الجسر الجوي فوق برلين وشعب غزة تحت الحصار! / مهند إبراهيم أبو لطيفة
مهند إبراهيم أبو لطيفة ( فلسطين ) – السبت 19/6/2021 م …
سنحت لي فرصة لزيارة متحف الحُلفاء في العاصمة الألمانية برلين، وهومتحف يوثق بالدرجة الأولى لوجود القوات الأمريكية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية وبقيت في المدينة حتى عام 1994. يحتوي المتحف على خمسين ألف قطعة تُلقي الضوء على هذه الحقبة من التاريخ الألماني ومعظمها تم تقديمه من قبل قوات الحلفاء للمتحف خصيصا بعد وجود امتد لخمسين عاما ، لكي يبقى من ذاكرة المدينة، ويشتمل على:
- وثائق عسكرية عن القرارات التي تم إتخاذها.
- إرشيف للصور حول حياة الجنود والضباط وعائلاتهم في المُعسكر.
- أفلام وثائقية عن المرحلة.
- أجهزة ومعدات عسكرية استخدمها الحلفاء وبعض السيارات.
- مجموعة كبيرة من أدوات الإستخدام اليومي في المكاتب والبوت.
- نماذج من شارات ، لوحات وشعارات عسكرية وملابس للجنود والطيارين.
- طائرة عسكرية في ساحة المتحف وهي جزء من اسطول اُستخدم عندما أقامت القوات الأمريكية والبريطانية جسرا جويا يربط برلين الغربية بالعالم.
- نصب تذكاري للطيارين الذين سقطت بهم طائراتهم اثناء الجسر الجوي.
عندما وقفت تحت الطائرة كان أول ما خطر في بالي الحصار الذي يعاني منه شعبنا الفلسطيني في غزة والمعاناة المستمرة منذ سنوات طويلة.
لم تمضي على إنتهاء الحرب العالمية الثانية سنوات ثلاث وما تركته من ويلات ودمار، حتى تعرض سكان برلين الغربية لحصار شديد فرضته القوات السوفيتية عليها مما اضطر قوات الحلفاء لإقامة جسر جوي لفك العزلة عنها.
كانت مدينة برلين بمثابة جزيرة في القسم الشرقي من ألمانيا، ونتيجة إتفاقية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب، تم تقسيم المدينة إلى أربعة مناطق نفوذ ، يسيطر على كل منطقة أو قسم حاكم إداري لتصريف شؤونها. وكان للسوفييت سيطرة على ما عُرف لاحقا برلين الشرقية.
كانت سياسة الحلفاء تهدف للتخلص من الإرث النازي القديم على مختلف الأصعدة السياسية ، العسكرية، الثقافية والاجتماعية ، ملاحقة النازيين . واعادة تشكيل الأجهزة الحكومية بناء على خطة محددة، وتفكيك القدرات العسكرية لألمانيا وضمان عدم قدرتها على شن حروب جديدة. ولتحقيق هذا الهدف تم تقسيم ألمانيا كلها لأربعة أقسام يشرف على كل قسم منها جيش من جيوش الحلفاء. فكانت ألمانيا كلها مقسمة وكذلك المدينة برلين.
كانت العاصمة برلين قد لحق بها دمار كبير أفقدها أبسط مقومات الحياة. ومع كونها إحدى المدن الصناعية الهامة إلا ان ظروف الحرب جعل منها مدينة بلا وظائف، بلا إنتاج يُغطي احتياجاتها، انتشر الفقر والجوع والحرمان فيها، بردها قاس لغياب التدفئة حتى أن الناس كانت تقطع الشجر من الغابات والشوارع لتحصل على الحطب، ويبحث بعض السكان في القمامة على بقايا الطعام من خضار أو فواكه. ويكثر فيها اللاجئين والمشردين بينما لم تكتمل بنية جديدة لمؤسسات الدولة بعد.
وبينما كانت التجاذبات السياسية تتطور باستمرار في المدينة بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية تحت إشراف الحلفاء، كان الناس البسطاء يبحثون عن لُقمة العيش وما يسد رمقهم. وكا كان لدول المعسكر الغربي أهدافهم السياسية والاستراتيجية لتواجدهم في برلين ، كذلك سعى الإتحاد السوفيتي لفرض نفوذه على برلين بشكل كامل وفرض رؤيته للنظام الإقتصادي والسياسي على أمل أن يقوم باقي الحلفاء بمغادرة برلين . لم يكن هناك توازن عسكري يُمكن القوات الغربية من الوقوف في وجه الجيش الأحمر للدفاع عن برلين في حالة نشوب حرب لم يكن يريدها أحد لأسباب مختلفة.
شعر ستالين بالإستفزاز عندما تم الإعلان عن اعتماد المارك الألماني كعملة رسمية للتداول في برلين الغربية بديلا لعملة الرايخ القديمة فهذا من شأنه ترسيخ تبعية برلين للمعسكر الغربي، وبالتالي وجوده فيه وهو الذي كان يسعى- كما تذكر بعض المصادر- لترسيخ تبعية برلين للمعسكر الشرقي والاستفادة من اليورانيوم الموجود في ألمانيا الشرقية لدعم تطوير برنامجه النووي. فما كان منه الا أن وجه اوامره لقادته العسكريين بتاريخ 24 يونيو 1948 بفرض حصار شامل على العاصمة برلين ، بحرا وبرا وجوا، ومنع وصول المواد التموينية والسلع الضرورية للمدينة. أغلقت المعابر جميعها التي تؤدي للمدينة ، وكان يتم قطع الكهرباء عنها مما تسبب بتوقف الكثير من المعامل والمصانع عن العمل. وبدأت حملة دعائية ممنهجة موجهة لسكان القسم الغربي من المدينة تعرض عليهم امكانية الاستفادة من المساعدات التي سيقدمها الجيش الأحمر لهم ، ولكن سكان المدينة رفضوا الإبتزاز السوفييتي واصروا على التحدي لدرجة أن بعضهم بدأ بزراعة بعض الأراضي والحدائق العامة لتحدي الحصار.
ارتفعت درجة التوتر بين الحلفاء لدرجة أن بعض الصحفيين الأمريكين قدم خصيصا إلى برلين لتغطية الحرب المتوقع اندلاعها في أي وقت خصوصا مع ترويج اشاعة امكانية استخدام الأمريكان للسلاح النووي.
فيما كان الرئيس الأمريكي ترومان يخوض حملة إنتخابية اقترح عليه بعض مستشاريه أن يأمر بانسحاب القوات الأمريكية من برلين ، ولكنه قال : سنبقى هناك. وسرعان ما قام الحاكم العسكري الأمريكي لوسيوس كلاي (Lucius D. Clay(1897-1978 بالاعلان عن بدء الجسر الجوي.
بدأ الجسر الجوي فوق برلين على أساس أنه مخصص لتقديم الدعم اللوجستي لقوات الحلفاء المحاصرة في المدينة ، ولكن سُرعان ما تحول مطار تمبلهوف في القسم الغربي من المدينة إلى خلية نحل تعمل ليل نهار. ويؤسفني أن أذكر أن هذا المطار تم إغلاقه منذ سنوات وأصبح مأوى للاجئين ومعظمهم من السوريين يعيشون في صالات المطار مع عائلاتهم واطفالهم في ظروف معيشية قاسية بفضل مليارات العرب الضائعة على الصراعات لصالح الهيمنة الامبريالية.
كان على مطار تمبلهوف أن يستقبل مئات الطائرات وأطنان من البضائع لفك الحصار عن أكثر من مليوني مواطن ألماني. لتبدأ واحدة من اكبر عمليات الدعم اللوجستي في التاريخ.
أصر الجنرال لوسيوس على قبول التحدي الكبير ، ورغم أن هذه الطائرات ستحلق فوق أراضي ألمانيا الشرقية في ذلك الوقت ، الخاضعة لقوات الاتحاد السوفييتي ، إلا أنه أصر على تنفيذ العملية وتحقيق إنجاز كبير ما زال الألمان والعالم يتذكره. تمت الأستعانة بالجنرال الأمريكي فيليب تورنر (Philipp Turner) لخبرته السابقة في مثل هذه المواقف، فقد سبق له أن خطط واشرف على جسر جوي بين الهند والصين عام 1942 ، وكان على الطائرات الأمريكية أن تطير فوق جبال الهاملايا. تم تنظيم سير عمليات الجسر الجوي وكأنه مصنع كبير يعمل على مدار الساعة. طائرات تحط لتفريغ حمولتها في خلال دقائق قليله وعليها افساح المجال لغيرها والاقلاع مجددا. ساهم في عملية افراغ الحمولات مئات من الألمان كان منهم الموظف والأكاديمي والمهني والعامل.
بلغ مجموع الرحلات الجوية ما يزيد عن 280.000 رحلة، قام بمظمها الطيران الأمريكي بمشاركة Royal Air Force البريطانية بينما لم تشارك القوات الفرنسية في الجسر الجوي. أكثر من مليوني طن من المساعدات وصلت لسكان برلين الغربية ، حتى أن بعض الطائرات حملت الأبقار.تم امداد المدينة بالفحم للتدفئة ، الورق للطباعة ، الحليب ، وطرود مجهزة للتوزيع ، حتى الحلويات والشوكلاته للأطفال. كان الطيارون الأمريكان يصنعون من بعض قطع القماش الصغيرة مظلات يربطون بها قطع الحلوى ويلقونها على أطفال المدينة الذين كانوا ينتظرونها ويبدأ التصفيق حين تهبط الطائرات بسلام. حتى أن سكان برلين كانوا ولعشرات السنوات فيما بعجد وهم يسافرون لقضاء الاجازة وعندما تهبط الطائرة يصفقون للطيار.
كان بعض الأطفال الصغار يرسلون رسائل للطيارين ويطلبون الحلوى منهم ، لتصلهم بالبريد العادي طرود صغيرة ورسالة من الطيار. كانت تُنظم رحلات خاصة للاطفال والكبار بالسن لمغادرة برلين لتلقي العناية في المانيا الغربية ولاخراجهم من أجواء الحصار.
تحولت الطائرات التي كان تٌلقي القنابل إلى طائرات تُلقي الحلوى ، الشوكلاته والعنب المجفف (الزبيب) وشاع تعبير قنابل الزبيب (Rosinenbomber). حتى أن بعض التقنيين من الألمان كانوا يشاركون في صيانة الطائرات الأمريكية في المطار وسط ذهول الطيارين الأمريكيين.
ولكي تتم عمليات الجسر الجوي بانسياب تم تخصيص مطارين آخرين هما مطارGatow ومطار Tegel الذي تم تجهيزه خصيصا في مدة ثلاثة أشهر. ما يزيد عن العام والطائرات تغطي سماء العاصمة برلين هبوطا وإقلاعا والناس بين الفرح ، الأمل والخوف من اندلاع الحرب ، وكان المذيع المشهور يورغن غراف وعبر اذاعةRias الأمريكية ، يُعلق باستمرار ويبث الدعاية الأمريكية عبر الأثير.
استمر الجسر الجزي حتى بعد الاعلان عن رفع الحصار يزود المدينة بالمعونات ولغاية 30 سبتمبر 1949 للتأكد من سد احتياجات السكان بشكل كامل.
انتهت اول معركة بدون سلاح في مرحلة الحرب الباردة ، رحل الحلفاء عن برلين، واصبحت معاناة الناس جزء من ئاكرة أمة في متحف ، فمتى سيتم تدشين متحف شبيه في غزة؟ على أن لا تكون فيه شاحنات مساعدات نصفها فارغ ومنهوب قبل أن تصل القطاع.
التعليقات مغلقة.