الحزب الثوري / محمد الحنفي
إلـــــى :
q من افتقدته كرفيق درب النضال الطويل.
q من شاركته و شاركني هموم و آمال وآلام الشعب المغربي الكادح.
q من تعلمت منه روح التضحية و الإباء و الصبر على شدة المعاناة.
q من كان همه – منذ عرفته إلى أن فارق الحياة – العمل على تحرير الطبقة العاملة من شراسة الاستغلال في أفق تحريرها النهائي منه.
q من سعى إلى تمتيع جميع الناس بكل الحقوق في كونيتها، و شموليتها.
q من أحببته و أحبته أسرتي و رفاقي في كل هذا الوطن.
* فقيد حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي.
* فقيد الحركة العمالية
· فقيد الحركة الحقوقية
العزيز لحسن مبروم
اهدي هذا العمل المتواضع من اجل أن يستمر فينا فكرا و ممارسة و تضحية.
محمد الحنفي
تقديم :
في البداية لابد من الإشارة إلى ضرورة مناقشة مجموعة من المفاهيم التي لازال ينقصنا ضبطها و سبر غورها، و استيعابها حتى نوظفها توظيفا علميا صحيحا. لأنه بدون استيعابها سيكون توظيفها خاطئا أو مشوها. و من هذه المفاهيم : الحزب الثوري، هذا المفهوم الذي تداوله الفكر الاشتراكي العلمي منذ بداية القرن العشرين، و الذي لازالت مناقشته واردة إلى ما لا نهاية بحكم التطور الذي تعرفه البشرية، و بحكم علاقات الإنتاج، و تطور وسائل الإنتاج، مما يضطر المنظرين إلى إعادة النظر فيه اعتمادا على ما يستجد في مختلف المجالات.
مفهوم الحزب :
و قبل الدخول في مفهوم الحزب الثوري، لابد من الوقوف أولا على مفهوم الحزب الذي كثيرا ما اصبح متداولا بكثرة في عصرنا هذا اكثر من أي عصر آخر. فمفهوم الحزب يفيد معنى التنظيم، و لكن أي تنظيم ؟ فنحن نواكب في المجتمع مجموعة من التنظيمات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية. و لكن هذه التنظيمات محددة الهدف تضم قطاعا معينا أو فئة معينة. و بذلك لا يصدق عليها اسم حزب أو أحزاب. لأن أهدافها محددة جزئية، و لا تسعى أبدا إلى تحقيق ما هو اشمل من تلك الأهداف، و إلا وضعتها السلطة القائمة خارج القانون. و لذلك فالحزب هو التنظيم السياسي الذي يهدف إلى الوصول إلى السلطة. و هو بأيديولوجيته و طريقة تنظيمه، و ببرنامجه السياسي يمثل طبقة من الطبقات الاجتماعية التي تجمعها نفس المصالح. فالطبقة الاجتماعية لها حزبها أو أحزابها، و للبورجوازية الصغيرة لها أحزابها، و للطبقة العاملة أحزابها. و السبب في هذا التعدد الحزبي هو تعدد طبقات المجتمع، وتفرع الأيديولوجيات أو تداخلها داخل كل طبقة، و انغراس الممارسة اليمينية أو اليسارية الانتهازيين، داخل حزب أو أحزاب الطبقة العاملة.
و يبقى السؤال الملح الذي لازال يبحث له عن جواب منذ الثورة الاشتراكية العظمى في الاتحاد السوفياتي سابقا، و مرورا بمختلف الثورات في الصين و كوريا، و الفيتنام، و كوبا و غيرها من بلدان آسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية، و إلى يومنا هذا هو : ما هو الحزب الثوري ؟ هل هو الحزب الذي يعمل في ظل الشرعية في إطار نظام إقطاعي، أو بورجوازي، أو تبعي ؟ هل هو الحزب الذي يختار السرية ؟ هل هو الحزب الذي يستمد قوته من جهات و تجارب خارجية ؟ هل هو الذي ينفرز عن حركة تحريرية وطنية تاريخية منغلقة على نفسها ؟ هل هو الذي ينفرز عن حركة تحرر وطنية منفتحة على مختلف الحركات التحررية، و متفاعلة معها؟ إن إشكالية الحزب الثوري هي إشكالية لازالت قائمة و ستبقى قائمة، و على الفكر الاشتراكي العلمي أن لا يقف عند المسلمات أو المقولات الجاهزة، بل عليه أن يعمق البحث في هذا الموضوع، و أن يستفيد من مختلف التجارب الثورية في التاريخ، و في الساحة العالمية قديما و حديثا قصد صياغة مفهوم معمق يهدف إلى وضع الأسس العلمية الصحيحة لبناء حركة ثورية صحيحة تستطيع مواجهة هذه التحولات السريعة المعقدة على المستوى المحلي و القومي والعالمي، و إلا فإن حركة التحرر الوطنية ستضل الطريق.
إن البحث وتعميق النقاش حول مفهوم الحزب الثوري مهمة المثقفين. لكن من هم المثقفون الذين توكل إليهم هذه المهمة ؟ إننا نعرف أن المثقفين يتفاعلون مع مختلف الأيديولوجيات : الإقطاعية، و البورجوازية و الاشتراكية العلمية، بل قد ينتجون أيديولوجية تلفيقية انتهازية إصلاحية تضليلية لتغطية الطبيعة المتذبذبة للشريحة الاجتماعية التي ينتمون إليها، و لكن قد ينفرز في صفوف المثقفين من يتصدى للتنظير في إطار أيديولوجية معينة إما عن قناعة، أو مقابل هبات أو رشاوى يتلقاها المثقف من هذه الجهة أو تلك فيتحول إلى مثقف الإقطاع، أو البورجوازية، أو مروجا للأيديولوجيات التلفيقية، و تبقى عينة واحدة هي التي يمكن أن تتصدى للبحث في مفهوم الحزب الثوري. هذه الفئة التي سماها لينين بالمثقفين الثوريين و سماها غرامشي بالمثقفين العضويين الذين اختاروا الانحياز إلى الطبقة العاملة و الذوبان فيها، أو افرزتهم الطبقة العاملة من بين صفوفها للتعبير عن فكرها و إيديولوجيتها. فالمثقف الثوري أو العضوي هو المثقف الذي يختار الانحياز إلى الحزب الثوري، ينتمي إليه، و يعمل على تنظيمه، و يصوغ برامجه الاستراتيجية و المحلية، و يعمل باستمرار على تفعيله في صفوف الجماهير التي يتم تفعيل الحزب في صفوفها ؟
إن كلمة الجماهير فضفاضة غير محددة المعالم، فهي تضم كل طبقات المجتمع، و الهلامية، السائد منها و المسود، المستغل منها والعامل. لذلك يطرح علينا أولا و أخيرا تحديد نوعية الجماهير التي يعمل المثقف الثوري أو العضوي على تفعيل الحزب الثوري في صفوفها، فنحن في مجتمع كالمجتمع المغربي محكوم بنظام رأسمالي و تبعي، تحكمه طبقة بورجوازية تبعية، و وجود الطبقة البورجوازية التبعية يوحي بوجود طبقة عاملة نقيضة، و طبقات كادحة محرومة، وطبقة تتوسط ما بين البورجوازية و ما سواها من الكادحين، و من طبيعة الطبقة البورجوازية التابعة أن استغلالها ابشع من استغلال البورجوازية الأوربية على سبيل المثال، هدفها تحقيق الربح السريع عن طريق الاستحواذ على معظم فائض القيمة الذي لا يكفيها حتى في استهلاكها الفاحش نظرا لطبيعتها اللاوطنية و اللاديمقراطية. وطبقة كهذه لا شك أن معظم الكادحين سيعانون الأمرين منها ، وهؤلاء الكادحون هم المستهدفون بكلمة الجماهير في مواجهة البورجوازية التابعة ومن يسبح في فلكها . إن الجماهير المستهدفة بتفعيل الحزب الثوري في صفوفها هي الطبقة العاملة، و الفلاحون الفقراء، و المعدمون، و العاطلون، و أشباه العاطلين و التلاميذ و الطلبة، و الشرائح المتضررة من البورجوازية الصغرى و المتوسطة التي أصبحت مهددة بالبلترة. فهذه الجماهير هي وحدها التي لها المصلحة في تحطيم الهياكل القائمة، و إقامة هياكل نقيضة عن طريق القضاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية، و إقامة علاقات الإنتاج الاشتراكية مكانها. و يبقى التساؤل : من يقود الجماهير الكادحة نحو الهدف الاستراتيجي ؟
إن الطبقات الكادحة تختلف حسب مواقعها في علاقات الإنتاج السائدة، و الطبقة التي تحتل المواقع المتقدمة في علاقات الإنتاج هي الطبقة العاملة، فهي وحدها التي تدير العملية برمتها لأنها هي العنصر الأساسي في قوى الإنتاج. و هي بذلك تنتج فائض القيمة، و لكنها في نفس الوقت لا تأخذ من خيرات إنتاجها إلا جزءا يسيرا لا يتناسب أبدا و متطلبات العيش الكريم. و لذلك فهي الأكثر تضررا، و الأكثر تأهيلا للتسلح بالوعي الطبقين و الأكثر استعدادا لخوض النضال. لذلك فهي فعلا طليعة المجتمع، و طليعة الشعب الكادح، و طليعتيها تجعلها قائدة للطبقات الكادحة الأخرى التي تجد نفسها مضطرة للتضامن معها في نضالاتها. لكن هل تنتظم الطبقة العاملة هكذا تلقائيا ؟ أم أن الوعي يأتي من خارجها ؟
إن أي طبقة مهما كانت مرشحة للنضال، أو لقيادته على صعيد المجتمع ككل لا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا توفر لها شرطان :
1) شرط الوعي الطبقي .
2) شرط التنظيم.
فشرط الوعي الطبقي يأتي إلى الطبقة من خارجها، لأنه من إنتاج العمل الذهني الذي هو من مهمة المثقفين الثوريين أو العضويين الذين يلعبون دورهم في جعل الطبقة العاملة تعي موقعها في علاقات الإنتاج، و تدرك مدى عمق الاستغلال الذي يمارس عليها، و كيف تقاومه في أفق التقليص منه أو القضاء عليه، و بذلك تعي في نفس الوقت أن مقاومة الاستغلال لا تكون إلا بواسطة التنظيم.
و لكن أي تنظيم يمكن الطبقة العاملة من انتزاع حقوقها ؟
إن تنظيم الطبقة العاملة يتحدد بتحدد الأهداف منه.
فإذا كان الهدف هو التقليص من الاستغلال نجد أن البرنامج يكون مطلبيا اقتصاديا، و التنظيم الذي يصلح لتحقيق برنامج كهذا هو التنظيم النقابي الذي يستقطب حوله مجموع الطبقة العاملة و سائر الكادحين إذا احترمت المبادئ الأربعة التي هي شرط وجوده و استمراره : الديمقراطية، التقدمية، الجماهيرية، الاستقلالية.
أما إذا كان الهدف هو القضاء على الاستغلال بكافة أشكاله، فإن التنظيم لا يكون إلا سياسيا، و التنظيم السياسي الذي يقود الطبقة العاملة التي تنتظم في إطاره وفق مبادئ معينة هو : الحزب الثوري الذي يعرف أيضا بحزب الطبقة العاملة.
فلماذا يعتبر حزب الطبقة العاملة حزبا ثوريا ؟ و فيماذا تتجلى ثوريته ؟ و ما هي الأسس التي يقوم عليها ؟ و ما هي مبادئه ؟ و ما هي تجليات برنامجه المرحلي و الاستراتيجي ؟
طبيعة الحزب الثوري :
قبل الدخول في محاولة الإجابة على هذه التساؤلات لابد من الإشارة إلى أن حزب الطبقة العاملة ليس حزبا انقلابيا، لأن الحزب الذي يسعى إلى الوصول إلى السلطة عن طريق الانقلاب هو حزب يعتمد على النخبة التي تتخلل أجهزة الدولة و خاصة منها الجهاز العسكري الذي يقصر الطريق. و قد يعتقد البعض أن حزبا من هذا النوع هو حزب ثوري لكن من شرط الحزب الثوري أن يقوم بتغيير الهياكل القائمة بهياكل نقيضة، و الذي حصل في الدول التي وقعت فيها انقلابات : أن الهياكل بقيت كما هي، و أن علاقات الإنتاج لم تتغير مما يعطينا أن اعتماد الانقلاب لا يتجاوز إحلال نخبة مكان نخبة أخرى. أما الطبقات ذات المصلحة في التغيير فلا تستفيد شيئا. إن الحزب الثوري يعتمد على الجماهير ذات المصلحة في التغيير، و لا يعتمد على النخبة في الوصول إلى الاستيلاء على أداة السيطرة الطبقية : الدولة. و بوصول الحزب الثوري إلى التحكم في أداة السيطرة الطبقية يسخر هذه الأداة في خدمة الطبقات ذات المصلحة في التغيير.
كما أن الحزب الثوري ليس إصلاحيا انطلاقا من أن الحزب الإصلاحي لا يتجاوز في تاكتيكه و استراتيجيته إصلاح الهياكل القائمة، و الحفاظ عليها حتى تستفيد منها الطبقات التي تمثلها تلك الأحزاب الإصلاحية التي لا توجد لها استراتيجية واضحة مما يجعل التاكتيك و الاستراتيجية لديها شيئا واحد كما هو الشأن بالنسبة لأحزاب “المعارضة البرلمانية السابقة التي تحملت مسؤولية حكومة التناوب” السابقة.
و الفرق بين الأحزاب الإصلاحية و الانقلابية : أن الإصلاحية لا تسعى إلى تغيير قيادة الدولة بقدر ما تسعى إلى دعمها و المحافظة عليها مع إصلاح بعض الهياكل التي لا تمس الجوهر. أما الأحزاب الانقلابية فهي مهتمة فقط بالسيطرة على قيادة الدولة لقناعتها أن مركز القيادة هو السبيل إلى تحقيق الطموحات اليمينية أو اليسارية، لأن الانقلابيين ينتمون إلى “اليمين المتطرف، أو اليسار المغامر” و بوصول أحدهما إلى السيطرة على قيادة الدولة تؤدي الجماهير الكادحة ثمنا غاليا يأتي على رأسه حرمان الجماهير من مختلف الحقوق وفي مقدمتها الحقوق السياسية التي منها حق التعبير عن الرأي.
فلماذا يعتبر حزب الطبقة العاملة حزبا ثوريا ؟ إنه برجوعنا إلى تاريخ الفكر الاشتراكي العلمي نجد أن المنظرين لا يختلفون حول الدور الذي تلعبه الطبقة العاملة في الاقتصاد كما لا يختلفون حول الإمكانيات النضالية التي تتوفر لها، و الدور الذي تلعبه في شروط معينة إذا كانت حاملة لوعيها الطبقي. و لذلك فثوريتها نابعة من طبيعتها، و عندما تنظم في حزب حامل لأيديولوجيتها فإن هذه الحزب لا يكون إلا ثوريا للاعتبارات الآتية :
1) لأنه حزب الطبقة العاملة طليعة الشعب الكادح.
2) لأنه يتبنى الأيديولوجية الاشتراكية العلمية التي هي أيديولوجية الطبقة العاملة.
3) لأنه يعتمد التنظيم الخلوي كأساس لوجوده.
4) لأنه يتبنى مبدأ المركزية الديمقراطية.
5) لأن العلاقة بين مناضليه قائمة على مبدأ النقد و النقد الذاتي، وخضوع الأقلية لرأي الأغلبية، و القيادة الجماعية.
6) لأن برنامجه يأخذ بعين الاعتبار المطالب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية لسائر الكادحين بقيادة الطبقة العاملة.
7) لأنه يسعى على المدى البعيد إلى تقويض الهياكل القائمة، و إقامة هياكل نقيضة لجعل السلطة في خدمة الكادحين.
8) لأنه يسعى إلى تقويض العلاقات الاستغلالية كيفما كانت طبيعتها، و إقامة علاقات الإنتاج الاشتراكية مكانها.
9) لأنه يناضل من اجل أن يتمتع الكادحون بمختلف الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية التي هي جوهر الممارسة الديمقراطية.
10) لأنه يربط في نضاله بين التحرير و الديمقراطية و الاشتراكية ربطا جدليا.
و هذه الاعتبارات التي سقناها ما هي إلا تجليات لثوريته لأنه بدونها يصبح إصلاحيا، أو انقلابيا يمينيا متطرفا أو يساريا مغامرا.
أسس الحزب الثوري :
و الأسس يقوم عليها الحزب الثوري لا تتجاوز أن تكون ثلاثة :
1) الأساس التنظيمي : لأنه بدون التنظيم لا يمكن أن يوجد اصل للحزب الثوري. و الأداة التنظيمية هي الحزب الثوري، و تتشكل أساسا من العناصر الأكثر وعيا من الطبقة العاملة، و من حلفائها الطبقيين كالفلاحين الفقراء و المعدمين، والمثقفين الثوريين، و الشرائح المتضررة من البورجوازية الصغرى، و العاطلين و أشباه العاطلين. و التنظيم يعتبر أداة و وسيلة في نفس الوقت، أداة تجمع الشرائح الأكثر وعيا، و تطور وعيهم، و ترسم خططهم و تراقب حركتهم ، و تفعلهم في أوساط الجماهير الكادحة، و وسيلة لأنه يمكن من قيادة نضالات الكادحين، و خاصة الطبقة العاملة. كما يمكن من البحث عن التحالفات الطبقية لقيادة تلك النضالات في إطار جبهة وطنية عريضة للنضال من اجل الديمقراطية في مجتمع تحكمه طبقة بورجوازية تابعة أو تحالف طبقي مستغل.
و بواسطة التنظيم المرتكز على مبادئ و قوانين علمية ثابتة يكون مناضلوا الحزب الثوري وحدة يحصل فيها التواصل بين المناضلين قيادة و قاعدة، و لكن هذه الوحدة لابد لها من أساس آخر ترتكز عليه، انه :
2) الأساس الأيديولوجي : إن أيديولوجية الحزب الثوري باعتباره حزبا للطبقة العاملة لا يمكن أن تكون إلا أيديولوجية الطبقة العاملة. و أيديولوجية الطبقة العاملة هي الاشتراكية العلمية بشقيها : المادية الدياليكتيكية، و المادية التاريخية. بالإضافة إلي تجارب حركة التحرر العالمية. و المناضل المنتمي إلى الحزب الثوري لابد له من التسلح بهذه الأيديولوجية، و لابد من الاستفادة من مختلف التجارب من اجل رسم برنامجه السياسي المرحلي، و تحديد هدفه الاستراتيجي، و المناضل الذي لا يتسلح بالأيديولوجية العلمية يبقى عرضة للأخطار و المنزلقات الأيديولوجية، و خاصة منها ذات الطبيعة الإصلاحية أو اليسارية الانتهازية، بل قد يتأثر بالأيديولوجية البورجوازية و الإقطاعية. فيتسبب في خلق اضطراب في صفوف الحزب، لأنه توجد بين التنظيم و النظرية الثورية و الخط السياسي علاقة جدلية. و لذلك، فإن تحقيق الوحدة الأيديولوجية و تحققها لا يتم إلا عن طريق التسلح المستمر بالفكر الاشتراكي العلمي، و هذا يقتضي إقامة مدرسة لتكوين الأطر الحزبية، و تكوين خزانة لهذا الغرض بهدف ترويج الفكر الاشتراكي العلمي في المجتمع حتى لا تبقى حكرا على المنتمين للحزب الثوري. و إذا حقق المناضلون الثوريون مستوى عاليا من التكوين الأيديولوجي فإن ذلك ينعكس بالضرورة على بنية الحزب الداخلية التي تصير خميرة فاعلة في الواقع الاجتماعي و في مختلف المجالات مما يؤدي إلى توسيع قاعدة الحزب على مستوى الكم و على مستوى تغلغله في مختلف قطاعات المجتمع لكن ذلك يتوقف على أساس آخر إنه :
3) الأساس السياسي : لأنه بدون هذا الأساس لا يمكن للحزب الثوري أن يرتبط بالجماهير، و بالتالي فإنه سيبقى تنظيما مغلقا، وسيفتقد قدرته على قيادتها، و توجيه نضالاتها. و الأساس السياسي ليس إلا موقفا يمس الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية التي تشكل في مجملها في منظومة من الحقول التي يصعب الفصل بينها، و التي تتحدد في إطار برنامج الحزب السياسي المرحلي، و الاستراتيجي. فالموقف السياسي هو موقف من نمط الإنتاج المهيمن، و من البنيات الفوقية، و على رأسها أجهزة الدولة التي توظف لتأبيد الهيمنة الطبقية البورجوازية التابعة. و بذلك يكون الموقف السياسي على المدى البعيد هو الوصول إلى السلطة، لأنه بدون تلك السلطة لا يمكن القضاء على نمط الإنتاج البورجوازي التبعي. إلا أنه في أفق تحديد هذا الهدف الاستراتيجي لابد من إنتاج الشروط الموضوعية المؤدية إليه. و لذلك فالحزب الثوري يبلور مواقف سياسية مرحلية تتناسب و الشروط الموضوعية المتغيرة، كما تتناسب و إرادة الجماهير الشعبية الكادحة، بحيث لا تمر مناسبة دون أن يحدد الحزب الثوري موقفه منها، انطلاقا من البرنامج العام الذي ترسمه هيآت الحزب المقررة على المستوى الوطني أو القومي، أو العالمي، و الذي يشرح الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية محددا موقف الحزب منها، و طارحا البديل الذي يعمل المناضلون الحزبيون على تحقيقه من خلال عملهم في مختلف المنظمات الحزبية و الجماهيرية. و النقطة الجوهرية في البرنامج الحزبي هي تحرير الإنسان و الأرض عن طريق تحقيق الممارسة الديمقراطية بمعناها السياسي و الاجتماعي و الحقيقي، حتى تتفجر طاقات الشعب الكادح النضالية التي هي السبيل إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي.
و قد سمي البرنامج السياسي المرحلي مرحليا لأنه أولا يرتبط بمرحلة معينة حتى إذا استنفذها يعمل على وضع برنامج مرحلي آخر اختلفت شروطه عن البرنامج السابق. و الغاية من البرنامج المرحلي هي إنضاج الشروط التاريخية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية التي تجعل جماهير الشعب الكادح تتحمل مسؤوليتها في عملية التغيير الجذري. و بدون رسم هذا البرنامج المرحلي، و النضال من اجل تحقيقه، يبقى الحزب الثوري بعيدا عن الجماهير الكادحة، و يبقى فعله محصورا في دائرة محددة مما قد ينعكس سلبا على مستقبل الحزب الثوري نفسه، فيتحول إلى حزب مغامر، أو إصلاحي، و تلك هي النهاية الحتمية للحزب الذي لا يضع في حسابه الارتباط بالجماهير الكادحة التي تمده بالمناضلين، و تدعم نضالاته، و تستجيب لتنفيذ برنامجه و تدافع عنه، و تساهم في تطويره.
مبادئ الحزب الثوري :
و حزب كهذا لابد له من مبادئ و ضوابط، و أهم مبادئه تأخذ أسسها من المركزية الديمقراطية و مبادئها و خاصة منها :
1) النقد و النقد الذاتي.
2) المحاسبة الفردية و الجماعية.
3) خضوع الأقلية لرأي الأغلبية.
4) القيادة الجماعية.بالإضافة إلى مبادئ الاشتراكية العلمية التي نجدها في مختلف الأدبيات، و في مقدمتها الأدبيات المتعلقة بالمادية الديالكتيكية و المادية التاريخية التي تمدنا بأدوات التحليل العلمي الملموس للواقع الملموس.
و المركزية الديمقراطية تتكون من نقيضين : المركزية، و الديمقراطية. فالمركزية تعني صدور القرارات عن جهاز مركزي إلى مختلف التنظيمات و على مختلف المستويات التي عليها أن تنضبط لتلك القرارات، و أن تعمل على تنفيذها بوعي و مسؤولية. لكن قبل اتخاذ القرارات لابد من الرجوع إلى مختلف التنظيمات، و خاصة منها ذات الصفة التقريرية، لمناقشة ما يجب اتخاذه من قرارات تتناسب و المرحلة، حتى يساهم الجميع فيها وفقا للممارسة الديمقراطية الداخلية التي لابد أن تتوفر في التنظيم الثوري، و هكذا يتبين أن الجمع بين النقيضين في إطار وحدة و صراع الأضداد صار ممكنا في مبدأ المركزية الديمقراطية. و قد تحدث شروط موضوعية تغلب فيها المركزية على الديمقراطية فتظهر قيادة الحزب التي لا تكون إلا جماعية و كأنها تحتكر القرار، و يظهر المناضلون و كأنهم مجرد جنود في تنظيم عسكري، ولا يعرفون إلا الانضباط للقرارات التي تتخذ من قبل القيادة. كما قد تحدث شروط موضوعية تغلب فيها الديمقراطية على المركزية، فتظهر التنظيمات المختلفة، و كأنها منتديات للنقاشات المختلفة، و كأن جميع المناضلين يتواجدون في جميع الأجهزة، و يناقشون مختلف القضايا، و تختفي إلى الظل القيادة الحزبية التي عليها أن تصغي إلى تلك النقاشات المنظمة تحت إشرافها لاتخاذ القرارات التي تعمل على بلورتها. و هكذا يتبين أن العلاقة بين المركزية و الديمقراطية هي علاقة جدلية، و لا يمكن للحزب الثوري أن يكون مركزيا صرفا، و لا ديمقراطيا صرفا. لأن ذلك قد يؤدي به إلى التفكك أو التشرذم الحلقي الذي يشكل خطرا على الحزب كما يحصل في العديد من الأحزاب ذات التوجه الديمقراطي الإصلاحي أو الليبرالي.
أما بالنسبة للنقد و النقد الذاتي فلابد من هذه الثنائية، فالنقد يعني الكشف عن الخطأ في الممارسة النظرية و العملية وفق منهج دقيق قائم على التحليل العلمي للوقائع و الأحداث بشقيها النظري و العملي قصد حماية الحزب الثوري مما قد يتسرب إليه من ممارسات نظرية أو عملية يمينية انتهازية أو يسارية مغامرة. و بذلك يكون سلاح النقد وجيها، و ضروريا شرط الابتعاد به عن الذاتية التي قد تسقط التنظيم في صراعات هامشية، و عن الأشياء التي لا تدخل في إطار الممارسة التنظيمية الأيديولوجية و السياسية. و نقد كهذا إذا ثبتت صحته يستوجب النقد الذاتي الذي يعني الاعتراف أمام الأجهزة المعنية بارتكاب الأخطاء المنقودة، و اعتراف كهذا يستلزم الانتباه و الحذر مستقبلا حتى لا تتكرر نفس الأخطاء، لأن تكرارها يجعل التنظيم لا يبارح مكانه، و لا يتجاوزه إلى ما هو أرقى. و بالتالي يجعل النقد عديم الجدوى مما يستلزم استئصال الداء من جذوره باتخاذ القرارات اللازمة بجعل التنظيم الحزبي يتقدم إلى الأمام. و العلاقة القائمة بين النقد و النقد الذاتي هي علاقة جدلية بحيث لا يمكن الفصل بينهما في الممارسة التنظيمية و الأيديولوجية و السياسية. و الغاية من النقد و النقد الذاتي هي الدفع بالتنظيم إلى الأمام حتى يلعب دوره اكثر في الساحة الجماهيرية.
و مما يدخل في خانة النقد و النقد الذاتي ما يصطلح على تسميته بالمحاسبة الفردية و الجماعية التي تنصب على المهام المقرر إنجازها، لأنه في مختلف المستويات التنظيمية في الحزب الثوري يكلف المناضلون بصفة فردية أو جماعية بإنجاز مهام تنظيمية أو نضالية. ثم يحاسب الجميع على إنجاز تلك المهام أو عدم إنجازها للوقوف على السير العادي للعمل الحزبي. و مبدأ المحاسبة الفردية و الجماعية بمثابة اللحمة التي تحقق وحدة الحزب، لأنه يشمل مختلف الأجهزة و المناضلين العاملين في كل جهاز. و عندما يتوقف العمل بهذا المبدأ يصاب التنظيم في مختلف مستوياته بالشلل، لأن تنفيذ القرارات و القيام بالمهام سيصبح خاضعا للمزاج الشخصي بدل الالتزام الحزبي كما هو منصوص عليه في القانون الداخلي للحزب الثوري.
و خلال المحاسبة لابد أن يبرز الاختلاف في التحليل و الاستنتاج مما يطرح مسألة الحسم في الأمور المختلف حولها، فتلجأ الأجهزة إلى التصويت، و يتكرس بذلك خضوع الأقلية للأغلبية، و هذا عين الممارسة الديمقراطية الصحيحة بين المناضلين، لكن هذا لا يعني إلغاء الرأي الذي لم ينل الأغلبية، بل إن النقاش المستمر الذي تعرفه الأجهزة قد يعطي لذلك الرأي صيغة الموضوعية فيكتسب بدوره الأغلبية. و بذلك يستوعب الحزب الثوري جميع مناضليه عن طريق استيعاب آرائهم. إلا أن القاعدة أصبحت عرفا و قاعدة في اجتماعات هياكل الحزب الثوري هي تجنب اللجوء إلى التصويت، و استنفاذ النقاش إلى أقصى مداه لترسيخ القناعات الفردية و الجماعية بالمواقف الصائبة حفاظا على وحدة الحزب التي هي الضمانة الأكيدة لجعله يلعب ذلك الدور الرائد في قيادة نضالات الشعب الكادح، تلك الوحدة التي لا مجال معها لظهور الأغلبية أو الأقلية. بالإضافة إلى أنها تقطع الطريق على بروز مرض الحلقية الذي قد يؤدي بالحزب الثوري إلى التقسيم و التشرذم.
إن استنفاذ النقاش و توظيف التحليل العلمي يرقى بالحزب إلى مستوى الوحدة العضوية التنظيمية أو الأيديولوجية و السياسية مما يكسبه قوة أمام الأعداء الطبقيين، و قدرة على الإبداع في مختلف المجالات التي يتحرك فيها. و لذلك فاللجوء إلى التصويت لجعل الأقلية تخضع لرأي الأغلبية لا يحصل إلا في الضرورة القصوى، و في شروط موضوعية دقيقة لا مجال معها لاستنفاذ النقاش، و تقتضي السرعة في اتخاذ القرارات التي تفعل الحزب اكثر، و تجعله يتجاوز وضعيته في تلك الشروط إلى ما هو افضل.
و هكذا نخلص إلى ما هو أساسي و مركزي في الحزب الثوري، ذلك انه لا يعرف العمل الفردي أبدا، كما لا يعرف الرؤيا الأحادية الجانب. و بذلك تنتفي فيه القيادة الفردية، و القرارات الفردية، و التنفيذ الفردي حتى و إن كان المنتمون إليه هم عبارة عن أفراد. فالقيادة لا تكون إلا جماعية، و القرارات تتخذ في إطار هيآت تمثل مجموع أفراد الحزب قمة و قاعدة. و التنفيذ ملزم لجميع المنتمين إلى الحزب الثوري، و القيادة الجماعية محليا و إقليميا و وطنيا هي التعبير الفعلي عن ثورية الحزب لأنها تقطع الطريق أمام تضخم الأنا الذي يعد مرضا مزمنا يصيب قادة أحزاب البورجوازية و البورجوازية الصغرى و المتوسطة، و حتى قادة اليسار المغامر، و تفسح المجال أمام جميع المناضلين للتمرس على القيادة من الخلية، إلى لجنة القطاع إلى مكتب الفرع، فالكتابة الإقليمية فاللجنة المركزية، لأن الضوابط هي نفسها، و لا يميز بينها إلا طبيعة المهام الموكولة لكل جهاز. فالقيادة الجماعية هي تكريس للثورة الدائمة على الأفراد المصابين بالنزوع نحو الاستبداد بأمور التنظيم، و على مختلف أشكال التحريف التنظيمي و الأيديولوجي و السياسي. و إذا كانت المهمة الموكولة إلى القيادة هي الإشراف على تنفيذ القرارات الحزبية، فإن أسلوب التنفيذ يتيح لهذه القيادة أن تكون هيئة مقررة في إطار المهمة المركزية الموكولة إليها. و بذلك تكون القرارات المتخذة في هذا الإطار جماعية أيضا. بالإضافة إلى إمكانية توزيع المهام بين الأفراد القياديين مما يسهل عملية التنفيذ، و يسرع بوتيرة العمل الحزبي في مختلف المجالات، و كافة القطاعات المنتظمة في الحزب. و القيادة الجماعية تكون المفاوض الجماعي لدى مختلف الجهات التي يصارعها الحزب الثوري و خاصة أجهزة الطبقة الحاكمة مما يحول دون سقوط القيادة في فخ المساومة الذي يسقط فيه القادة الانتهازيون، و من شروط القيادة الجماعية :
1) امتلاك الرؤيا الشمولية للأمور الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية والسياسية على المستوى الإقليمي و القومي و العالمي. و هذه الرؤيا لا تتأتى إلا بالتشبع بالفكر العلمي و التمرس على توظيف المنهج العلمي.
2) القدرة على امتلاك آليات الصراع في مختلف مستوياته، لأنه بدون امتلاك الآليات لا تستطيع القيادة إدارة الصراع الطبقي في المجتمع، كما لا تستطيع قيادة الحزب في اتجاه قيادة الشعب الكادح نحو انتزاع حقوقه.
3) القدرة على إحباط مختلف المؤامرات التي تدبرها الطبقة الحاكمة، و أحزاب البورجوازية الصغرى، و اليسار المغامر ضد الحزب الثوري، و القدرة على كشف ممارسات المتآمرين أمام الجماهير الكادحة لاشراكها، و لجعلها تساهم بشكل فعال في حماية حزبها الثوري حتى لا يبقى هذا الحزب مفصولا عن جذوره الطبقية.
4) القدرة على امتلاك احترام و تقدير المناضلين الحزبيين الذين يقفون وراءها، و هذا الاحترام و التقدير لا يتأثر إلا بالتزام القيادة بالقرارات المعبرة عن إرادة و رغبة المناضلين مما يشعر كل عضو في الحزب انه ليس تابعا لتلك القيادة بقدر ما هو عضو في الحزب يساهم في التقرير و التنفيذ.
5) الحرص على تعميم الإعلام الحزبي على جميع المناضلين حتى تسود المكاشفة بين جميع المناضلين، و حتى لا يبقى هناك احتكار للمعرفة.
6) الحرص على امتلاك أداة أو أدوات إعلامية حزبية جماهيرية تمكن الحزب من امتلاك مكانة مرموقة بين الجماهير، و تجعل مواقف الحزب من مختلف القضايا معروفة في أوساط الجماهير الكادحة.
7) القدرة على ضبط التنظيم و تحريك مختلف الأجهزة بصفة مستمرة و تجنيدها في الشروط الموضوعية الدقيقة التي تقتضي عملية التجنيد تلك حتى يستطيع الحزب الاستفادة من مختلف المحطات النضالية التي تقوم بها الجماهير الكادحة.
8) العمل على تصريف البرنامج المرحلي عن طريق خلق الشروط الموضوعية، أو إنضاج ما هو موجود منها بهدف استنفاذه، و الوصول بالحزب إلى ضرورة صياغة برنامج مرحلي آخر يناسب الشروط الجديدة، و يكون أرضية لتحريك الجماهير الكادحة و التسريع بنضالاتها نحو تحقيق الهدف الاستراتيجي.
سمات البرنامجين الاستراتيجي و المرحلي :
فما هي سمات البرنامجين الاستراتيجي و المرحلي ؟
إن البرنامج، أي برنامج هو عبارة عن مجموعة من الأهداف التي يسعى التنظيم للوصول إليها على المدى البعيد أو القريب أو المتوسط، يعني أن منها ما لا يتحقق إلا بعد نضالات مريرة و طويلة، و بعد تقديم تضحيات عظيمة، و ما يمكن تحقيقه على المدى القريب وفق برنامج مدقق و محدد، و في شروط ذاتية و موضوعية تساعد على تنفيذه.
و الشق الأول من البرنامج هو الشق الاستراتيجي، و هو بالنسبة للحزب الثوري : تحقيق المرحلة الاشتراكية بعد تحطيم الهياكل الرأسمالية أو الرأسمالية التبعية أو الإقطاعية أو الاستعمارية. و أهم سمات المرحلة الاشتراكية :
1) سيادة هيمنة الطبقة العاملة و حلفائها على السلطة عن طريق سيطرة الحزب الثوري سيطرة نهائية على هذه الأجهزة حتى يمتلك القدرة على توظيف الجهازين التشريعي و التنفيذي للقضاء نهائيا على علاقات الإنتاج الرأسمالية، أو الرأسمالية التبعية، و إحلال علاقات الإنتاج الاشتراكية محلها، و هو ما عرف، و يعرف في أدبيات الاشتراكية العلمية بدكتاتورية البروليتاورية الذي يعتمده البعض للنيل من النظام الاشتراكي باعتباره نظاما يتنافى و الممارسة الديمقراطية. و الواقع غير ذلك فالطبقة العاملة عندما تصل إلى مرحلة المجتمع الاشتراكي لا تكون ممارستها إلا ديمقراطية، و إلا فإن التفاف الكادحين حول هذا النظام و حمايتهم له و دفاعهم عنه سيضعف و سيصبح انهيار التجربة الاشتراكية اكثر ورودا. و على خلاف ما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق، فإن ممارسة الديمقراطية الحقيقية هي السبيل إلى تحصين المجتمع الاشتراكي من الانهيار، لأن النظام الإمبريالي لا يمكن أن يطمئن على وجوده في ظل وجود دولة اشتراكية قوية. و عندما نقول الديمقراطية الحقيقية، فإننا نعني بها إشراك الجماهير الكادحة عن طريق ممثليها الحقيقيين في التقرير و التنفيذ، و مراقبة الحاكمين. و عملية الإشراك هذه لا تأتي إلا بتوفير الحريات العامة، السياسية، و النقابية، و حرية التعبير و الانتماء و لكن إلى جانب هذه الحريات لابد من تمتع مجموع أفراد الشعب الكادح بمختلف الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية حتى تبقى الأمور واضحة أمام الجميع، و بمساهمة الجميع، لأنه بذلك الوضوح سيعمل الجميع على محاصرة المد البورجوازي بطريقة ديمقراطية لا مجال فيها للممارسة الستالينية التي أساءت إلى التجربة الاشتراكية. لأن الستالينية في عمقها تعني سيطرة الفرد على الحزب و على السلطة. و بذلك تكون متناقضة مع دكتاتورية البروليتاريا التي تعني سيطرة طبقة مع حلفائها على أجهزة السلطة، و هذه الطبقة هي الطبقة العاملة، و هؤلاء الحلفاء هم الفلاحون الفقراء و المعدمون، و المثقفون الثوريون، و شرائح البورجوازية الصغرى المتضررة، و العاطلون و كل من له مصلحة في التغيير، و هؤلاء هم مجموع أفراد الشعب الكادح الذين يستحيل أن يكونوا غير ديمقراطيين، لأن استمرار عيشهم الكريم، و تمتعهم بمختلف الحقوق لا يكون إلا في إطار الديمقراطية، أي أن الطبقة العاملة عندما لا تكون ديمقراطية فإنها تكون ضد نفسها، و ضد سائر أفراد الشعب الكادح، و بذلك تفقد مبرر سيطرتها على السلطة.و لذلك فقطع الطريق أمام ظهور الممارسة الستالينية يقتضي الحرص على تكريس مبدأ القيادة الجماعية الذي ينقل من مستوى قيادة الحزب إلى مستوى قيادة الدولة.
2) الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، ذلك أن الغاية من السيطرة على الأداة الطبقية ليس هو وصول الحزب الثوري إلى السلطة كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب الانقلابية اليمينية المتطرفة أو اليسارية المغامرة، بل إن الغاية من الوصول إلى السلطة هو توظيفها في تقويض علاقات الإنتاج الرأسمالية، أو الرأسمالية التبعية أو الاستغلالية بصفة عامة، و تعويضها بعلاقات الإنتاج الاشتراكية، و ذلك بتحويل وسائل الإنتاج من ملكية الخواص إلى الملكية الجماعية.
فما هي الملكية الجماعية ؟ إن هذا المفهوم يسلط عليه من قبل البورجوازية الكثير من التضبيب، و لذلك فهي تطلقه على ملكية الدولة، أو ملكية الهيآت ذات الطابع المحلي أو الوطني. و ملكية كهذه لا نستطيع أن نفرق بينها و بين ملكية الخواص، لأن الغاية منها هي تحقيق المزيد من الأرباح عن طريق الحصول على اكبر قدر ممكن من فائض القيمة. و لذلك فهي تؤكد ما يصطلح على تسميته في أدبيات الاشتراكية العلمية برأسمالية الدولة التي تكون في قبضة حزب يدعي تبنيه الاشتراكية العلمية كما هو الشأن بالنسبة للعديد من الأحزاب التي حكمت الأقطار العربية. و موقف الجماهير الشعبية و خاصة الطبقة العاملة من هذه الملكية كموقفها من ملكية الخواص، لأنها تعاني في الحالتين معا من كافة أشكال الاستغلال. و لذلك فالملكية الجماعية يتحدد مفهومها من خلال اشراك الجماهير ذات المصلحة في التغيير في هذه الملكية حتى يتم قطع الطريق على جهاز الدولة الذي قد يلجأ في يوم من الأيام إلى بيع تلك الوسائل إلى الخواص كما يحصل في العديد من الدول و خاصة منها الدول الاشتراكية السابقة تلبية لرغبة المؤسسات الإمبريالية الدولية. و الوسائل التي تشملها هذه الملكية هي الوسائل التي لا تقطع أمام المبادرة الفردية و الخلاقة التي تدفع بالعديد من الناس إلى العمل لحسابهم الخاص دون الانخراط في مؤسسة من المؤسسات.و هؤلاء الأشخاص يشكلون قطاعا عريضا من المجتمع تجب حمايتهم عن طريق تنظيمهم في تعاونيات حرفية أو تجارية، أو زراعية أو مهنية، أو خدماتية، و إلا فإن النظام الاشتراكي إذا قضى على هؤلاء و حولهم إلى طبقة عاملة فإنه سيعمل على إنتاج نقيضه كما حصل في دول أوربا الشرقية. إن الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج يجب أن تنبثق عن حوار معمق داخل الحزب و خارجه، و في إطار المنظمات الجماهيرية المختلفة، و من خلال المؤسسات التمثيلية، و المحلية لتحديد الصيغة التي يجب اتباعها لاشراك الجميع، و بطريقة ديمقراطية، و دون إلحاق الضرر بأي فئة من فئات الكادحين، و دون أن تكون الهيمنة لفئة دون سائر الفئات على أن يكون المبدأ : “على كل حسب قدراته، و لكل حسب حاجته” لأنه بهذا المبدأ تقطع الطريق أمام تبرجز ذوي الكفاءات العليا في الوقت الذي يلزمون فيه بالقيام بواجبهم تجاه المجتمع.
3) الوقوف في وجه النظام الإمبريالي العالمي :
أ- اقتصاديا : عن طريق بناء الاقتصاد الاشتراكي بناء سليما مسايرا لتطور المجتمع الاشتراكي من جهة، و لتطور الهيمنة الإمبريالية على العالم من جهة أخرى.
ب- سياسيا : عن طريق إيجاد مؤسسات ديمقراطية صحيحة تمثل مختلف فئات الشعب الكادح تمثيلا حقيقيا.
ج- ثقافيا : عن طريق إيجاد ثقافة تتفاعل فيها مختلف الرؤى و التصورات حتى يساهم الجميع في عملية الإثراء دون أن يلجأ الحزب إلى فرض وجهة نظر طبقية أو فكرية على المثقفين، بل عليه أن يحمي التعدد الثقافي و أن يعمل على إيجاد ثقافة اشتراكية ديمقراطية، مستفيدا من مختلف العطاءات الثقافية ذات الطابع الإنساني، و كاشفة عن الجوانب السلبية للثقافة الرأسمالية المبتذلة، و للثقافات التلفيقية التضليلية التي تنتجها الشرائح البورجوازية الصغرى لعرقلة تطور الثقافة العمالية بقصد إعاقتها عن الارتقاء إلى مستوى مواجهة الثقافة الرأسمالية.
د- عسكريا : عن طريق بناء الأدوات و التكنولوجيا العسكرية، و بناء جيش في مستوى التصدي لجيوش النظام الإمبريالي العالمي لحماية البناء الاشتراكي، و الدفاع عن قلاع الاشتراكية في العالم. لكن قبل الوصول إلى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي بسماته هذه لابد من تحقيق برنامج أو أهداف مرحلية تتسم بالسمات الآتية :
1) أن تكون هذه البرامج و تلك الأهداف قابلة للتحقيق، أي مبنية على دراسة علمية ملموسة للواقع الملموس كما يقول الشهيد عمر بنجلون، لأنه بدون تلك الدراسة سوف توضع البرامج اعتمادا على الخيال، أو اعتمادا على قراءة الطبقة الحاكمة للواقع كما تفعل أحزاب البورجوازية الصغرى. و الحزب الذي لا يمتلك نظرية عن الواقع الذي يتحرك فيه يعجز عن وضع برنامج مرحلي قابل للتحقيق، و عجزه ذلك يقيم هوة سحيقة بينه و بين الجماهير الشعبية الكادحة التي لا تقتنع إلا بما هو ملموس، لأنها تكون منشدة للواقع اكثر من غيرها، ولأن تحقيق البرنامج على صعيد الواقع يكسب الحزب الثوري جماهيرية واسعة، و إمكانية التوسع و الاحتضان من قبل الجماهير.
2) أن يرتكز البرنامج المرحلي على اهتمامات، و قضايا الكادحين الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، حتى يضمن إمكانية تحريضهم للقيام بنضالات مطلبية و سياسية في شروط يعمل الحزب على إنضاجها، و بدون التركيز على اهتمامات و قضايا الكادحين يكون قد انفصل عنهم، واخذ يطرح أمورا لا يفهمونها تكلفه الكثير من الجهود غير مضمونة النتائج إن لم تكن هذه النتائج سلبية تدخل الحزب في صراع مع الكادحين.
3) أن يراعي البرنامج المرحلي الشروط الذاتية للحزب، و الشروط الموضوعية التي يتحرك فيها محليا و قوميا و عالميا، لأنه بدون مراعاة تلك الشروط قد ينعكس البرنامج على الحزب سلبا، و يجعله منحصرا على نفسه متقوقعا داخل هياكله، و مراعاة الشروط تقتضي معرفة الذات، و معرفة الواقع بكل أبعاده، و بمختلف تجلياته لامتلاك القدرة على اختيار العمل المناسب للمكان المناسب، و في الزمن المناسب، و حتى يكون ذلك العمل مجديا للحزب و للجماهير الكادحة. و معرفة الواقع تقتضي المواكبة المستمرة لمختلف المستجدات التي تستدعي الإحاطة بها، و إدراك شروط إنتاجها، و معرفة سبل التحكم فيها.
4) أن يكون البرنامج المرحلي مرشدا لعمل المناضلين الحزبيين في مختلف المنظمات الجماهيرية النقابية، و الثقافية و الحقوقية، أي أن يجد فيها كل مناضل ما يوجه عمله.
5) أن يكتسي البرنامج صفة الشمولية في التعامل مع الواقع، و أن لا يكتفي بالجزئيات الموكولة للمنظمات الجماهيرية.
6) أن يكون أرضية لإشاعة الأيديولوجية الاشتراكية العلمية في المجتمع و خاصة في صفوف الشباب، لأنهم اكثر استعدادا لاستيعابه و العمل على تحقيقه.
7) أن يحمل بين طياته خطابا تحريضيا، لأنه بدون ذلك الخطاب التحريضي سوف لا تستجيب الجماهير لشعارات الحزب و برامجه.
8) أن يعكس رغبة الجماهير في تغيير الواقع حتى تجد فيه ذاتها و إرادتها مما يساعد على استجابتها.
9) أن يصب البرنامج في اتجاه إنضاج الشروط لتحقيق البرنامج الاستراتيجي.
10) أن يربط بين تحرير الإنسان، و تحقيق الديمقراطية في المجتمع، و السعي إلى تحقيق الاشتراكية.
11) أن يكشف عن الممارسات الاستغلالية للطبقة الحاكمة، و أن يعري الممارسات الانتهازية لأحزاب البورجوازية الصغرى.
12) أن يطرح البديل الذي يختاره الحزب اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا.
13) أن يجعل الجماهير الكادحة تلتف حوله.
14) أن يكون قابلا للتفاعل مع ما هو إيجابي في الساحة السياسية، و أن يستقطب حوله الأحزاب و المنظمات التقدمية مما يجعل منه أرضية لقيام جبهة وطنية للنضال من اجل الديمقراطية، لأن الحزب الثوري ليس وحده في الساحة.
15) أن يكون البرنامج في مستوى قيادة الحزب لنضالات الجبهة الوطنية للنضال من اجل الديمقراطية.
16) أن يكون معبرا عن تراكمات نضالات حركة التحرر الوطني محليا و قوميا و عالميا.
17) أن يكون أساسا لحصول تراكمات نضالية في المستقبل.
18) أن يكون منطلقا لانجاز مقالات و عروض تحليلية راهنة تساهم في توضيحه للجماهير الكادحة.
هذه فقط بعض سمات الهدف الاستراتيجي و الأهداف المرحلية التي تساعدنا على استيعاب مضمون برنامج الحزب الثوري الذي يتميز عن الأحزاب أولا و أخيرا بنوعية مناضليه الذين يتصفون بالتواضع و الاستعداد للبذل و التضحية و العطاء الذي لا ينضب معينه، هؤلاء المناضلون الذين يذوبون في الحزب و يتشخص فيهم الحزب، منكرين لكل ما هو ذاتي باعتباره من أسباب عدد من الانحرافات التي تلحق حركة التحرر الوطني، فتعرقل سيرها في مرحلة معينة، لأنها تشغل المناضلين بها أو بالتصدي لها. و المناضلون الثوريون هم الذين يعملون على بناء الحزب الثوري، لأنه يستحيل أن يكون الحزب ثوريا بمناضلين يقدمون مختلف التنازلات للطبقة الحاكمة و يساومون على المبادئ بدعوى المحافظة على الذات، و تجنب الخسارة “التي لا تعوض” و كأن المنطق الذي يحكمهم هو منطق الربح و الخسارة الذي لا يتناوله إلا ممارسو التجارة و خاصة في مجال السياسة. إن الشهداء الذين يقدمهم الحزب الثوري لا يقدمهم اعتمادا على منطق الربح و الخسارة بقدر ما يقدمهم اعتمادا على منطق التضحية، و لولا تضحياتهم التي تبلغ مداها باستشهادهم ما امتلك الحزب الثوري شرعية ثوريته في الساحة الجماهيرية، لأن الشهداء يصبحون رموزا للتضحية في الوقت الذي يصبح المساومون رموزا للانبطاح. و الفرق كبير بين أن يصير المناضل شهيدا، و بين أن يصير مساوما على آمال و آلام الجماهير الكادحة.
حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي كنموذج :
فهل يمكن أن نعتبر حزب الطليعة ثوريا ؟ و هل يمكن أن تتوفر فيه سمات الحزب الثوري ؟ إن حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي باعتباره استمرارا لحركة التحرير الشعبية، و الحركة الاتحادية الأصيلة و باعتباره شكلا متقدما من أشكال تطور حركة التحرر الوطني، يسعى باستمرار، و من خلال تاريخه، و نضالاته المريرة و تضحيات مناضليه و شهدائه، تسجيل محطات نوعية تتناسب و التطور النوعي الذي يعرفه المجتمع المغربي، كما تتناسب و عملية الفرز الطبقي داخل الحركة الاتحادية. فمنذ 59 إلى 62 إلى 71 إلى 78 ثم 83 و حزب الطليعة يتطور في اتجاه الارقى، من حزب يضم جميع الطبقات، و يفتقد الوضوح الأيديولوجي، و يتخذ له تنظيما يعكس الوضعية الطبقية و الأيديولوجية داخله، إلى حزب يقوم بالممارسة النقدية لذاته، و لتاريخه، و لعلاقته بالمجتمع المغربي. هذه الممارسة التي تنتج لنا تلك التحولات النوعية التي تعرف المقاومة لكل أشكال التحريف، و التضليل، كما تعرف في نفس الوقت مواقف رائدة تكلف الحزب الكثير من التضحيات الجسام خلال الستينيات و السبعينيات و الثمانينيات مقابل الحفاظ على هويته التي هي هوية حركة التحرير الشعبية في هذه البلاد. و منذ تكون الحركة الاتحادية و مناضلوه الأوفياء يسعون بكل إمكانياتهم التنظيمية و الأيديولوجية و السياسية لجعل الحزب حزبا ثوريا. إلا أن الشروط الموضوعية لقيام حزب ثوري كانت غير متوفرة، و على رأسها وجود طبقة عاملة كثيفة و واعية نظرا لطبيعة الاقتصاد المغربي إذ ذاك باعتباره اقتصادا زراعيا رعويا حرفيا، و تختفي فيه الصناعات الثقيلة التي توظف يدا عاملة بشكل مكثف، و ما هو موجود من الصناعات لا يعدو أن يكون استخراجيا أو تحويليا، و الطبقة العاملة التي كانت موجودة إذ ذاك كانت مرتبطة بالبادية و ذات حمولة فكرية سلفية. لذلك كان على المناضلين أن ينضجوا الشروط أولا. فكان الاختيار الثوري للشهيد المهدي بنبركة، و المذكرة التنظيمية للشهيد عمر بنجلون و قرارات 30 يوليوز 1972 المؤدية إلى قطع الطريق على الجهاز البرصوي، و المؤتمر الاستثنائي في يناير 1975 الذي تبنى بشكل رسمي الاشتراكية العلمية التي أصبحت أيديولوجية الحزب مما ساهم إلى حد كبير في جعل المناضلين الحزبيين يتشبعون بالفكر الاشتراكي العلمي الذي اصبح يوظف في تحليل الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية للبلاد، و الذي اصبح كذلك منطلقا للتفكير في بناء الحركة الاتحادية بناء يتناسب و تبني الاشتراكية العلمية التي تعتبر في نفس الوقت أيديولوجية الكادحين و في مقدمتهم الطبقة العاملة. و هكذا يأتي تبني الحزب لهذه الأيديولوجية في شروط عرف فيها المجتمع المغربي تحولا من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي و اتساع قطاع الخدمات، و رسملة قطاع الفلاحة، و تحديثه ليلبي حاجيات البورجوازية المغربية التابعة، إلى التراكم الرأسمالي، و الربح السريع، كما يأتي بعد الحسم مع الجهاز البيروقراطي، و العديد من الشرائح الطفيلية، و الإقطاعية ليدخل في صراع من نوع آخر مع شرائح البورجوازية الصغرى التي توظف جميع الإمكانيات البشرية و الأيديولوجية التلفيقية لتحريف الحزب عن خطه الصحيح، فبرز إلى السطح شيئا فشيئا صراع بين خطين متناقضين : خط نضالي ديمقراطي و خط انتخابي. و قد ساد هذا الصراع أشغال المؤتمر الوطني الثالث الذي اصدر بيانا يشكل برنامجا مرحليا. و بعد ذلك بدأت الهوة تتسع بين الخطين : الخط الانتخابي الذي يمثله المكتب السياسي، و الخط النضالي الديمقراطي و يقوده أعضاء من اللجنة الإدارية. فبدأ التوقيف و الطرد من مختلف المستويات التنظيمية، و خاصة في صفوف الشبيبة، و بدأ المكتب السياسي يعرقل اجتماعات الأجهزة التقريرية، و يعطل تنفيذ مقررات المؤتمر الوطني الثالث. و في مارس 1982 يشرع المكتب السياسي في طرد أعضاء اللجنة الإدارية الممثلين للخط النضالي الديمقراطي، و أعضاء العديد من الكتابات الإقليمية ليتوج عمله باستقدام الشرطة للقبض على أعضاء اللجنة المركزية الشرعيين للحزب ليتم بذلك الحسم مع الخط الانتخابي.
إن الخط النضالي الديمقراطي هو الذي انتصر في محطة 8 ماي 1983، و انتصاره يعني :
1) انتصار الاشتراكية العلمية التي هي أيديولوجية الطبقة العاملة.
2) انتصار الطبقة العاملة المغربية لأن الصراع داخل الاتحاد الاشتراكي افرز لها حزبها الذي يتبنى أيديولوجيتها.
3) انتصار التصور التنظيمي الثوري الذي يخضع لضوابط و قواعد معينة تحكم العلاقات بين المناضلين و تمنعهم من الانفلات و التسيب، و الحلقية من اجل خلق الوحدة التنظيمية المعبرة عن الوحدة الأيديولوجية.
4) انتصار الموقف السياسي الصحيح الذي اتخذ بناء على تحليل الحزب الملموس للواقع الملموس ضد المواقف المتذبذبة المتخاذلة المبنية على المساومة و الحسابات المركنتيلية الضيقة، و ممارسة التضليل على الطبقة العاملة و كل الكادحين.
5) انتصار التطور الذي حاول الخط الانتخابي كبحه بواسطة التنظيم، و بذريعة الحفاظ على وحدة الحزب.
6)انتصار الديمقراطية الحزبية الداخلية في تفاعلها مع النضال من اجل الديمقراطية ككل.
7) انتصار الأمل في بناء حزب قادر على قيادة الصراع في مختلف مستوياته.
8) انتصار التاريخ الذي لا يعترف إلا بالتقدم و التحول نحو الارقى.
فمحطة 8 ماي 1983 لم تأت باختيار المناضلين الأوفياء، بل جاءت نتيجة شروط ذاتية و موضوعية متفاعلة تفرض ضرورة وقوع فرز معين، في اتجاه معين. و لذلك لا نشاطر رأي من يقول أن محطة 8 ماي ماهي إلا محطة مفتعلة أريد بها ضرب الحزب و تقسيمه و شرذمته مما لا يفيد الا الطبقة الحاكمة، بل نذهب إلى أن هذه المحطة أعطت دفعة قوية لحركة التحرر الوطني على صعيد المغرب، و على صعيد حركة التحرر الوطني العربية و العالمية، و هذا ما تؤكده مختلف المحطات النضالية رغم الحصار المضروب على حزبنا من قبل الأحزاب التي تدعي الوطنية و الاشتراكية، كما تؤكده الوتيرة التي يسير عليها التنظيم منذ 8 ماي 1983 و إلى يومنا هذا سواء على مستوى الهيكلة المحلية و الإقليمية و الوطنية، أو على مستوى البناء الأيديولوجي، و التحليل السياسي مما يعطي لمناضلي حزبنا قوة الفعل و التفعيل في الساحة الجماهيرية.
ففي ماذا تتجلى سمات الحزب الثوري في حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ؟
1) حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي جاء إفرازا لحركة الصراع داخل الحركة الاتحادية كاستمرار لحركة التحرير الشعبية.
2) و هو في تنظيمه ينحو إلى أن يكون تنظيما يستمد مبادئه و أسسه من مبادئ و أسس الاشتراكية العلمية، و يعتمد مبادئ المركزية الديمقراطية بالنقد و النقد الذاتي، و خضوع الأقلية لقرارات الأغلبية، و القيادة الجماعية، و المحاسبة الفردية و الجماعية.
3) و أيديولوجيته هي الاشتراكية العلمية التي هي أيديولوجية الطبقة العاملة.
4) و موافقة السياسية مستمدة من برنامجه الاستراتيجي و المرحلي.
5) يسعى إلى امتلاك نظرية عن المجتمع المغربي عن طريق إغناء مقررات مؤتمره الوطني الرابع والخامس .
6) يسعى في ممارسته التنظيمية و الأيديولوجية و السياسية إلى الارتباط بشرائح الكادحين و في مقدمتهم طليعة المجتمع المغربي الطبقة العاملة.
7) برنامجه الاستراتيجي تحقيق المجتمع الاشتراكي، و برنامجه المرحلي يهدف إلى تحقيق الديمقراطية الحقيقية في المجتمع، التي تتمحور حول الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية، و بالممارسة الديمقراطية يمكن تثوير المجتمع الكادح عن طريق امتلاك الوعي الطبقي.
إلا أن مكونات التنظيم داخل حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي يغلب عليها طابع الشرائح البورجوازية الصغرى. ففي صفوفه توجد مختلف الشرائح الاجتماعية من عمال و فلاحين فقراء، و تجار و صناع و حرفيين صغار بالإضافة إلى كادحي القطاعات الخدماتية و العاطلين، و غالبا ما نجد أن القطاعات المهنية و الخدماتية هي التي تحتل مراكز القيادة، و ذلك ليس عيبا في حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، لأن المناضلين من مختلف القطاعات يقتنعون بالاشتراكية العلمية، و بضرورة بناء الحزب الثوري، و بالتركيز على ضرورة هيمنة الطبقة العاملة، و سعي كهذا من قبل مناضلي الحزب يعتبر حماية للحزب من التحريف الأيديولوجي و الانتهازية السياسية.
و نظرا للاعتبارات أعلاه فإننا نومن بأن حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي مشروع حزب ثوري، و إيماننا ذاك يعني المزيد من النضال، و المزيد من الارتباط بالجماهير الكادحة، و المزيد من العمل في صفوف المنظمات الجماهيرية، و الحرص على القيام بالمهام الموكولة إلى المناضلين في مختلف المستويات التنظيمية للوصول إلى بناء الاداة بناء تنظيميا و أيديولوجيا و سياسيا في نفس الوقت الذي يتم فيه تثوير الجماهير الشعبية الكادحة في المدن و القرى، و تقوم هذه الجماهير و من خلال منظماتها الجماهيرية النقابية و الحقوقية و الثقافية بتقرير النضالات اللازمة لفرض ممارسة ديمقراطية حقيقة، و جعل الطبقة الحاكمة تقدم التنازلات تلو التنازلات، و يبقى دور الحزب هو قيادة تلك النضالات، و توجيهها و التحكم فيها بواسطة برنامجه، و بواسطة مناضليه الذين يناضلون إلى جانب الجماهير مسترشدين ببرنامج الحزب حتى يزداد الحزب التحاما بها، و عندما يتحول الحزب فعلا إلى حزب ثوري يقود نضال الجماهير و يحيل مركز الطليعة بينها على مستوى الممارسة النظرية.
خــــــاتمة :
و خلاصة القول أن الحزب وحده لا يمكن أن يكون ثوريا لأن ثوريته ستبقى مفصولة عن الجماهير صاحبة المصلحة في الثورة، بل لابد لثوريته هذه أن تجد لها شرعية نضالية جماهيرية شعبية كادحة يتفاعل معها الحزب و يؤثر فيها. و إلا فإن الحزب الثوري سيبقى مفصولا عن الجماهير التي من واجبه كذلك أن يعلمها في إطار تلك العلاقة الجدلية بين الحزب الثوري و الجماهير الشعبية الكادحة. و فصل الحزب عن الجماهير معناه الحكم عليه بالانحسار داخل قوالب تنظيمية و أيديولوجية و سياسية جاهزة مما يؤدي بالضرورة إلى أن يصبح هذا الحزب في ذمة التاريخ أو يحاول البقاء اعتمادا على تحالفات تدخله في مساومات، و تقديم تنازلات ضدا على مصلحة الجماهير كما يحصل لبعض الأحزاب التي تدعي الماركسية اللينينية و تمارس عكس ما تدعيه.
كذلك نجد أن الجماهير الشعبية الكادحة (الطبقة العاملة و حلفاؤها) لا يمكن أن تكون ثورية بدون حزب ثوري، و لن تكون حركتها في هذه الحالة إلا عفوية محدودة بالزمان و المكان، و أي حركة من هذا النوع تكلف الجماهير الكادحة كثيرا، و لا تفيدها شيئا، لأنها :
1) تفتقد القيادة الثورية.
2) تفتقد التنظيم.
3) تفتقد وضوح الأهداف التي يراد تحقيقها.
4) تفتقد الرؤيا الشمولية.
و لأنها كذلك فهذه الجماهير لابد لها من :
1) التنظيم الذي يتخذ مستويين رئيسين :
أ- المستوى الجماهيري الصرف النقابي و الثقافي و الحقوقي وفق المبادئ المتعارف عليها.
ب- المستوى السياسي الذي لا يصل إليه إلا العناصر الأكثر استعداد للتضحية من الجماهير الكادحة.
و الفصل بين المستويين يعتبر ضروريا لإكساب الجماهير قدرة على الحركة المنظمة الهادفة.
2) تحديد الهدف أو الأهداف التي يراد تحقيقها. و هذه الأهداف تختلف باختلاف التنظيم، فالتنظيم الجماهيري النقابي له أهدافه، و التنظيم الحقوقي له أهدافه، إلا أن أهداف التنظيم الجماهيري لا تتجاوز أن تكون إصلاحية لأنها مرهونة بتحسين أوضاع الجماهير الشعبية في ظل النظام القائم أما التنظيم السياسي، تنظيم الحزب الثوري فأهدافه تتخذ صيغتين : صيغة الأهداف المرحلية التي لا تتجاوز تحسين الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الحقوقية و السياسية في ظل النظام القائم بهدف جعل الجماهير الكادحة تمتلك القدرة على انتزاع حقوقها مما يفجر قدراتها المادية و المعنوية فتشعر بإمكانياتها الضخمة من اجل انتزاع المزيد من المكاسب. و صيغة الأهداف الاستراتيجية المتمثلة في الوصول إلى السلطة و القضاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية، و تحقيق المجتمع الاشتراكي. و الربط في المنظمات الجماهيرية بين النقابي و السياسي، و الحقوقي و السياسي، و الثقافي و السياسي، يعتبر معبرا إلى امتلاك الجماهير الشعبية الكادحة وعيها الطبقي الذي هو وعي جماعي يشد الجماهير إلى بعضها، فتحقق في الساحة وحدتها النضالية والأيديولوجية و السياسية و التنظيمية التي تؤهلها للارتباط بحزبها الثوري الذي سيكون بالضرورة هو القائد الفعلي لنضالات الجماهير الشعبية الكادحة.
فالعلاقة إذن بين الجماهير الكادحة و الحزب الثوري هي نفسها العلاقة بين الحزب الثوري و الجماهير و الفصل بين الجماهير و حزبها الثوري يؤدي بها إلى متاهات لا تخرج منها، و على رأسها متاهة التضليل الذي يعتبر اشد أنواع القمع لأنها تجعل الجماهير تجري وراء السراب في الوقت الذي تجني فيه الطبقة الحاكمة المزيد من المكاسب.
التعليقات مغلقة.