اقتصاد اجتماعي وتضامني أم عدالة اجتماعية؟! / منال الحبًاشي

منال الحبًاشي ( تونس ) – الثلاثاء 24/8/2021 م …




نشأة الاقتصاد الاجتماعي و التضامني:

إن الحديث عن الاقتصاد الاجتماعي و التضامني يحيلنا علي تقاليد وممارسات قد تبدو شبيهة به سنجد مثلا في العهود القديمة أو في العصر الوسيط أشكال تقليدية متعددة للنشاط التعاوني في كل المجتمعات الإنسانية. و كانت” المعونة” أو ” التويزة ” أو” الرغاطة” تجسم أنماطا متداولات للعمل التعاوني في بلدان شمال إفريقيا القائمة على الانتماء العشائري خاصة في مواسم الحرث والحصاد وجني الزيتون وغيرها من الأشغال والأعمال التضامنية، كانت الأُسَر المُوَسَّعَة (العشيرة أو القبيلة) تُوزّع على جميع أفراد الأسرة ما يجمعه الصيادون، ثم المُزارعون، بإشراف المُسِنِّين…حيث كانت مبادئهم تقتضي المُساواة وتوزيع المحاصيل والغنائم ، و هي ممارسات تضامنية تقليدّية عفويّة لا علاقة لها بالاقتصادي الاجتماعي والتضامني خلافا لادّعاء بعض الأطراف للتسويق لذلك .

تاريخيا، ظهر مصطلح الاقتصادي الاجتماعي والتضامني لأول مرة في فرنسا في القرن التاسع عشر كمفهوم وكمجموعة من الممارسات والمنظمات، و تعود الإشارة من الناحية النظرية للاقتصاد الاجتماعي و التضامني إلى القرن التاسع عشر، ولكنه لا يطفو على السطح إلا في الثلث الأخير من القرن العشرين   ،حيث قامت في سبعينيات القرن الماضي منظمات تمثل التعاونيات والتعاضديات والجمعيات في فرنسا بتأسيس >لجنة الاتصال الوطنية للأنشطة التعاونية والتعاضدية <، وفي سنتي 1977-1979 نظمت التعاونيات والتعاضديات والجمعيات مؤتمرات تحت رعاية اللجنة الاقتصادية والاجتماعية الأوروبية ، وفي جوان 1980 نشرت هذه اللجنة ميثاق الاقتصاد الاجتماعي الذي عرف الاقتصاد الاجتماعي على أنه” مجموعة من المنظمات التي لا تنتمي إلى القطاع العام، وتعمل بطريقة ديمقراطية، ويتساوى فيها الأعضاء في الواجبات وفي الحقوق، ويخضعون لنظام خاص في تخصيص وتوزيع الأرباح، ويوجهون فوائض الأرباح لخدمة الأعضاء والمجتمع”. ثم اختفى هذا المفهوم بعد الحرب العالمية الثانية بسبب تطبيق برامج إعادة الإعمار أو ما أاصطُلِح على تسميته “دولة الرفاه” الذي وَفَّر العمل رغم انخفاض الرواتب وسوء ظروف العمل والسّكن .

في العصر الحديث اقترن بروز القطاع التعاوني وتناميه بولادة الثورة الصناعية والتحولات التي أحدثتها على مستوى التركيبة الاجتماعية خاصة بأوروبا وأمريكا الشمالية، التي انتقلت من نظام إنتاج زراعي إقطاعي إلى نظام إنتاج صناعي رأسمالي خلق طبقة اجتماعية جديدة هي الطبقة العاملة التي كان عليها أن تواجه أوضاعا سمتها الأساسية الفقر والهشاشة -بفعل الاستغلال الفاحش لقوة عملها -والأزمات الدورية التي يشهدها النظام الرأسمالي. فتشكلت ميدانيا في فرنسا الجمعيات التعاونية وتعاضديات الإنتاج والاستهلاك (كالمخابز ومحلات تجارة التّجزِئة و قطاع الإنتاج الزراعي…) بهدف تخفيف الأضرار الاجتماعية التي لحقت بالفئات الكادحة وذلك من خلال توفير ما تحتاجه من الغذاء والعلاج والسكن وغيرها من الحاجيات الأساسية بأسعار في متناوله لإعادة إنتاج قوة عملها وشكل تضاعف عدد المتعاضدين من خلال انتشار تعاضديات الاستهلاك المدعومة من الدولة   مناخا ملائما لتطوير منظومة الاقتصاد الاجتماعي على المستوى المفاهيمي والمؤسساتي والتشريعي، في تونس كان برنامج محمد علي الحامي مُؤَسس أول نقابة عُمّالية تونسية، سنة 1924 يتضمّن إنشاء تعاضديات عُمّالية تُوفِّرُ ما يحتاجه العمال بأسعار منخفضة، بهدف حرمان التجار والمُضاربين من الإستحواذ على رواتب العُمّال..

الاقتصاد الاجتماعي و التضامني فكرة نيولبرالية :

بدأت في السبعينيات الأفكار النيوليبراليّة بالانتشار و حيث تتبنى النيولبرالية فلسفة تنادى بفكرة النظام التلقائي للسوق الحرة المدارة بأقل قدر من التنظيم الرسمي أي تحجيم دور الدولة و تخليها طوعًا عن دورها في الاقتصاد، بحيث تقوم بأقل الوظائف فتقتصر علي السهر على المرافق الأساسية الثلاثة و هي الأمن الخارجي و الأمن الداخلي و القضاء أو ما يعبر عنه بوظيفة الحارس الليلي و ترك كل ما عدا ذلك لآليات السوق و السماح له بأن يتخذ القرارات الاجتماعية والسياسية الكبرى، و إطلاق الحرية الكاملة لكبريات الشركات، و قمع النقابات وتقليص الحماية الاجتماعية للمواطنين ، فالنيوليبرالية تقوم على تمكين آلية السوق من أن تتحكّم بمصير البشر أي يجب على الاقتصاد أن يُملي قوانينه على المجتمع .

و تماهيا مع هدف الاستمرار في نشر هذه الاديولوجية في كامل العالم دعا صندوق النقد الدولي لرفع الدعم في البلدان العربية وخصخصة القطاع العام. ويكتشف المُتأمّل في فكرة الخصخصة أن الدعوات لتطبيقها ليس لفاعليتها الاقتصادية ولا لتحسين الخدمات وإنما ھي لنقل الثروة من المال العام إلى القطاع الخاص وللأثرياء، بدل أن تستثمر الدّولة المال العام في البنية التحتية وفي القطاعات الإقتصادية المُنتجة والخدمات الأساسية، وإعادة توزيعه بهدف القضاء على الفقر.

و يمكن تلخيص أهداف الخصخصة بالإستحواذ على الملكية الجماعية لبعض القطاعات الهامة و الأساسية لحياة الأفراد و إهدائها للرأسماليين ليتمكنوا من التحكم في حياتنا و هو ما أدي إلي تفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعاتنا اثر التسريح المكثف للعمال و الأجراء الذي ساهم في ارتفاع حاد في معدلات البطالة ، وزعزعة المؤسسات الصغرى والمتوسطة والتوسع الخطير للاقتصاد الموازي والتهريب وتزايد الفقر والإقصاء لدى الفئات الكادحة وتدهور الظروف المعيشية للطبقة الوسطى التي باتت رقعتها الاجتماعية تتقلص يوما بعد يوم .

و يربط صندوق النقد الدولي مشروع إلغاء الدعم بدعواته لتنفيذ أو توسيع شبكات الأمن الاجتماعي التي تستهدف الفئات الضعيفة اقتصاديا كوسيلة للتعويض عن الآثار السلبية لإزالة الدعم علي الفقراء و يسعى إلي توسيع نطاق برامج الاقتصاد الاجتماعي بمساعدة الحكومات المحلية و المنظمات غير الحكومية كما يسعى للحصول على إجماع حول هذه الفكرة وبالنتيجة سيقع تقسيم العمل على مجال نشاط المنظمات فكل منظمة تستهدف الفئة التي تتناسب مع نشاطها لتقدم لها المساعدات كبديل لنظام الدعم و لتضمن ولو وقتيا عدم قيام احتجاجات .

وفي إطار تنفيذ هذه البرامج في تونس أطلقت مبادرة وطنية من أجل قانون أساسي للاقتصاد الاجتماعي و التضامني و هذه المبادرة بدعم من “منظمة التجديد و الاقتصاد الاجتماعي بالمتوسط “. بعد انعقاد ندوة ثلاثية حول “الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كمحرك للتنمية والتشغيل” جمعت في ماي 2015 الحكومة مع الشريكين الاجتماعيين الممثليْن للشغالين (الاتحاد التونسي للشغل ) وأرباب العمل( الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة و الصناعات التقليدية )، برعاية من المكتب الدولي للشغل و توصلت هذه الندوة لضرورة إرساء إطار تشريعي للاقتصاد الاجتماعي و التضامني و كلف الاتحاد العام التونسي للشغل بدعم مالي من المكتب الدولي للشغل بإعداد مشروع قانوني متعلق بالاقتصاد الاجتماعي التضامني وتم تسليمه للحكومة في 2016 لعرضه على أنظار مجلس نواب الشعب و تمت المصادقة عليه في 30 جوان 2020 .

و نظرا لافتقار الأحزاب الحاكمة و كذلك المعارضة لبرامج اقتصادية دفعت جاذبية هذا الحل المنقض المتمثل في “قانون الاقتصاد الاجتماعي و التضامني ” إلى الإجماع علي هذا القانون سواء من اليمين كحركة النهضة و حزب آفاق تونس، أو من اليسار حيث كان الاقتصاد الاجتماعي و التعاوني أحد محاور البرنامج الانتخابي للجبهة الشعبية.

و حيث تاريخيا ارتبطت الخيارات الإقتصادية التونسية بداية من اتفاقية الاستقلال بعدم القدرة علي طرح مشروع إقتصادي مستقل عن الوضع الدولي نظرا لطبيعة النظام و مسألة التبعية التي هي مسألة هيكلية في نشوء و تكوين بلداننا العربية بشكل عام إضافة إلى الطبيعة التاريخية لتكون الرأسمالية تاريخيا في مركز مهيمن و أطراف تابعة و سعي المركز الدائم لتقويض كل تطور و تنمية في الأطراف لذلك تتعلق إذن الكثير من مسائل التنمية و توفير شروطها بحل مسألة التبعية و حقيقة أن بلدنا يفتقد للسيادة علي قراره الاقتصادي مما يجعل الخيارات الاقتصادية و الاجتماعية مفروضة غالبا عبر المؤسسات الدولية” البنك الدولي و صندوق النقد” لمزيد تكريس تبعية إقتصادية هيكلية تحرسها أنظمة و برجوازيات ترتبط مصالحها بشكل كبير بالمركز الرأسمالي وبدوام إقتصاد تابع و غير مستقل مثلا في الستينات ارتبطت سياسة التّعاضد بتحولات هيكليّة على صعيد بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي بعد الخروج من مرحلة إعادة البناء اثر الحرب العالمية الثانية .ذلك أنّ الدعوة للمكننة و لتوسيع الملكيات الزراعية و تجاوز تشتت الملكيات اقترنت بانتعاشة الصناعات المعملية في البلدان الرأسمالية بعد كبوة الحرب العالمية. و كانت هذه البلدان في حاجة لأسواق بحكم التّحولات الهيكلية للامبريالية لهذا فرضت أنماط تنمية قامت على الإصلاحات الزراعية لتكون هذه الدول المتخلفة سوقا تستوعب المُعدات  الفلاحية، فارتفع تصدير المواد المصنعة، ومن ضمنها وسائل الإنتاج الفلاحي، من قبل الدول الرأسمالية في الستينات وتحويل هذه البلدان التابعة إلى مزرعة لإنتاج ما تحتاجه البلدان الرأسمالية المتطورة (وليس لتلبية حاجات السّكّان المَحلّيّين)، واستنزاف المياه والموارد المحلّية، لتصدير الغذاء الرخيص… .

و بعد انتفاضة 2011 سعى صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدّولية والدّائنون،  بواسطة المنظمات غیر حكومیة ، إلى تعميم استعمال مصطلح “الاقتصاد الاجتماعي والتضامني”شيئا فشيئا وإبرازه كبديل اقتصادي و الهدف الأساسي هو تعميم السياسة النيولبرالية إي إلغاء الدعم الخصخصة التامة للقطاع العام من صحة و تعليم و الكهرباء و الماء … و الترويج الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على أنه رديف للعدالة الاجتماعية كما تم وصفه في الفصل الثاني من القانون المنظم للاقتصاد الاجتماعي و التضامني في تونس و انه اقتصاد بديل للاقتصاد الرأسمالي.

إلا أن العدالة الاجتماعية تفترض القطيعة مع الإطار النيولبرالي القائم علي أولوية القطاع الخاص و تعديل الخيارات السياسية الاقتصادية بحيث تضمن نظام اقتصادي يلبي حاجات عموم الشعب على خلاف الاقتصاد الاجتماعي و التضامني الذي يمثل شكل من المسكنات وسراب للعدالة الاجتماعية بالنسبة للفئات الفقيرة .

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.