عاشت “الانتفاضة” … ماتت “الانتفاضة” / هاني المصري
هاني المصري ( فلسطين ) الثلاثاء 24/5/2016 م …
تراجعت فعاليّات “الانتفاضة” لدرجة جعلت العديدين محقيّن يستنتجون أنها انتهت أو على وشك الانتهاء، فلم تعد هناك مظاهرات ومواجهات كبيرة ومنتظمة مع قوات الاحتلال على الحواجز وخطوط التماس، وتراجع منسوب عمليات الطعن والدهس وغيرها من العمليات.
اندلعت “الانتفاضة” عفويةً وفرديةً، وهذا طبيعي لأنّ العمل العفويّ يسبق الوعي والتنظيم، ولكن ما حدث أن “الانتفاضة” بدأت وتكاد أن تنتهي يتيمة بلا أب وبلا قيادة ولا أهداف ولا تنظيم ولا روافع اقتصادية.
منذ البداية، انفردت بوصف ما يجري بالموجة الانتفاضية، وهذا يعني أنها أكثر من هبة وأقل من انتفاضة، لأن الموجة تشهد مدًا وجزرًا، ولأن الظروف الذاتية والموضوعية غير مهيأة لاندلاع انتفاضة، لا سيما في ظل اختلاف الظروف التي تعاني منها التجمعات الفلسطينية المصنّفة إلى مناطق: (أ) و(ب) و(ج)، والقدس التي ضمت إلى إسرائيل، وقطاع غزة المحاصر، وأراضي 48 التي خرجت من الحساب منذ توقيع “اتفاق أوسلو”، فلا يمكن التقليل من تأثير عدم تمركز قوات الاحتلال داخل المدن، والانقسام، واستمرار التزامات السلطة، وخصوصًا التنسيق الأمني، إضافة إلى عدم وجود أفق سياسي ينبئ بانتصار سريع.
من الطبيعي أن تأخذ “الانتفاضة الثالثة” شكل الموجات، موجات بعناوين مختلفة: الأقصى، الاستيطان، مخطط برافر، الأسرى … إلخ. وكل موجة يمكن أن تستمر شهرًا أو أشهرًا عدة، وتستهدف تحقيق هدف أو أهداف عدة محددة، ثم تنحسر، لتتلوها بعد حين موجة أخرى، وبذلك يستمر الصراع بوتائر مناسبة لكي تستمر الحياة. فأسلوب الانتفاضة الواحدة التي تستمر لسنوات لا يتناسب مع خصائص الصراع التي تشير إلى أن المعركة طويلة ولا يمكن حسمها بضربة واحدة ولا بانتفاضة واحدة، لذلك لا بدّ من الاحتفاظ بالقوى لتأمين متطلبات خوض المعركة الطويلة التي تحتاج إلى طول نفس، وتخطيط وتقليل الخسائر قدر الإمكان، ومعاظمة الأرباح والمكاسب إلى أقصى حد.
عبّر بعض المحللين والكتّاب والسياسيين، خصوصًا في السلطة والقيادة، عن رفض هذا الشكل من المقاومة بحجة أنه مرفوض من العالم، وكونه يقدّم الأطفال والشباب الفلسطيني ضحايا من دون مقابل. ولم يتوقف هؤلاء أمام الأسباب، وأولها مسؤوليتهم التي أدت إلى أن تأخذ الانتفاضة هذا الشكل، وخصوصًا رفض القيادة لأي شكل جدي من المواجهة، وعجز وتخاذل وترهل الفصائل وتقادم أطرها وبنيتها وعدم قدرتها على التجديد. واعتبر البعض أنّ ما يجري انتفاضة سعيًا وراء الشعبوية لكسب تأييد الجمهور الذي تعاطف مع الموجة الانتفاضية، متناسيًا أنه سرعان ما “يذوب الثلج ويبان المرج”، وساهم هذا البعض في وصول الموجة إلى ما انتهت إليه، لأن إسقاط وصف الانتفاضة على ما يجري حرف الأنظار عن القيام بما هو مطلوب لكي تصبح انتفاضة، أو الأصح مقاومة فعّالة مثمرة قادرة على تحقيق إنجازات تتراكم وصولًا إلى تحقيق الأهداف.
إن العائق الأساسي الذي حال ويمكن أن يحول دون استثمار الموجة الانتفاضية بالحد الأقصى، وحال دون استمرارها واتساعها وتحولها إلى انتفاضة أو مقاومة مثمرة؛ أن القيادة الفلسطينية وما تمثله من نهج وسياسة وخطط عمل ووزن وإمكانيات كانت ضد أي شكل جدي من أشكال المواجهة مع الاحتلال، لأنها تعتبر المقاومة والانتفاضة دمرتنا، وأننا هُزِمنا بلا شك، ومن هُزِم عليه أن يسدد فواتير الهزيمة وليس أن يسير على طريق تجاوزها؛ لذا منذ البداية خشيت القيادة من هذه الموجة الانتفاضية أكثر ما سعت لاستثمارها، وساعدها على النجاح في المساهمة بإخمادها أن هذه الموجة خلافًا للانتفاضات السابقة كان هناك خلاف فلسطيني حولها.
جذر هذا الخلاف أن سنوات ما بعد “اتفاق أوسلو” بشكل عام، والسنوات الأخيرة بعد اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات والانقسام بشكل خاص؛ أوجد بنية سياسية واقتصادية وثقافية أوجدت “مجتمعَين” عابرَيْن للمناطق والفصائل: واحد لا يزال لديه أمل ويؤمن بالمقاومة كطريق لدحر الاحتلال وتحقيق الأهداف والحقوق الفلسطينية، والآخر يؤمن بأن المطلوب الحفاظ على مصالحه وتنميتها، لذلك لا يزال يرى بأن المفاوضات والعمل السياسي والمساهمة في توفير الأمن والاستقرار للاحتلال والمنطقة والعالم هو الطريق الوحيد الذي إذا لم يساعد على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة فإنه يحافظ على الوضع الراهن (المأساة أنه لا يحافظ عليه) ويحول دون التدهور والدخول في الفوضى والاقتتال والفلتان الأمني، وتحول “السلطتين” إلى سلطات متناحرة فيما بينها تسعى كل واحدة لكسب ودّ الاحتلال والحصول عَلى اعتماده لها.
لأول مرة كنّا أمام “مجتمعَين” يظهران في نظام سياسي قديم يتآكل و”يجدد” نفسه بشكل أسوأ، ونظام سياسي جديد يطل برأسه بصعوبة، وبصورة نجد فيها عدم انهيار النظام القديم كليًا لوجود أسباب تمدة بالحياة، وإن كان على صورة الرجل المريض الذي لا يتقن سوى الانتظار، ولا يأمل سوى بالبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.
ما يفسر ما سبق الهوة الساحقة التي لم تكن موجودة سابقًا بين طبقات المجتمع: بين فئات وشرائح وأفراد في السلطة والقطاع الخاص تحصل على أرباح ورواتب كبيرة جدًا، وبين قطاعات كبيرة بلا عمل وتحت خط الفقر، ويقل دخلها باستمرار، ويتراجع مستوى حياتها بصورة أوجدت مصالح متباعدة – إن لم أقل متناقضة – أوجدت أو على وشك أن توجد رؤى وبرامج مختلفة.
لم يحدث الآن كما كان يحدث في الثورات والانتفاضات السابقة، إذ كانت الأغلبية الساحقة تدعم المقاومة وتنخرط في أشكال الانتفاضة المتنوعة وتؤيدها، سواء إذا كانت سلمية أو مسلحة.
ابتدأ الافتراق بين “المجتمعَين” أو النظامَين جرّاء النتائج التي انتهت إليها الانتفاضة الثانية والتي أدت إلى خسائر فادحة من دون مقابل، حيث شهدت في أثنائها حوارات حول جدواها في أروقة السلطة والأجهزة الأمنية والنخبة: هل تكون سلمية أم مسلحة، وما أهدافها، هل تحسين شروط المفاوضات، أم الخروج من مسار أوسلو كليًا؟ ولكن بالرغم من ذلك كانت هناك أغلبية كبيرة في صفوف الشعب أيّدت العمليات الاستشهادية.
لقد هبطت القيادة الفلسطينية بالسقف الفلسطيني بعد الانتفاضة الثانية، حيث لم يعد واضحًا ما هو المشروع الوطني، وهل هو حق تقرير المصير والعودة والاستقلال الوطني، أم بقاء وتحسين شروط سلطة الحكم الذاتي؟
كما تم تكريس غياب المؤسسة الوطنية الجامعة والقيادة الواحدة، الأمر الذي عبّد طريق الانقسام ووصل إلى حد أن المركز القيادي يتهاوى ويتراجع، وحل محله الشرذمة والتشظي والفردية والجهوية وطغيان الصراع على السلطتين على أي موضوع آخر، إذ أصبح احتفاظ كل طرف بسلطته بالرغم من أنهما سلطتان تحت الاحتلال ومقيدتان بقيود والتزامات وظروف غليظة وقاسية هو “غاية المنى وسدرة المنتهى”.
ما سبق ضروري لمعرفة أين نقف الآن، ولماذا كان مصير الموجة الانتفاضية التي أنجزت بالرغم من كل ما سبق، ورغم عفويتها وفرديتها وتخلي القيادة والفصائل عنها، ما لم تنجزه الانتفاضات السابقة؟ ومن لا يصدق ليطلع على الجدل داخل إسرائيل حولها، فقد أرسلت هذه الموجة رسالة مدوية جديدة إلى إسرائيل مفادها أن الشعب الفلسطيني لم ولن يقبل استمرار التشرّد والاحتلال والتعايش معه، ولن يجعل سقف مطالبه تحسين شروط العيش تحت الاحتلال. فالأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة واستمرار المقاومة والانتفاضة منذ أكثر من مائة عام لا تزال مستمرة، بل تزايدت، ما يعني أن اندلاع الموجة القادمة ما هي إلا مسألة وقت.
تأسيسًا على ما تقدم، كان من الطبيعي أن تأخذ المواجهة شكل الموجة، لأن الانتفاضة الشعبية العارمة يحركها أمل كبير بتحقيق انتصار عظيم، هكذا كان في الانتفاضة الأولى والثانية، حيث كانت التوقعات أن الدولة على مرمى حجر.
بينما جاءت هذه الموجة كردة فعل ودفاع عن الوجود، وكفاح لإحباط المخططات الإسرائيلية المنطلقة من أن الوضع الحالي فرصة تاريخية قد لا تتكرر لاستكمال تحقيق ما لم يتحقق من أهداف الحركة الصهيونية، لذلك لاحظنا أن إسرائيل أزالت الغبار عن خطة “إقامة إسرائيل الكبرى”، وتسعى لفرض حل إسرائيلي أحادي الجانب.
لا حل وطنيًا يلوح في الأفق، لا دولة واحدة ولا دولتين. الأولوية الآن الحفاظ على القضية حية بمنسوب معتدل للمواجهة، والتمسك بما تبقى من مكاسب ونقاط قوة وأوراق ضغط، والحفاظ على الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين، وإحباط المشاريع الإسرائيلية بكافة أشكالها.
نحن لا نزال في ذروة الحرب والصراع ولم يحن توقيت الحل والمساومة بعد، وأي مساومة في ظل الشروط الحالية، شروط الضعف والانقسام والتيه الفلسطيني والاحتراب والشرذمة العربية، لن تقود سوى إلى نتيجة واحدة تصفية القضية بمساهمة أصحابها.
التعليقات مغلقة.