمالية حدوث أي اصلاحات تقدمية كبيرة على الرأسمالية بمرحلتها الحالية تعد وهما . و بالتالي لا بديل آخر غير احياء اليسار الراديكالي الأممي القادر على تنفيذ و ليس مجرد وضع تصورات للتقدم الاجتماعي . لقد أصبح حتميا القضاء على الرأسمالية المأزومة بدلا من محاولة انهاء أزمة الرأسمالية .
و بناءا على الفرضية الأولى ، لا شئ حاسم يستطيع التأثير على ارتباط شعوب الثالوث بخيارهم الامبريالي ، خاصة في اوروبا . و سيظل ضحايا النظام غير قادرين على تصور طريق خروجهم عبر المسارات التي اتبعها المشروع الاوروبي الذي يجب أن يتم هدمه قبل أن يتم بناؤه وفق رؤية أخرى .
و تشهد تجارب سيريزا ، بوديموس ، و فرنسا – انسوميز ، ترددات دي لينك و الآخرين على حجم التعقيدات المحيطة بالأمر . اما الذين بسهولة يتهمون منتقدي المشروع الاوروبي بالقومية ، فلا يجدون ما يبرر موقفهم . ان المشروع الاوروبي يبدو أكثر فأكثر مشروع القومية الألمانية البرجوازية . لا يوجد بديل آخر في أوروبا كما في كل مكان آخر الا اقامة مشروعات وطنية شعبية ديمقراطية ( غير برجوازية بل معادية للبرجوازية) تعني بفك الارتباط مع العولمة الامبريالية . لابد من تدمير التمركز الشديد للسلطة و الثروة الذي يعد الطابع الرئيسي لهذا النظام .
و طبقا لتلك الفرضية ، تعد الاحتمالية الأكبر بشكل أو آخر انتاج طبعة جديدة من القرن العشرين : احراز عدة نجاحات في بشكل حصري في بعض أطراف النظام ، لكن تلك النجاحات ستظل هشة كما ظلت نجاحات الماضي هشة و لنفس السبب و هو الحرب المستمرة التي شنتها المراكز القوى الامبريالية والتي نجحت بسبب القصور و الانحرافات التي شابت تلك التجارب . بينما أطروحة الأممية العمالية الشعبية تفتح الطريق واسعا أمام احتماليات التطور الحتمي و الممكن .
5
أول هذه الاحتمالات هو انهيار المدنية . و في هذه الحالة لن يتطلب الأمر أي تخطيط بل ان متطلبات اللحظة هي التي سوف تدفع الأحداث . ففي عصرنا هذا ، اذا ما نظرنا الى الخراب البيئي و و أسلحة الدمار التي تخضع لتصرف الأقوياء ، فان الخطر الذي استنكره ماركس في زمنه يصبح خطرا جديا ، و هو أن القتال سوف يدمر كل المعسكرات المتعادية.
الاحتمال الثاني على العكس من الأول ، سوف يتطلب تدخل واضح ومنظم من الأممية العمالية الشعبية . ان تأسيس أممية العمال والشعوب يجب أن يكون هو الهدف الأساسي لكل المناضلين الحقيقيين المعادين للنظام الرأسمالي الامبريالي العالمي اللعين .انها مسؤولية ضخمة و تتطلب عدة سنوات من العمل كي تسفر عن أي نتائج . و من ناحيتي أقدم الاقتراحات التالية :
يجب أن يكون الهدف هو تأسيس منظمة ( الأممية الجديدة ) و ليس مجرد “حركة” . و هذا يتضمن التحرك لما هو أبعد من منتدى للنقاش . كما يتضمن تحليل القصور في المقولة التي لازالت سائدة عن أن ” الحركة” ذات طبيعية أفقية و بالتالي فهي معادية للتنظيمات الهرمية تحت ذريعة انعدام ديمقراطيتها : ان التنظيم هو في الحقيقة نتاج تسلسل يولد بطبيعته قيادات . ان التنظيمات أحيانا تميل نحو الهيمنة على الحركات الأفقية لكن من الممكن اتقاء ذلك الخطر عبر القوانين المناسبة . هذا ما تجب مناقشته .
خبرات الأمميات السابقة يجب أن تتم دراستها بجدية حتى و هي تنتمي الى الماضي . و ذلك لا يجب أن يتم بدافع انتقاء نموذج منهم لابتكار الشكل المناسب للظروف المعاصرة .
هذه الدعوة يجب أن يتم توجيهها لعديد الأحزاب والتنظيمات الراغبة في القتال . كما يجب تشكيل لجنة للبدء في المشروع .
التعليقات مغلقة.