خطة الصين المرنة / د. عادل عامر

د. عادل عامر  ( مصر ) – الأربعاء 7/7/2021 م …




إن التنمية الاجتماعية هي هدف الصين منذ عقود طويلة، لتركز الخطة الخمسية الـ13 على تحقيق أهم الأهداف الصينية على مر التاريخ، والمتمثلة في القضاء التام على الفقر المدقع في الصين، وتُعتبر هذه السنوات هي الأهم في تاريخ الصين الحديثة، حيث عملت الحكومة الصينية خلال السنوات الأخيرة على تطبيق العديد من الخطط لكي ينعم كامل الشعب الصيني بمستوى معيشي فوق خط الفقر، وذلك من خلال تخليص سكان الأرياف من الفقر بشكل شامل، وتخليص كامل المناطق الصينية من الفقر.  

عملت الصين بكل جدية على تطبيق خطط نموذجية لإنشاء أراضي زراعية عالية الجودة، وكذلك تمّ رصد مبالغ ضخمة من أجل إخراج السكان من الحياة “الفقيرة البائسة” إلى حياة تقوم على مصادر ملموسة لمداخيل كافة السكان في الصين، ثم قامت الحكومة الصينية بمواصلة متابعة المشاريع الصغرى والمتوسطة والخاصة في المناطق الريفية ودعمها حتى لا تتأثر بأي تداعيات اقتصادية. كما قامت الحكومة الصينية والحزب الشيوعي الصيني بتقديم العديد من الحوافز للفلاحين لتشجيعهم على الاستغلال الجيد لأراضيهم.  

النمو الاقتصاد الصيني في تزايد مستمر قياساً لما كان عليه في السنوات الماضية، حيث حفز الطلب المحلي والأجنبي الانتعاش الاقتصادي والتجاري. ورغم جائحة  “كورونا” إلا أن إجمالي الناتج المحلي لجمهورية الصين الشعبية وصل إلى 24.93 تريليون يوان – حوالي 3.82 تريليون دولار أمريكي – في الربع الأول من هذا العام، وفق أرقام الهيئة الوطنية للإحصاء.  

وفي الخطة الاقتصادية المرسومة للأعوام بين 2021 و2025، لم تدرج القيادة  الصينية أي أهداف لمتوسط النمو السنوي، على عكس الخطة الخمسية التي صدرت في عام  2016 لتكون أكثر استباقية في التعامل مع جميع أنواع المخاطر، مما يساعد على تعزيز العمل بمرونة فيما يتعلق بالتنمية.  

 وهذا يساعد أيضاً في توجيه الهيئات العامة المختصة  للتركيز على تحسين كفاءة وجودة النمو، بدلاً من النمو بالأرقام فقط. ويبدو أنَّ القيادة الصينية واثقة من أن الناتج المحلي الإجمالي سيحافظ على مستوى جيد خلال السنوات الخمس المقبلة.  

ومع تمكنها من السيطرة على فيروس “كورونا” وتعافي الاقتصادي بشكل جيد، يمكن للصين العودة إلى واحدة من اهتماماتها الرئيسية ألا وهي تجنب المخاطر وتراكم الديون، ولهذا تحاول السلطات بكل ما تملك من إمكانيات الحدّ من تدخلها، وبدلاً من ذلك تقوم بما يكفي لدعم الاقتصاد وضمان السيولة المالية.  

وبحسب ما أعلنه المكتب الوطني الصيني للإحصاءات، فإن الناتج المحلي الإجمالي للصين سجل نمواً قياسياً بنسبة 18.3% في الربع الأول من هذا العام، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي 2020،  أي قبل ظهور فيروس “كورونا”،  

وهو ما استدعى الكاتب  الأمريكي دانيال موس  للقول في تقرير نشره موقع “بلومبيرغ” الأمريكي أن هذه الأرقام تدعم بقوة التوقعات المتفائلة بشأن عام واعد للاقتصاد العالمي، بعد الانكماش الكارثي الذي شهده في عام 2020 جراء الجائحة. وبالفعل بدأت في الآونة الأخيرة مؤشرات تصاعدية للمشتريات في جميع أنحاء آسيا لكن ببطئ.  

وهنا تتسلل بعض التساؤلات حول  هل ستتصدر الصين حقاً اقتصادات العالم من حيث نسبة النمو الاقتصادي والتجاري، وهل سيكون المستقبل وردياً كما كان يبدو قبل عقود عندما حقق الاقتصاد الصيني قفزة نوعية كبيرة متجاوزاً اقتصادات مجموعة السبع؟.  

إن ما ميز القطاع الاقتصادي أيضا في الصين مؤخرا كونه عزز القطاعات التقليدية مثل التعاون التجاري والاستثمارات والسياحة والخدمات، لكن في نفس الوقت قام بالاعتماد على التكنولوجيا المتطورة لخدمة هذه القطاعات، حيث أن إنترنت الأشياء وشبكة الجيل الخامس 5G والابتكار والتطوير العلمي لعبت دورا هاما في جعل الاقتصاد الصيني أكثر مرونة وجودة، وقد خدمت هذه التكنولوجيا بصفة كبيرة أغلب القطاعات خلال أزمة الوباء، حيث ساهمت في تعزيز قطاع الخدمات والصحة والتعليم وغيرها من بقية القطاعات الأخرى.  

وبالرغم من التحديات التي شهدتها العديد من المناطق الصينية إثر وباء كوفيد-19، حافظت الصين على دعمها الكامل للمناطق الفقيرة في الصين، فحتى خلال أزمة وباء كوفيد-19، قامت الصين بضخّ أموال كبيرة لتعزيز خطة القضاء على الفقر في الصين لأكثر من خمسين منطقة، وإقامة أكثر من خطة وطنية توفّر عددا أكبر للوظائف وفرص العمل للقوى العاملة في المناطق الريفية الفقيرة في الصين،  

ودعم منشآت البنية الزراعية الحديثة وتعزيز الخدمات الاجتماعية للعائلات الفلاحية، وغيرها من التسهيلات الهامة التي ساهمت في إخراج السكان من تحت خط الفقر إلى حياة “رغيدة” لكافة السكان، حيث نجحت الصين في تحسين صافي الدخل السنوي للفرد في المناطق الفقيرة من حوالي 510 دولار أمريكي في 2015 إلى أكثر من 1400 دولار سنويا في 2019، ما يمثل نموا ملموسا في صافي المداخيل بنسبة سنوية أكثر من 30%.  

إن إخراج الصين لأكثر من 10 ملايين شخص سنويا من تحت براثن الفقر خلال السنوات الأخيرة، يجعل النموذج الصيني الأول عالميا في تحقيق “حياة رغيدة شاملة” لكافة السكان، وبذلك تساهم الصين لوحدها بأكثر من 70% في الحد من الفقر العالمي.  

إن كل المخططات الصينية تهتم بتسهيل حياة المواطن الصيني، وهو ما يجعل من الخطط الصينية نموذجا في تعزيز قيمة الإنسان، حيث راهنت الخطة الخمسية الـ13 على “بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل”، وقد تم تحقيق هذا الهدف من خلال تحسين معيشة المواطنين وتحسين نصيب الفرد من الدخل القابل للإنفاق لأكثر من 30 ألف يوان صيني وتحسين مستويات التأمين الاجتماعي والصحي والتعليمي. إن ما حققته الصين خلال الخطة الخمسية الـ13 من تنمية اقتصادية واجتماعية خدمت مصالح المواطن الصيني كما لعبت دورا هاما على المستوى العالمي من خلال تعزيز التعاون الصيني مع بقية دول العالم، ومن خلال الإسهامات الكبيرة عالميا في تحقيق “حلم البشرية” وإخراج أول مجتمع بأسره من خط الفقر، ليكون بذلك إسهاما واضحا للبشرية وللخطط العالمية التي لازالت تسعى حتى الآن إلى تحقيق حياة أفضل لمختلف المجتمعات.  

ما ميز السنوات الأخيرة في عمل الحكومة والحزب الشيوعي الصيني هو العدد الكبير للتحديات والضغوطات التي واجهتها الصين سواء كانت ضغوطات اقتصادية أو سياسية أو صحية، لكن الإصرار الصيني جعل من الأهداف تحقق النصر زمن الصعوبات.  

عندما لا تتوافق هذه العمليات والدورات وحلقات التغذية الراجعة بشكل جيد مع سياسات وإجراءات الحكومة تتوقف سلاسل التوريد. وتهدف استراتيجية الانتشار المزدوج إلى تجنب مثل هذه العوائق من خلال تطبيق أساليب مؤسسية وبنيوية مرنة وقابلة للتكييف.  

والتركيز على الأنظمة الداخلية أمر بالغ الأهمية لتحقيق هذا الهدف، وخاصة بسبب زيادة ارتباكات الاقتصاد الكلي. بادئ ذي بدء، سلطت جائحة مرض فيروس كورونا «كوفيد 19» الضوء على مدى ضعف سلاسل التوريد العالمية «الدقيقة التوقيت» في مواجهة الارتباكات، مما أدى إلى زيادة الدعوات المطالبة بإزالة العولمة.  

تشكل استراتيجية الانتشار المزدوج في الصين استجابة عملية للضغوط الداخلية والخارجية السريعة التغير التي تواجهها البلاد. يتلخص هدف صناع السياسات في تعزيز سلسلة التوريد ومرونة السوق من خلال الاستفادة من عدد سكان الصين الهائل (1.4 مليار نسمة) ــ بما في ذلك 400 مليون مستهلك من الطبقة المتوسطة.  

يقودنا هذا إلى اعتبارات المستوى الجزئي. نظراً لنظام الجدارة المعمول به في الصين، لا يصل المرء في عموم الأمر إلى أعلى مستويات صنع السياسات إلا بعد العمل على «الخطوط الأمامية» في عملية التنمية: الإدارة المباشرة لتشييد البنية الأساسية المادية والاجتماعية في القرى، والمدن، والأقاليم. ويغرس هذا في القادة الصينيين الوعي باحتياجات الناس وديناميكيات الهندسة الاجتماعية والاقتصادية التي لا تتبدد أبداً.  

اليوم، تكافح أغلب الشركات الصينية، وكذا الحكومات المحلية، للتكيف مع ظروف السوق المحلية والدولية السريعة التغير. وسوف تساعد استراتيجية الانتشار المزدوج من خلال إنشاء أسواق وطنية أكثر حرية وتوحداً لرأس المال المادي والمالي والبشري، والمنتجات والخدمات، والتكنولوجيا، والمعلومات. وسوف تضمن أيضاً أن يعرف أصحاب المصلحة في النظام ماذا ينبغي لهم أن يتوقعوا.  

لكن تعزيز دورات الإنتاج والاستهلاك الداخلية لا يعني تدمير شبكات التجارة الخارجية؛ على العكس من ذلك، تستعد الصين لمواصلة فتح اقتصادها، وخاصة سوقها المالية.  

إذا كانت بقية بلدان العالم راغبة في التعاون على هذا النحو -ولنقل في تطوير المنتجات والخدمات الخضراء- فسوف تلتزم الصين. وإذا لم تفعل، فسوف تعتمد الصين على مواطن قوتها الهائلة، من قاعدة المستهلكين الضخمة إلى القدرات الإبداعية السريعة النمو، للحفاظ على نموها وتطورها. الأمر ببساطة، إذا لم يكن العالم مستعداً للتعاون، فسوف تتكيف الصين مع الاستقطاب. من «صُـنِع في الصين 2025» إلى مبادرة الحزام والطريق، أساء العالم في كثير من الأحيان تفسير السياسات والمشاريع الصينية العملية أو الاستراتيجية على أنها مخططات مراوِغة أو مدمرة. لكن الصين لا تستطيع التحكم في كيفية تفسير الآخرين لتصرفاتها، وهي لن تغير سياساتها لإرضاء منتقديها. ومع استعداد الصين لأن تكون الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي يسجل نمواً إيجابياً في عام 2020 ثم في عام 2021، وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي، فلا يوجد من الأسباب ما قد يحملها على تغيير سياساتها.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.