محمد رفيع يكتب ( الأجمل ) عن عمان … تلْكَ عَمّانُ ..
محمد رفيع ( الأردن ) الأربعاء 18/5/2016 م …
(عَلَى هَوَامشِ جَدَلِ سَلبيٍّ مَكتومٍ، فَرديٍّ وجَمَاعيّ، يَتوسّل احتكارَ المَدينةِ وتَاريخَها ورُوحهَا وشَخصيّتها. فَمِن حَقِّ كُلِّ فَردٍ، أيّ فَردٍ، أن تكون لَهُ طريقة خاصّة، ومختلفة، في رؤيةِ (المُدنِ) والحديثِ عنها. ومن حقّه الكَاتبِ، أيضاً، أن يُحيلَ مُدُنَهُ إلى (عَرائسَ) بـ(كاملِ زينتها) في (لَيالِيَ زَفافِها)، أو إلى كائناتٍ متوحّشةٍ يُخشَى الاقترابَ منها. فتلكَ، في كلّ الأحوالِ، تَبقى رؤيةً لأصحابها، قَد تَتّفِق، أو تَختلِف، مَعَها، في النَظرِ إلى المُدن والإحساس بأرواحِها. غَيرَ أنّه في ىَداهاتِ الحقِّ والحَقيقةِ، يُقالُ:
(وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ # إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ)
فإذا صَحّتْ الأفهامُ، كانَ نهارُ المُدُنِ ولا أسطَع ..
أقولُ هذا، لأصلَ إلى بَداهةٍ أخرى؛ بأنّ لا أحدَ يَمتلكُ الحقّ في احتكار المُدنِ، رُؤيةً وتَاريخاً وثَقافةً. فذلكَ ضِدّ طَبائعِ الأشياءِ. فكَيفَ بِمَدينةٍ تُقيمُ على حَافّةِ (السِّكَّةِ الشَاميّةِ الحِجازيّة الشَريفةِ)، وتكوّنها وتاريخها ونَسيجها وحكاياتها الشَائكةِ والشَّائقةِ..!)
…………..
تِلْكَ عَمّانُ ..
فَهَا هُنا، في الوادي، رأسُ العينِ. ورأسُ الماءِ. ورأسُ عمّانَ. وفي السفحِ، أرزٌ عربيٌّ لُبنانيٌّ، لا يلتفتُ إليه أحدٌ. أرزٌ زَرَعتهُ ثقَافةٌ عُروبيةٌّ قوميّةٌ مبكّرةٌ في عمّانَ، في العام 1937. ثَقافةٌ انسابتْ مِن فَيضِ جِيلٍ عُروبيٍّ دَافقٍ قَادمٍ من زَمَنِ العربِ في الحربِ الكَونيّةِ العُظمى، جِيلِ العُروبيّ فخري البارودي، صَاحبِ (بلاد العُربِ أوطاني..)، وجيلِ عبد القادر التّنير، مُلّحّن النشيدِ الوطنيّ الأردنيّ، وجيلِ عبدِ المنعم الرفاعيِّ كاتبِ النشيدِ الوَطنيّ الأردنيّ الأوّل، وجيلِ سعيدِ الدُرّة، الذي سَاهم في منح المجتمع الأردنيّ الحديثِ نَفحةً ثقافيةً رَقيقةً ناعمةً، في الموسيقى والأدبِ والمعارفِ والعلومِ. وغيرهم عَربٌ وأردنيونَ كثيرون.
تِلْكَ عَمّانُ ..
كأنّ الزمانَ، زَمانَهَا الأوّلَ، كانَ وَلِيمةَ قمحٍ عربيٍّ حورانيٍّ مَعجونةً بالعَسَل.
فهَا هُنا طاحونةُ مَلحس (سَاحةُ النَّوافيرِ)، وفي هذا المكانِ بالذات (سَاحةُ النَخيلِ) بستانُ علم الدين، للدكتور ابراهيم علم الدين، مديرِ أوّلِ مستشفىً حكوميٍّ في عمّانَ، وفي بيت زاهية بنت عبد الحميد السراقبي، زَوجةِ شمس الدين سامي. ولَكَ أن تَتَبّعَ سُلالاتِ القُرى والمُدنِ وعُروقَها، وكيف أوصلتْ خُطى أصحابِها إلى عمّان..
تِلْكَ عَمّانُ ..
لَم تَكتبْ شَيئاً في دَفاتِرِها. تَاركةً بَياضَ الأوراقِ كُلِّها إلى حِبرِ أجيالِنا. وظلّت تقولُ: (على وَرَقِ الأمس؛ لا صَوْتَ، إلاّ الصَّدى). وإنْ تَجرأ أحدٌ بالسؤالِ عن سرِّ صَمتِ المدينةِ العربيةِ، فإنّها لا تتردّدُ في البَوحِ الخَفيضِ:
(أُحبُّ الغُموضَ الضَّروريَّ في
كَلماتِ المُسافرِ لَيلاً إلى ما اختفَى
مِن الطَّيرِ فوقَ سُفُوح الكلامِ
وفوقَ سُطُوح القُرى).
تِلْكَ عَمّانُ ..
لَكَ أنْ تَدورَ مع الماءِ، مَائِها، كَما تَشاءُ، أو مع دُروبِها الضيّقةِ. فمِن رأسِ النَّبعِ تُسْلِمُكَ إلى بَساتينِها. ومنها إلى أسواقها؛ في السُّكّرِ والبُخاري واليَماني، وحتى أوّلِ النّفطِ في أوّلِ العربِ، حيثُ مراكز؛ (التابلاين..)، (والآي بي سي..)، (والنقطةِ الرابعة..) في شوارِعِها.
أما عن الأعوامِ وذاكرةِ المدينةِ ..
فأعوامُ المدينةِ، ليست زَماناً يُحسبُ بالسِنينَ. ولا مَكاناً يَمتدُّ في الأرضِ كالسّرخسيّات. ولا بَشراً يَعبرونَ المكانَ؛ “.. رَضُوا فأقاموا” .. ” أم نَسُوا فنَاموا .. “!.
وذَاكرةُ المدينةِ أيضاً، ليست استعادةً لِوجوهِ مَن رَحلوا. ولا هي تأريخاً للمكانِ أصمّ، لا يَسْمَعُ ولا يُسْمِعُ. ولا عُمراناً صامتاً، يُقلِّبُ وجهَهُ، بين أجيالٍ تمضي وأجيالٍ تعقدُ الدهشةُ وُجوهَهَا وألسِنَتَها وآذانَها، صَمماً عن أن تَسمعَ أنينَ العمرانِ تحتَ غُبارِنا وضجيجِنا..
أعوامُ المدينةِ وذاكرَتُها، هي ألفُ عامٍ مِن عُروقِ التشابكِ بين الزمانِ والمكانِ والإنسانِ. هي الحكايا تُستعادُ مراتٍ ومراتٍ، لتُصبح مِن فرطِ استعادَتِها أكثرَ دِفئاً من الحَكايا ذَاتِها..!!
فعمّانُ، التي أودعت سِرَّها لأهلِها والنّهرِ، ما زَالت “تَستقِي” “العينَ” و “رأسَ العينِ” و “رأسَ الماءِ” .. و “رأسَ عمّانَ”.
والصّمتُ في عمّانَ “عادةٌ”، أكسبتهَا إيّاها طَبيعةُ “السّفحينِ” وصَوتُ النّهرِ “الخَفيضِ..”.
والنّهرُ، الذي تبدأُ حِكايتُهُ بأسطورةِ الاختفاءِ والتخفّي، ما زال يَحكي حَكايا المدينةِ في الأرضِ .. تحتَ “السيلِ!” .. وتحتَ “السقفِ!”..
ولُعبةُ الاختفاءِ، التي أتقنَها النَّهرُ “أسطورةً” و “تاريخاً”، ما زالت تجري مع النهرِ “المتخفّي!”، مِن غربِ المدينةِ إلى شَرقِها، بعد أن انقطعَ جريانُ الناسِ “قَناطرَ !” بين السَّفحينِ ..
وعَمّانُ، التي أقامَها اللهُ بين سَفحينِ، وأجرى على بَطنِها المَاءَ. عمّانُ تلكَ، جَعلَ اللهُ، “بالطَبيعةِ والطَبعِ”، جَنوبَها سَواقيَ تَرفدُ النّهرَ: طَريقُ نَاعورَ، الذي هو طََريقُ القدسِ. وطَريقُ مِصدارِ عيشهِ، الذي هو طَريقُ مَأدبا. أما شَمالُها، “فالبطبيعةِ أيضا”، كان “أوديةً مِن الجَريانِ” نحوَ النّهرِ؛ وادي خْريس دَائمُ الجريانِ .. ووادي الحَدّادةِ، الذي يُمسكُ بأذيالِ النهرِ قبلَ أن يُغادرَ المدينةَ.
من هُنا جَاءتْ ضَرورةُ “القَناطرِ”، منذُ أقدمِ العصورِ في عَمّانَ، بين سَفحِ الشَّمالِ وسَفحِ الجنوبِ. والحِوارُ، الذي كان يَجري على وَجهِ الأرضِ، أي وَجهِ عمّانَ، عن “الضرورةِ” و “الحاجةِ” و “الطبيعةِ”، هذا الحِوارُ، الذي كان حين يَعصفُ يُغرقُ سَفحَيْ المدينةِ، بالماءِ والطينِ والغضبِ والحُزنِ .. !؟ هذا الحوارُ، ما زال هُو هُو، غيرَ أنّهُ يَجري الآنَ في بَطنِ “عمّانَ” .. بعد أن سَقَفنَا نَهرَها بصوتِهِ الخفيضِ..
حِكايةُ عمّانَ، التي تبدأُ بأسطورةِ النّهرِ تَمائمَ؛ أسطورةُ نَهرٍ يَدخلُ المَدينةَ “نَبعاً” هو “العينُ !”، في “رأسِ العينِ”، ويغادِرُها نبعاً هو “العينُ !” في “عينِ غزالةٍ”..
تِلكَ الحِكايةُ “الرُوحُ” هي ما تُحاولُها، و”تُحاوِرُها”، تلكَ المحاولات الجَريئةِ، المُتَرَويّةِ منها والمُتَعجّلةِ.. ما استطاع إلى القُلوب والعُقولِ سبيلا ..
وذلكَ، في ظَنّي، أبسَطُ حُقوقِ المُدنِ عَلَى أبنائها.
التعليقات مغلقة.