اتفاقية سايكس – بيكو وعلاقتها بوعد بلفور / د. ماهر الشريف
د. ماهر الشريف ( الإثنين ) 23/5/2016 م …
في 16 أيار 1916 ، أي قبل قرن من الزمان، توصل ممثلا فرنسا وبريطانيا، فرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس، إلى اتفاقية سرية تقضي بأن يتقاسم بلداهما مناطق النفوذ في الولايات العربية الخاضعة للحكم العثماني بعد انهيار السلطنة العثمانية.
// تقسيم المشرق العربي
فقد تقرر في تلك الاتفاقية أن تسيطر فرنسا على لبنان والشاطئ السوري حتى الأناضول، وأن تسيطر بريطانيا على الأراضي الواقعة ما بين بغداد والكويت، وعلى مرفأي عكا وحيفا، على أن يُبحث في مصير فلسطين مستقبلاً، بالتشاور مع روسيا، وعلى قاعدة “تدويل” الأماكن المقدسة في القدس. كما تقرر، في تلك الاتفاقية، أن تقوم دولة عربية في الشمال، تغطي أراضيها بقية أراضي سورية بما فيها دمشق وحلب ومنطقة الموصل، وتكون تحت الحماية الفرنسية، ودولة عربية أخرى في الجنوب، تغطي الأراضي الواقعة ما بين العقبة وكركوك، وتكون تحت الحماية البريطانية. وفي تشرين الأول 1918، تم تعديل هذه الاتفاقية، بصورة سرية كذلك، بين رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج ورئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو، إذ تنازل هذا الأخير لبريطانيا عن ولاية الموصل وعن فلسطين، في مقابل سيطرة فرنسا بصورة مباشرة على سورية بكاملها.
لقد كانت اتفاقية سايكس-بيكو تتعارض، تعارضاً كلياً، مع مضمون المراسلات التي جرت ما بين تموز 1915 وكانون الثاني 1916 بين شريف مكة الحسين والمعتمد البريطاني في مصر هنري مكماهون، والتي نصت على تعهد بريطانيا بدعم إقامة مملكة عربية مستقلة في حال قيام الشريف حسين بإعلان الثورة على الأتراك، وهو ما فعله هذا الأخير في 10 حزيران 1916، دون أن يكون لديه أي علم ببنود الاتفاقية السرية الفرنسية البريطانية التي أبرمت قبل أقل من شهر على إعلان الثورة العربية، والتي تمّ الكشف عن بنودها على يد الحكومة الثورية الروسية، بزعامة لينين، في تشرين الثاني 1917. وقد كرس مؤتمر الحلفاء في سان ريمو في نيسان 1920 الحدود التي اتفق عليها البريطانيون والفرنسيون، فقرر أن تكون فلسطين والعراق تحت الانتداب البريطاني وسورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.
//بروز فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين
احتلت فلسطين موقعاً متميّزاّ في إطار المشاريع الاستعمارية الهادفة إلى تقسيم المشرق العربي وفصل آسيا العربية عن أفريقيا العربية، من خلال إقامة دولة/حاجز تفصل مصر عن بلاد الشام. إذ برزت فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين، لدى الدوائر الاستعمارية الفرنسية والبريطانية، قبل زمن طويل من ولادة الحركة الصهيونية، على يد تيودور هرتزل، في نهاية القرن التاسع عشر.
فقد طرح عدد من الكتاب والصحفيين الفرنسيين أفكاراً من هذا النوع، عشية الحملة الفرنسية على مصر التي قادها الجنرال نابليون بونابرت ما بين عامَي 1798 و 1801، والتي هدفت إلى احتلال مصر والزحف منها إلى فلسطين والشام، وقطع طريق المواصلات البريطانية إلى الهند. وورد في كتاباتهم آنذاك أن اليهود يمكنهم أن يشكّلوا “جيشاً للأمة” في فلسطين ويكونوا سنداً للإمبراطورية الفرنسية في المشرق. ثم أخذت هذه الفكرة نفسها تروج لدى الدوائر السياسية البريطانية، وبخاصة بعد قيام جيوش والي مصر محمد علي، بقيادة ابنه إبراهيم، باحتلال بلاد الشام ما بين عامَي 1831 و 1840.
وبحسب الوثائق البريطانية العائدة إلى تلك الفترة، يبدو أن اللورد بالمرستون (1784-1865)، وزير الخارجية ومن ثم رئيس الوزراء، قد بدأ يتبنّى بصورة صريحة هذه الفكرة بعد نجاح الضغط البريطاني، والأوروبي، بإجبار الجيوش المصرية على الانسحاب من بلاد الشام. ففي 11 آب 1840، بعث بالمرستون إلى سفيره في استانبول اللورد بونسونبي بتعليمات جاء فيها: “عليك أن تقنع السلطان [العثماني] وحاشيته بأن الحكومة الإنجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسباً لفتح أبواب فلسطين أمام هجرة اليهود إليها. لقد حان الوقت لكي يعود هذا الشعب المشرد إلى أرضه التاريخية… ومن المعروف جيداً أن يهود أوروبا يمتلكون ثروات كبيرة، ومن المؤكد أن أي قطر يختاره اليهود ليستوطنوا فيه سوف يحصل على فوائد عظيمة من ثروات هؤلاء اليهود. فإذا عاد الشعب اليهودي تحت حماية ومباركة السلطان إلى فلسطين، فسوف يكون ذلك مصدر ثراء له، كما أنه سوف يكون حائلاً بين محمد علي، أو أي شخص آخر يخلفه، وبين تحقيق خطته الشريرة في الجمع بين مصر وسوريا وتهديد الدولة العلية…”.
واتّخذ المشروع البريطاني الرامي إلى تشجيع استيطان اليهود في فلسطين بعداً جديداً بعد احتدام التنافس البريطاني-الفرنسي للسيطرة على مصر. فبعد أن نجحت فرنسا في رعاية مشروع حفر قناة السويس، وراح نفوذها يتعاظم في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1879)، لجأ رئيس الوزراء البريطاني بنيامين ديزرائيلي (1804-1881)، الذي كان يعتنق الديانة اليهودية قبل أن يتحوّل إلى المسيحية ويؤمن بفكرة “عودة اليهود” إلى فلسطين، لجأ في سنة 1875 إلى مساعدة عائلة روتشيلد كي تشتري حكومته الحصة المصرية في شركة قناة السويس. وبعد مضي سبع سنوات، كانت القوات البريطانية تقوم باحتلال مصر. وفي السنة نفسها، وبتمويل من عائلة روتشيلد نفسها، نٌظّمت أول هجرة جماعية يهودية إلى فلسطين، رفعت تعداد اليهود فيها من ثمانية آلاف إلى 24 ألفاً.
//مقدمات تصريح بلفور
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا، أصبح مستقبل الممتلكات التركية في المشرق مطروحاً للمناقشة. وقبل توصل الحكومتين الفرنسية والبريطانية إلى “اتفاقية سايكس-بيكو”، كان خبراء السياسة الخارجية البريطانيون، الذين عكفوا على بحث خطط الإمبراطورية بشأن الشرق الأوسط بعد الحرب، قد بدأوا في وضع تصوراتهم بخصوص مستقبل فلسطين. ففي نهاية سنة 1914، كتب أوزوالد فيتز جيرالد، معاون وزير الحربية اللورد كيتشنر، إلى رونالد ستورز سكرتير اللورد كيتشنر في القاهرة، طالباً معرفة ما لديه من أفكار بشأن دور فلسطين بعد الحرب، وما لهذا الدور من علاقة بالموقف الفرنسي والروسي إلى الشمال من فلسطين. وقد أجاب ستورز، فكتب: “في ما يخص فلسطين، افترض أنه مع عدم رغبتنا بطبيعة الحال في أن نأخذ على عاتقنا أعباء مسؤوليات جديدة كالتي سيفرضها علينا ضم أراضٍ، فنحن، كما أفهم، كارهون لاحتمال حدوث تقدم روسي جنوباً إلى سورية، أو لاحتمال امتداد زائد عن الحد للحماية الفرنسية الحتمية في لبنان إلخ. ستكون فرنسا جاراً أفضل من روسيا، ولكننا لا نستطيع أن نركن إلى دوام أي وفاق، مهما كان ودياً، بعد زوال الجيل المشبع بذكريات الحرب. إن الأفضل لنا هو وجود دولة حاجزة، ولكن هل نستطيع إيجادها؟ لست أرى عناصر من أهل البلاد يمكن أن ننشئ منها مملكة فلسطينية إسلامية. إن الدولة اليهودية هي، نظرياً، فكرة جذابة. ولكن اليهود، مع أنهم يشكّلون أغلبية في القدس نفسها، هم أقلية ضئيلة في فلسطين عامة، ويشكّلون في الحقيقة نحو سدس مجموع السكان”.
وفي سنة 1915، طلبت الحكومة البريطانية من السير هربرت صموئيل أن يضع تصوّراً لما ينبغي أن يكون عليه أمر فلسطين بعد النصر. وكتب صموئيل، بوصفه عضواً في وزارة الحرب، إلى جانب كونه يهودياً وصهيونياً، مذكرة بعنوان “مستقبل فلسطين”، بتاريخ 5 شباط 1915، توصّل فيها إلى نتيجتين: أولاً، إنه مهما كان شأن أية اتفاقات مع فرنسا، فإن فلسطين يجب أن تخرج من هذه الاتفاقيات؛ ثانياً، إن الحل الذي يوفر أكبر فرصة للنجاح ولضمان المصالح البريطانية هو إقامة اتحاد يهودي كبير تحت السيادة البريطانية في فلسطين، بحيث “يستطيع الحكم البريطاني فيها أن يعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة والمساعدة على التطوّر الاقتصادي، بما يمكّن اليهود من أن يصبحوا أكثرية في البلاد”.
وكان صموئيل نفسه قد أكد، منذ تشرين الثاني 1914، ضرورة أن تجعل الحكومة البريطانية من إقامة دولة يهودية في فلسطين هدفاً من أهداف حربها، معتبراً أن مثل هذه الدولة ستصبح “مركزاً لثقافة جديدة… ومنبع إشعاع لروح الأنوار”، كما ستمثّل “مكسباً إستراتيجياً للإمبراطورية البريطانية “.
والواقع، أن بريطانيا صارت تخشى، خلال الحرب العالمية الأولى، على ممتلكاتها، وبخاصة قناة السويس، وعلى طرق مواصلاتها مع الهند ومستعمراتها. وهكذا، بدأ يطرأ تحوّل تدريجي على السياسة البريطانية، التي صارت تتطلع إلى السيطرة على فلسطين، باعتبارها ” الباب العسكري لمصر وقناة السويس”، وتسعى، في الوقت نفسه، إلى كبح الطموحات الإقليمية لحليفتيها فرنسا وروسيا. ومع أن مارك سايكس، النائب المحافظ والممثل الخاص لوزير الحرب اللورد كيتشنير، قد طرح في سنة 1916 فكرة قيام سيادة مشتركة، فرنسية-بريطانية، على فلسطين، إلا أنه صار يطرح منذ مطلع سنة 1917، إدارة بريطانية حصرية عليها، تسمح بتطوّر الصهيونية في رعايتها.
واتّخذت سياسة بريطانيا الشرقية أبعاداً جديدة بعد تعيين دافيد لويد جورج على رأس الحكومة في 7 كانون الأول 1916. فقد كان في نية رئيس الوزراء الجديد أن ينكر على فرنسا الوضع الذي كان السير مارك سايكس قد وعدها به في الشرق الأوسط بعد الحرب. وفي ما يخص فلسطين، فقد أبلغ السفير البريطاني لدى فرنسا، في نيسان 1917، أن الفرنسيين سيجبرون على قبول أمر واقع: “سنكون هناك بقوة الفتح وسنبقى”.
كان لويد جورج، وكما يشير دافيد فرومكين، الرجل الوحيد في حكومته الذي أراد دائماً استيلاء بريطانيا على فلسطين، وأراد أن يشجع قيام وطن قومي يهودي في فلسطين. وخلافاً لزملائه “كان يعرف معرفة أكيدة وجود اتجاهات عمرها قرون في فكر أتباع الكنيسة الإنجيلية والمنشقين عن الكنيسة البروتستانتية تريد أن تتقدم الصفوف لإعادة اليهود إلى صهيون”، وكان “هو الأحدث في سلسلة طويلة من الصهاينة المسيحيين في بريطانيا”. ومن هنا، فقد قدّر بأن الصهيونية تتوافق مع تطلعات بريطانيا الامبريالية، ورأى أن قيام مستعمرة أو كومنولث يهودي في ظل الحماية البريطانية في فلسطين سيخدم مصالح العرش البريطاني، وسيساهم في حجب التطلعات الامبريالية البريطانية. وقد توصل عدد من زملائه في الحكومة البريطانية إلى الاستنتاج نفسه في سنة 1917، “ولكن بالسير على طرق مختلفة- وطرق كثيرة أدت إلى صهيون”.
وعليه، فقد ضمت الحكومة البريطانية، ووزارة الخارجية وعلى رأسها اللورد آرثر جيمس بلفور، في سنة 1917، عدداً من المسؤولين البارزين من أنصار الحركة الصهيونية، من أبرزهم مارك سايكس وويلم أورمسبي-غور وليوبولد س. ايميري، واللورد روبير سيسيل، والسير رونالد غراهام، وهذا الأخير لعب دوراً مهماً في صياغة تصريح بلفور، الذي أُعلن رسمياً في 2 تشرين الثاني 1917.
ويتفق هنرى لورنس ودافيد فرومكين على أن الفضل في صدور هذا التصريح يعود إلى مارك سايكس، في المقام الأول، وإلى حاييم وايزمن (1874-1952)، الذي انتخب في شباط 1917 رئيساً للاتحاد الصهيوني البريطاني، وبرز بصفته مهندس التحالف بين الحركة الصهيونية وبريطانيا العظمى، ومن أنصار وضع فلسطين تحت الحماية البريطانية. وخلال الاجتماعات الأولى التي جرت بينهما، في مطلع العام 1917، اقترح سايكس على وايزمن، الذي كان يجهل فحوى “اتفاقية سايكس-بيكو”، أن يكون الكيان اليهودي في فلسطين تحت حكم بريطاني-فرنسي مشترك، لكن وايزمن أصرّ على أن تصدر بريطانيا التزاماً علنياً بتأييد إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين.
وفي تموز 1917، عرضت وزارة الخارجية البريطانية على ممثلي الحركة الصهيونية في لندن فكرة إعداد مشروع بيان يتضمن مطالبهم فيما يتعلق بفلسطين. وبعد مناقشات طويلة بين الطرفين، دارت على مدى أسابيع، ناقشت الحكومة البريطانية، في 4 تشرين الأول 1917، الصيغة الأولية للبيان، التي ورد فيها: “إن حكومة جلالته تنظر بعين العطف لقيام وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل كل جهودها من أجل تحقيق هذا الهدف، على أن يًفهم جلياً بأنه لن يؤتى بأي عمل يمكن أن ينتهك الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، أو ينتهك الحقوق والوضع السياسي لليهود في البلدان الأخرى، والذين يتمتعون بالجنسية والمواطنة”. وفي 31 من الشهر نفسه، ناقشت الحكومة البريطانية صيغة البيان من جديد، فشدّد بلفور على أهمية كسب تأييد اليهود الأمريكيين، وبخاصة إثر قرار حكومة الولايات المتحدة، في نهاية نيسان 1917، دخول الحرب إلى جانب الحلفاء. وأشار بلفور، من جهة ثانية، إلى أن “الوطن القومي” لا يعني حالياً إقامة دولة يهودية، وأن هذه الدولة يمكن أن تنشأ بصورة تدريجية ووفقاً لتطوّر الأوضاع السياسية. ونظراً لغياب وايزمن عن العاصمة البريطانية في ذلك الوقت، فقد اتخذ “تصريح بلفور” صيغة رسالة موجّهة من بلفور إلى اللورد روتشيلد.
وفي 7 شباط 1918، وبعد أن شرعت بريطانيا في إقامة إدراتها العسكرية في فلسطين، أعلن بلفور نفسه، خلال إفطار سياسي يهودي: “آمل شخصياً بأن ينجح اليهود في فلسطين، وأن يتمكنوا في نهاية المطاف من تأسيس دولة يهودية. إنهم يمتلكون حالياً كل العناصر، وقد وفّرنا لهم، من جانبنا، فرصة حياتهم “. كما أكد في 17 تشرين الثاني 1919: “إن كانت الصهيونية عادلة أم لا، جيدة أم سيئة، فإنها تضرب جذورها، في آن معاً، في التقاليد القديمة، وفي الحاجات الراهنة وفي الآمال المستقبلية، وتنطوي على دلالة أعمق من رغبات وتطلعات العرب، البالغ عددهم 700000، والذين يقطنون اليوم هذه الأرض الموروثة عن الأسلاف”.
//المراجع
حدّاد، يوسف، “وعد بلفور: ازدواجية وانحياز”، شؤون فلسطينية، نيقوسيا، العدد 174-175، أيلول-تشرين الأول 1987، ص 35-57.
فرومكين، دافيد، سلام ما بعده سلام. ولادة الشرق الأوسط 1914-1922، ترجمة أسعد كامل الياس، لندن-قبرص، رياض الريس للكتب والنشر، 1992.
هيكل، محمد حسنين، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (الكتاب الأول)، الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية، القاهرة، دار الشروق، 1996، الطبعة الثالثة.
Laurens, Henry, La Question de Palestine, tome premier 1799-1922 . L’invention de la Terre sainte, Paris, Fayard, 1999.
.Morris, Benny, Victimes. Histoire revisitée du conflit arabo-sioniste, Paris, Editions Complexe, 2003
التعليقات مغلقة.