ثوريّة المعرفة / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الجمعة 23/7/2021 م …




     تستوقفني هنا مقولة للمفكر الانكليزي ” فرانسيس بيكون”  1561 – 1626. يقول فيها: ( المعرفة ثورة جبارة, لكنها لا تصبح ثورةً فعليَّةً, إلا إذا كانت يقينيّة تستند إلى معرفة أسباب الحقيقة الكامنة وراء الظواهر).(1). أي معرفة علميّة ومجال نشاطها هنا بالضرورة الظواهر بشقيها الطبيعيّ منها والاجتماعيّ.

     إن مهمة المعرفة العلميّة في صيغتها الثوريّة هذه, هي بسط سيطرة الإنسان على الطبيعة أولاً, وخلق حالة من التوازن بين مكونات المجتمع الإثنيّة والدينيّة والطبقيّة ثانيا, وبالتالي جعل حياة الإنسان في مضمار هذه المكونات أكثر رقيّاً وجمالاً من الناحية الجماليّة أيضاً. وهذا التوجه المعرفي الثوري إذن, لا يهدف في حقيقة أمره إلى تحقيق المنفعة العمليّة المباشرة فحسب, بل والمنفعة ّالقيميّة والروحيّة أيضاً.

     إن أهداف المعرفة إذن. هي جني ثمارها عند توظيفها في نشاط حياة الإنسان الماديّة والروحيّة بغية تحقيق سعادة الإنسان وأمنه واستقراره. بيد أن هذه المعرفة لا يمكن أن تحقق أهدافها هذه دون تحقيق الشق المنهجي فيها. وهو معرفة أسس آليّة عمل هذه المعرفة, أي معرفة القوانين التي تتحكم بسيرورة وصيرورة عمل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة وسمات هذه الظواهر وخصائصها.

     وبناءً على هذه الأسس المنطقيّة الواقعيّة للمعرفة, تأتي مسألة إقصاء كل معرفة تَحُولُ دون تحقيق المعرفة العقلانيّة النقديّة, وفي مقدمتها نقد المعرفة اللاهوتيّة الوثوقيّة والميتافيزيقيّة, والشك في كل ما هو مطلق  وحائز على الحقيقة كلها. والشك هنا في طبيعة الحال ليس شكاً ريبياً يُنكر الوصول إلى الحقيقة, بل هو شك مشبع بإمكانية الوصول إلى الحقيقة في نسبيتها.

     إن من أخطر نتائج المعرفة غير الثوريّة, هو اعتمادها على الاستنتاج المنطقي فقط في تقديم البراهين, فاستنتاجات أرسطو المعرفيّة المنطقيّة الصوريّة القائمة على القياس الصوري  لم تحقق معرفة عقلانيّة نقديّة تغوص في عالم جوهر الظواهر والبحث عن آليّة عمل سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, بل ظلت معرفة شكليّة (كل إنسان فان, سقراط إنسان, سقراط فان إذن). هذا القياس الشكلي الصوري لم يقاوم أسس المعرفة العلميّة الجدليّة التي تربط ما بين شكل الظاهرة وجوهرها. لذلك من هنا يأتي الشرط الأول لتحقيق ثوريّة المعرفة, وهو استخدام التجريب والتفكيك والتركيب والاستنتاج والاستقراء, وأخيراً البرهان على حقيقة الظواهر موضوع البحث.

     إن تحقيق ثوريّة المعرفة يتطلب منا أيضا تحرير المعرفة ذاتها من الأوهام, وفي مقدمته صنميّة (العقل الجمعي) وسلطويته, وبالتالي التخلص حتى تاريخه من أوهامه المعرفية التي امتدت لعصور طويلة وشكلت في حضور سياقها التاريخي ما نستطيع تسميته بوعي “مجتمع القطيع”, وهو وعي تتحكم به مختلف النزعات والعواطف والمصالح الأنانيّة الضيقة.

     نعم إن المعرفة العقلانيّة النقديّة أو الثوريّة, ترفض في نهاية المطاف تلك الأفكار ” العنكبوتية” التي تنسج من خيال الكاتب أو المفكر, على أنها حقائق, بينما المعرفة الحقيقيّة تتطلب جمع أكبر قدر ممكن من الوقائع والأدلة. (2) . فالباحث هنا يشبه في عمله كما يقول ” بيكون” عمل (النملة) التي تحمل كل ما تستطيع حمله مما يصادفها في طريقها إلى خليتها. (3).

     إن المعرفة العقلانيّة النقديّة الثوريّة, هي في المحصلة معرفة تقوم على منهج عقلاني نقدي علمي, يعالج الظواهر نظرياًّ بعد أن قدمتها الحواس والتجربة والعقل في تحليله وتركيبه, وهنا تشبه عمليّة الحصول على المعرفة كما يقول “بيكون” نفسه عملية (النحل) الذي يمتص الرحيق من ورود مختلفة, لكنه لا يبقيه على حاله, بل يحيله إلى عسل. (4).

     هذا وتشكل التكنولوجيا في نهاية المطاف, الوسائل الأكثر أهميّة في تحقيق ثوريّة المعرفة, فهي من تزيد قدرات إدراكنا للظواهر المحيطة بنا, وبالتالي اكتمال الفكر الإنسانيّ ذاته.

     اما التجربة التي يمارسها الإنسان للتأكد من صحة الظواهر التي يطمح لمعرفتها, أياً كان نوعها, فهي من يدفع أيضا بالعلم والمعرفة إلى الأمام, ثم الاجابة على الأسئلة المطروحة حول الطبيعة والمجتمع معاً. هنا فقط تؤكد المعرفة صفتها الواقعيّة والعقلانيّة, وأول قوانين هذه المعرفة الثوريّة على الإطلاق هي الحركة. وهي حركة لا تقتصر على الميكانيكيّة فحسب, بل هي حركة فيزيائيّة وبيولوجيّة وكيميائيّة وجدليّة, والسكون ذاته هو  شكل من أشكال الحركة. إن الحركة هي روح حياة المادة وتوترها في شكلها وجوهرها الدائم وعذاباتها. إن الحركة هي سر تجلي الظاهرة, فإذا كانت الصورة الهاديّة للظاهرة الماديّة هي ضرب من حركة الجسيمات (الذرات) الأوليّة التي منها تتركب الظاهرة, فالظاهرة في شكلها ومضمونها الاجتماعيّ والجماليّ والأخلاقيّ تحتوي جميع الكيفيات الحسيّة بغناها وتنوعها اللامحدودين.

ملاك القول : إن المهمة المباشرة للمعرفة الثوريّة, تقوم بالبحث عن علل الظواهر, الفاعلة منها والغائية معا. فإذا كانت العلل الفاعلة, هي المحركة للظواهر (الميكانيزم), والباحثة عن جواهرها وآليّة تشكلها وتمظهرها على الواقع العياني, فإن العلل الغائيّة, تتعلق بالأهداف المرجوة من معرفة الظواهر وإمكانيّة تسخيرها لمصلحة الإنسان. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) – ( موجز تاريخ الفلسفة – مجموعة من لمؤلفين – إصدار داري التقدم موسكو وذارالفكر – دمشق – 1971 – 239.).

(2) – المصدر نفسه. ص 241.

(3) – المصدر نفسه. ص 241

(4) – المصدر نفسه. ص241

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.