سد النهضة: من تهديد إلى فرصة؟ / زياد حافظ
زياد حافظ* ( لبنان ) – الأربعاء 28/7/2021 م …
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
أقام المنتدى القومي العربي في لبنان ندوة افتراضية في 26 تموز/يوليو 2021 عبر الزوم حول أزمة سد النهضة في اثيوبيا شارك فيها عدد كبير من النخب من العديد من الأقطار العربية. وإذا كان هناك اجماع حول التضامن مع كل من الشعبين المصري والسوداني في مواجهة الاخطار الناجمة عن ذلك السد الذي هدفه الحقيقي تهديد كل من مصر والسودان وبيع مياه النيل للكيان الصهيوني فإنها كانت فرصة لإبداء بعض الملاحظات التي قد تحول الازمة القائمة من تهديد وجودي إلى فرصة نهضة جديدة لكل من مصر والسودان وبالتالي للأمة العربية بأكملها.
الملاحظة الأولى هي أن ما وصلت اليه الأمور هو نتيجة تراكم الإهمال المصري خلال العقود التي تلت رحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر. فمصر خلال الخمسينات والستينات كانت منصة حركات التحرّر الإفريقية تجسيدا وتطبيقا للرؤية الجيوستراتيجية التي بلورها القائد جمال عبد الناصر في “فلسفة الثورة” حيث الامن القومي المصري يكمن في دوائر ثلاث: الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الإفريقية. كم كانت رؤيته الجيوستراتيجية ثاقبة آنذاك وكما هي صحيحة اليوم وفي الغد! لكن بعد رحيله أتيحت الفرصة للكيان الصهيوني التوغل في إفريقيا وبناء علاقات لم تكن ممكنة في وجوده وسياسته. الانكفاء المصري يعود إلى خروج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني ما سمح للحضور الصهيوني بقوة في القارة الإفريقية.
ونلاحظ أيضا أن بعد رحيل جمال عبد الناصر تحوّلت منصة حركات التحرّر من القاهرة إلى الجزائر مع الرئيس هواري بومدين. لكن رحيل الرئيس الجزائري سنة 1978 في ظروف ثير الريبة والشكوك تلت زيارة السادات للقدس في تشرين 1977 ومن بعد ذلك دخول الجزائر في العشرية الدامية فقدت الحركة التحررية الافريقية منصة مؤثرة في نموها. حاولت ليبيا فيما بعد حمل العباءة الافريقية لكن مع خروج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني غاب الدور العربي في إفريقيا وحيّدت محاولات القذافي للإمساك بالورقة الإفريقية. هذه الملاحظات تأتي للتأكيد على أن التوغّل الصهيوني في القارة الإفريقية لما كان لولا الغياب القسري العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص. فمن الواضح أن أعداء الأمة العربية في الغرب وفي الكيان وفي بعض الدوائر العربية يمنعون أي دور عربي في إفريقيا يساهم في تنمية القارة من جهة ويمكّن استقلال وسيادة الدول المكوّنة من جهة أخرى وأخيرا لحماية الأمن القومي العربي وفقا لرؤية جمال عبد الناصر. كما أن تقسيم السودان وبناء سد النهضة استهدف السودان في مرحلة أولى تمهيدا لاستهداف مصر. فالمطامع الصهيونية في مياه النيل معروفة والحذر من قبل بعض الدول العربية من مصر تقاطعت لفرض الضغوط على مصر وترويضها.
على صعيد خاص، كنا شاهدين على نتائج الغياب العربي في إفريقيا وذلك من خلال عملنا في التسعينات في إحدى مؤسسات البنك الدولي حيث كنا نغطّي إفريقيا الغربية. لاحظنا امتعاض نخب إفريقية من التوغل الصهيوني فيها بينما كانت تذكر لنا فضائل مصر في دعم حركات التحرّر في البلدان المعنية. ما نريد أن نقوله ان الراس المال المعنوي الذي كوّنته مصر كان محفورا في ذاكرة الدول الإفريقية سواء في دعم حركة التحرر وفيما بعد في دعم الاقتصاد والتعليم. هذا الرأس المال بددته سياسات اللامبالاة بعد كامب دافيد المدمرة التي تحصد نتائجها مصر اليوم وكأن مستلزمات كامب دافيد قضت بالتخلّي عن الدور الإفريقي لمصر كما تخلّت عن دورها في الصراع العربي الصهيوني.
الملاحظة الثانية هي أن المواجهة الحقيقية في موضوع السد ليست مع الشعب الاثيوبي الشقيق ولا حتى مع حكومته. أحد المتكلّمين في الندوة الدكتور محمد حسب الرسول وهو نائب امين عام المؤتمر القومي العربي أعطى إضاءات هامة حول المشتركات والروابط المصرية والسودانية مع الشعب الاثيوبي. فهناك حوالي 70 بالمائة من سكان اثيوبيا من المسلمين وأن الكنيسة الاثيوبية من أعرق الكنائس ولها ارتباطات مع الكنيسة المصرية، وحيث كادت اللغة العربية تكون لغة رسمية تجعلها مرشحة للانضمام إلى الدول العربية. ما نريد أن نقوله هو أن المواجهة ليست مع الاثيوبيين شعبا وحكومة بل مع رأس الافعى الحقيقي وهو الكيان الصهيوني الذي ساهم على أكثر من صعيد في بناء ذلك السد. وإذا كان سد النهضة يشكّل تهديدا واضحا للأمن القومي المصري والسوداني وبالتالي العربي فإن المواجهة هي مع العدو الصهيوني المحتل أولا وأخيرا.
التخلّي عن الدور الريادي المصري في الشأن الإفريقي مبني على نظرية تمّ ترويجها أن 99 بالمائة من أوراق اللعبة تملكها الولايات المتحدة وأن البوّابة للولايات المتحدة هي الكيان الصهيوني المحتل. بغض النظر عن صحة ذلك التقدير آنذاك، أي في السبعينات من القرن الماضي، فإن موازين القوّة الدولية والإقليمية الحالية والمرتقبة تدحض تلك النظرية وبالتالي الخيارات والسياسة المبنية عليها يجب أن تخضع لمراجعة. فمصر مهدّدة شرقا وشمالا من الكيان الصهيوني والخلايا الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وغربا من أيضا من جماعات التعصّب والغلو والتوحّش، واليوم من الجنوب عبر خطر التعطيش، وجميع هذه المخاطر مرتبطة بالكيان الصهيوني المحتل وداعمه الأساسي الولايات المتحدة. ألم يحن الآوان لمراجعة تلك السياسات لمواجهة التهديدات؟ بل نقول أكثر من ذلك ونعتبر أنه بإمكان تحويل التهديد إلى فرصة انطلاقة جديدة عبر قلب الطاولة على الكيان وجعل من سد النهضة منفعة مشتركة لكل من مصر والسودان وبطبيعة الحال اثيوبيا عبر تشبيك إقليمي بين دول وادي والقرن الإفريقي لا مكان للكيان الصهيوني فيه.
الملاحظة الثالثة هي أن التشبيك الاقتصادي بين بلاد وادي النيل والقرن الإفريقي يتكامل مع التشبيك المرتقب بين بلاد الرافدين وبلاد الشام من جهة، ومع مشروع التشبيك في دول المغرب الكبير من جهة اخرى. والتكامل بين هذه المكوّنات الأربعة يساهم في وجود كتلة عربية وإقليمية تتكامل مع مشروع الطريق والحزام الواحد الصيني والمشروع الاوراسي الروسي. المستقبل هو في الشرق وليس في الغرب والافول الغربي هو افول استراتيجي لا يستطيع أحد إيقافه أو حتى ابطاؤه. والمشروع العربي النهضوي الذي نناضل من أجله هو في صميم المواجهة مع الكيان الصهيوني حيث بوجود الكيان لا شيء غير التجزئة والضعف والتخلّف والانقراض. أما المواجهة فهي تأتي بالوحدة وبالوحدة تأتي القوّة وبالقوة تأتي النهضة.
التعليقات مغلقة.