الهيمنة الأمريكية على العلاقات الدّولية / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 14/7/2021 م …

بعد الحرب العالمية الثانية، نسفت الولايات المتحدة جَوْهر “معاهدة وستفاليا” (1648) التي أرسَتْ بعض التوازن بين مصالح القوى الرأسمالية الصاعدة، التي بدأت تُحاول إرساء قواعد لتقاسم النّفُوذ في الفضاء الأوروبي وفي العالم، فَتَغَيَّرَ مفهوم السيادة، عبر القُوّة العسكرية الأمريكية، ليتجاوز بذلك القانونُ الأمريكيُّ الحدودَ الإقليميةَ للولايات المتحدة، من خلال فرض قرارات الكونغرس الأمريكي على العالم، وفَرْض حَظْرٍ أو عُقُوبات ضدّ الدّول والكيانات والهيئات والأفراد، لأسباب تُحَدّدُها مصالح الشركات الأمريكية العابرة للقارات، وخوّلت الولايات المتحدة للقضاء الأمريكي، مقاضاة أي شخص أو شركة تبرم عقدًا تجاريا أو تقوم بتحويلات مالية بالعملة الأمريكية (الدولار) أو تستخدم خدمة تابعة لشركات أمريكية (مصرف أو شركة تكنولوجيا مثل غوغل أو شركات البريد الإلكتروني)، ومجموعة أخرى من الأسلحة الإقتصادية والتكنولوجية الأمريكية…




استمدّت الولايات المتحدة قُوّتها الحالية على الصّعيد العالمي من نتائج الحرب العالمية الثانية، حيث تحمّل الإتحاد السوفييتي عبء هزيمة النّازية، وتحملت أوروبا نتائج الخراب والدّمار، فيما أصبحت الولايات المتحدة في أَوْجِ قُوّتها، فهندست (قبل أكثر من سنة من النهاية الرسمية للحرب) عالمًا يخدم مصالحها، عبر المؤسسات الدّولية، منها الأمم المتحدة وبنك إعادة الإعمار والتنمية – البنك العالمي حاليا- وصندوق النقد الدّولي، ومنظمة التجارة العالمية وحلف شمال الأطلسي، وبذلك تمكّنت الولايات المتحدة، خلال العقود الأخيرة، من فَرْضِ القانون الأمريكي، خارج حدودها، بل على العالم أجمع، ما يُثير التّساؤلات حول مفهوم سيادة الدول على أراضيها.

من جهة أخرى، تمكّنت الولايات المتحدة من بسط نفوذها، عبر هيمنة الدّولار، على المنظومات المالية والتجارية العالمية، وعبر السوق الأمريكية الضخمة، وبالتالي من فَرْضِ عقوبات على الدّول والمصارف والشركات الأجنبية التي قد تُعرقل مخططاتها، بالإضافة إلى امتلاكها القوة العسكرية التي تهدد العالم كله وتهاجم أو تحتل الدول التي تعتبرها “مارقة” أو “متمردة”، ولم تُفْلِت الدول “الخاضعة”، مثل اليابان أو ألمانيا، من الانتقام الأمريكي، بمجرد أن تُنافسَ مصارفها أو شركاتها الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات، أو بمجرد تعاملها مع منافسي الولايات المتحدة، مثل الصين أو روسيا، وتخضع المصارف والشركات الأوروبية واليابانية والكَنَدِية والأسترالية وغيرها، لهذا الإبتزاز الأمريكي، لأنها لا تستطيع الاستغناء عن السوق الأمريكية الكبيرة والمربحة، أو عن التّعامل بالدّولار، في المُبادلات المالية والتجارية العالمية، وبذلك تمكنت حكومات الولايات المتحدة من لَجْمِ المنافسة (وهو إجْراءٌ يتعارض مع معايير الاقتصاد الليبرالي) على أراضيها (سوقها الدّاخلية)، وخارج أراضيها، وأدّت العُقوبات الأمريكية إلى مُضاعفة متوسّط تكاليف إنشاء فُرُوع أو مكاتب الشركات الأوروبية في الخارج، بمعدّل خمسة أضعاف تكاليف الشركات الأمريكية، وفقًا لدراسة نُشرت على الموقع الإلكتروني لمركز الدراسات الأوروبية والسياسات المقارنة ( معهد العلوم السياسية في باريس – 28 مايو 2021).

تتعرض الفقرات الموالية إلى نموذَجَيْن من فرض النفوذ الأمريكي، عبر المؤسسات الدّولية

نموذج إيران:

تمكّنت الولايات المتحدة، بسبب نُفُوذها، من فرض حظر على بيع الأسلحة لإيران، عبر قرار اتخذه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (مجلس الأمن الدولي) سنة 2007، وامتد الحَظْر من تجارة السّلاح إلى تجارة النفط والغذاء وكافة السلع والخدمات تقريبًا، بشكل مُشابه لحصار كوبا وكوريا الشمالية وسوريا واليمن وغيرها، وبعد ثماني سنوات من الضغط، لم يتنازل نظام إيران عن مُخَطّطاته وبرامجه، وبعد مفاوضات دامت أكثر من سَنَتَيْن، بين إيران والولايات المتحدة، أصْدر مجلس الأمن الدّولي قرارًا، سنة 2015، ينصُّ على رفع تدريجي للعقوبات، مقابل تقييد البرنامج النووي الإيراني، لكن الإدارة الأمريكية تراجعت (خلال فترة حكم دونالد ترامب) وانسحبت، سنة 2018، من الإتفاقية، رغم احترام إيران لشروط الإتفاقية، بحسب تقارير مُراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، المسؤولة عن الإشراف على تنفيذ الاتفاقية، وأدّى الإنسحاب الأمريكي إلى تشديد الحَظْر، بدل إنهائه.

ذكرنا في فقرة سابقة ارتفاع تكاليف تعامل الشركات الأوروبية، مقارنة بتكاليف الشركات الأمريكية، لإنشاء فُرُوع أو مكاتب في الخارج، ففي غضون عشر سنوات، منذ فرض العقوبات الأمريكية على إيران (2007)، اضطرت الشركات الأوروبية إلى تسديد ما يزيد عن أربعين مليار دولارا للولايات المتحدة، بعنوان “غرامات” مالية، ورغم إقرار محكمة العدل الدّولية عدم مشروعية الحَظْر الجديد (الذي لم يتم إقرارُهُ من قِبَل مجلس الأمن الدّولي) على إيران، لا تستطيع أي دولة أو هيئة أو مؤسسة فَرض تنفيذ الولايات المتحدة مختلف القرارات الدّولية أو المَحَلِّيّة، وبذلك تتحدّى الولايات المتحدة كافة الهيئات الدّولية، والدّول المُوقّعة معها على الإتفاقية مع إيران (دول الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا)، بل تمادت في تنفيذ الأعمال الإجرامية، من تفجيرات واغتيالات لعلماء إيرانيين، بواسطة الطائرات الآلية، والوسائل الأخرى، بشكل مباشر أو عبر الكيان الصهيوني، ما دفع إيران إلى إعلان تحرُّرِها من القُيُود التي فَرَضتها اتفاقيات تقييد برنامجها لتخصيب اليورانيوم وإنتاج الطاقة النّوَوِية…

لم تتوقف الولايات المتحدة عن استفزاز إيران وفرضت في الثامن من تشرين الأول/اكتوبر 2020، عقوبات على 18 من المصارف الإيرانية، بهدف زيادة تضييق الخناق على الإقتصاد الإيراني، وعزله عن القطاع المالي الدولي، عبر منع أي دولة أو شركة عالمية تتاجر مع إيران، من الوصول إلى السوق الاقتصادي والمالي العالمي…

اضطر ضحايا سياسة توسيع رُقعة الأعداء، إلى نوع من التحالف فيما بين الدّول المُتضررة من هذه السياسات الأمريكية، وحصل تقارب بين إيران والصين وروسيا وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وسوريا، رغم اختلاف المصالح والأهداف، واختلاف ميزان القوى بين هذه الأطراف، حيث يُشكّل التهديد الأمريكي قاسِمًا مُشتركًا “سَلْبِيًّا”، بمعنى عدم وجود أهداف أو برامج مُشتركة، خُصُوصًا وأن إيران وفنزويلا، على سبيل المثال تعتمدان على تصدير المحروقات، وحرمها الحظْر الامريكي من موردها المالي الرئيسي، ولا تمتلك هذه الدّول، بما فيها الصين وروسيا وإيران، ترسانة حربية قادرة على مجابهة القوة العسكرية للإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، فضلاً عن الأسلحة الصهيونية والخليجية، التي تُهَدّدُ إيران وسوريا واليمن، في ظل افتقار البلدان الواقعة تحت العقوبات الأمريكية إلى السُّيُولة التي تُمكّنها من توريد الأدوية والغذاء، فضلاً عن السلاح وخدمات التكنولوجيا المتطورة…

أدّت السياسات العدوانية الأمريكية إلى ثَنْيِ الشركات الأوروبية عن التعامل مع إيران، ونجحت في اضطرار إيران (وكذلك روسيا) لإبرام صفقات غير عادلة مع الصّين، أهمها الإتفاقية التي تم توقيعها بنهاية شهر آب/أغسطس 2020، وهي اتفاقية طويلة المدى، لفترة 25 سنة، بقيمة أربعمائة مليار دولارا، مكّنت الصين من الحصول على النفط والغاز بنحو ثُلُثَيْ سعره في الأسواق العالمية، مقابل استثمارات صينية موعودة في قطاع الأسلحة والنّقل والبنية التحتية، كما عقدت إيران صفقات أقل قيمة مع روسيا…

لم تتراجع الإدارة الأمريكية الجديدة (جوزيف بايدن ونواب الحزب الديمقراطي) عن العقوبات ضد إيران أو أي من الدّول الأخرى، لأن الحِزْبَيْن الأمريكِيّيْن (الجمهوري والديمقراطي) يتّفقان على “ثوابت” السياسات الأمريكية، خصوصًا السياسات الخارجية والإنتشار العسكري خارج الحُدُود…

نموذج أوروبا و”نورث ستريم 2″

تستورد دول الإتحاد الأوروبي حوالي ثُلُثَ احتياجاتها من الطاقة (الغاز بشكل أساسي) من روسيا، ومنذ ارتفاع الإنتاج الأمريكي، من النفط والغاز الصّخرِيّيْن، وسماح الكونغرس بتصدير المحروقات، تمارس أمريكا ضغوطات كبيرة على حُلفائها في أوروبا وآسيا، بهدف فَرْض شراء الغاز الأمريكي، بدل الغاز الروسي أو القَطَرِي، وبعد تعطيل إنجاز خط أنابيب نقل الغاز الروسي إلى جنوب أوروبا (ساوث ستريم)، عرقلت الولايات المتحدة إنجاز الخط الثاني من السيل الشمالي (نورث ستريم 2) الذي ينقل الغاز الروسي نحو شمال ألمانيا، لتوزيعه على أوروبا الشمالية، وفرضت واشنطن عقوبات على المصارف والشركات المُساهِمَة في بنائه، شدّدتها منذ 2017، بهدف دَفْن المشروع، وإغراق السوق الأوروبية بالغاز الصخري الأمريكي، رغم ارتفاع ثمنه وقلّة جَوْدَتِهِ، مقارنة بالغاز الروسي الأرْخص ثمنًا والأعْلى جَودَةً.

أقرَّ الكونغرس الأمريكي، سنة 2017، قانون “مكافحة أعداء أمريكا”، وقانون مكافحة النفوذ الروسي في أوروبا و”أُوراسيا”، من خلال مجموعة من العقوبات، وتم تشديد هذه الإجراءات و”العُقوبات” في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ضد من تتهمهم الولايات المتحدة ب”تقويض الدفاع القومي الأمريكي” (زيادةً على قوانين مكافحة الإرهاب، سيئة الصّيت)، ويستهدف هذا القانون الشركات والمصارف، غير الأمريكية، المُشاركة في بناء خط أنابيب “نورث ستريم 2” لنقل الغاز الروسي نحو شمال أوروبا، باعتبارها “شركات تمارس نشاطًا يتعارض مع المَصالح الأمريكية”، ما اضطر شركات أوروبية من سويسرا وإيطاليا والنمسا وفرنسا وغيرها إلى الإنسحاب من المشروع ووضع حَدٍّ لتعاملاتها مع الشركة الروسية “غازبروم”، وهو قرار يتعارض مع مصالح هذه الشركات الأوروبية، ويحرمها من أسواق إيران وروسيا وأوروبا أيضًا، في مُقابل تَوَسُّع الشركات الأمريكية، لأن الإتحاد الأوروبي غير قادر على مُجابهة الولايات المتحدة، وغير قادر على تَعْدِيل العلاقات غير المُتكافئة بين الشركات الأوروبية والأمريكية، وغير قادر على اتخاذ قرار مُستقل عن الإمبريالية الأمريكية…

أعلن وزير الخارجية الأمريكية “أنطوني بلينكن”، يوم 19 أيار/مايو 2021، أثناء التّحضير لقمة جمعت الرئيسين الأمريكي “جو بايدن” والروسي “فلاديمير بوتين”، أن الولايات المتحدة قررت “التنازل عن تنفيذ العقوبات التي فرضتها سابقًا على الشركات والجهات المُشاركة في تنفيذ مشروع نورث ستريم 2″، وذلك بعد فشل الولايات المتحدة في دَفْن المشروع، رغم نجاحها في عرقلة إنجازه، حيث أعلنت روسيا أنها لن تتراجع عن إنجاز المشروع، ولم تتبَقّى سوى كيلومترات قليلة لإنهاء بناء خط الأنابيب “السَّيْل الشمالي 2″، بالإضافة إلى أهمية الغاز الروسي ضمن برنامج الطاقة الألماني، حيث قررت الحكومة الألمانية إغلاق محطات الطاقة النووية، واستبدالها بالغاز، خلال السنوات القليلة القادمة، وتجدر الملاحظة أن الإتحاد الأوروبي كان مُتخاذلا في الدّفاع عن مصالح الشركات والمصارف الأوروبية، سواء في إيران أو في روسيا أو في سوريا، وقبل ذلك في العراق، وأن أغلبية دول الإتحاد الأوروبي عُضوة في حلف شمال الأطلسي الذي تُديره وتُشرف عليه الإمبريالية الأمريكية التي تُجْبِرُ “حُلفاءها” على الخضوع لمصالح وأَجَنْدات أمريكا، ولو تعارضت هذه المصالح مع طموحات “الحُلفاء”.

إن الصمود ومواجهة الإمبريالية قرار سياسي، سيادي، ولا يُمكن للبلدان الفقيرة، منفردة، مجابهة النفوذ الإمبريالي (الأمريكي أو الأوروبي)، ما يتوجب خلق تكتُّلات، واستخلاص الدّروس من تعثُّر أو فشل التّكتّلات السابقة، التي كانت تستجيب لمرحلة مُعينة، مثل مجموعة عدم الإنحياز، أو مجموعة والسبعة والسبعين أو مجموعة بريكس، وغيرها، مع البحث عن قواسم مشتركة، رغم اختلاف طبيعة الأنظمة الحاكمة بهذه الدّول.

من أسباب فشل التّكتّلات السابقة أنها اتخذت في الإجتماعات الرسمية، دون استشارة الشعوب أو مناقشتها محلّيًّا قبل إقرارها على المستوى الدّولي…    

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.