الخبير الإقتصادي العربي غازي ابو نحل يكتب: عودة النمو… والتضخم

غازي أبو نحل* – الإثنين 6/9/2021 م …

* رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D




* الرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية

کشفت أحدث نسخة من استطلاع الظروف الاقتصادية العالمية (GSCS) الصادر عن جمعية المحاسبين القانونيين المعتمدين (ACCA) ومعهد المحاسبين الإداريين (IMA) أن مؤشرات الثقة العالمية شهدت انتعاشاً سریعاً وقوياً خلال الربع الثاني من عام 2021، مما يساهم في عودة النشاط الاقتصادي العالمي الى المستويات المسجلة قبل ظهور الجائحة في أواخر عام 2019.

ويرصد تقرير الظروف الاقتصادية العالمية، والذي يعتبر أكبر استطلاع اقتصادي دوري يشارك فيه أكثر من 1000 عضو من كبار المحاسبين والمختصين الماليين من جميع أنحاء العالم، الحجم الحقيقي للركود الاقتصادي العالمي الناجم عن تدابير الاستجابة لجائحة كوفيد 19، حيث يكشف التقرير عن كل من حالات تدهور مؤشرات الثقة الخاصة بكل منطقة منذ بداية تفشي الجائحة، وحالات ارتفاع مؤشرات الثقة المدفوعة بالتأثيرات المجمّعة لحملات التطعيم وبرامج التحفيز المالي المحلية.

يواصل الاقتصاد العالمي اكتساب المزيد من الزخم، ومن المرجح أن يشهد النصف الثاني من العام الجاري نمواً قوياً في الناتج المحلي الاجمالي. وبالنسبة لعام 2021 ككل، من المرجح أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي العالمي نمواً بواقع 6%، ويجسّد هذا الرقم انتعاشاً استثنائياً في أعقاب الانخفاض الكبير بنسبة 3.5% خلال العام الماضي. لكن سيتركز هذا النمو في الاقتصادات المتقدمة التي بلغت فيها مستويات التطعيم حدوداً تتيح تخفيف قيود التباعد الاجتماعي وعودة الظروف الاقتصادية إلى طبيعتها.

في الولايات المتحدة الاميركية، كشفت وزارة التجارة الامريكية عن نمو الاقتصاد الاميركي بوتيرة اسرع قليلًا مما كان يعتقد في الربع الثاني من العام، مما رفع مستوى الناتج المحلي الاجمالي متجاوزاً ذروة ما قبل الجائحة، حيث ارتفع مستوى الانفاق بفضل التحفيز المالي الكبير والتطعيمات المضادة لـ كوفيد-19. وأشارت الوزارة  الى زيادة بمعدل سنوي 6.6% متجاوزاً التوقعات والأرقام السابقة.

اما مجلس الاحتياط الفدرالي فقال “ان الاقتصاد الاميركي ما زال في مساره على الرغم من الزيادة  في الاصابات بفيروس كورونا” وتابع بعد اختتام اجتماع للسياسة النقدية “مع تحقيق تقدم في التطعيمات وسياسة قوية للدعم، فإن مؤشرات النشاط الاقتصادي والتوظيف تزداد قوة”.

في الأرقام التي تؤشر الى عودة النمو القوي للاقتصاد الاميركي،  قرار مجلس الاحتياطي للمرة الاولى منذ الازمة بخفض مشترياته من سندات الخزانة الأميركية البالغ ٨٠ مليار دولار، والاوراق المالية المدعومة برهون عقارية البالغة 40 مليار دولار، والتي كان يشتريها شهرياً للإبقاء على تكاليف الاقتراض طويلة الاجل منخفضة للمستهلكين والشركات، اضافة الى تراجع في معدلات البطالة والابقاء على سعر الفائدة عند مستويات الصفر في المئة.

في القارة الاوروبية استمر تسارع نمو اجمالي الناتج المحلي في منطقة اليورو خلال الربع الثالث. وسجلت المانيا اسرع نسبة نمو كما ارتفع نمو نشاط القطاع الخاص في ايطاليا لأعلى مستوى منذ ثلاثة اعوام ونصف، في حين سجّلت فرنسا واسبانيا ارتفاعات اقل.

 

بيانات هيئة أي أتش أي ماركت للابحاث التسويقية اظهرت ان القطاع الخاص في منطقة اليورو نما باسرع وتيرة منذ اكثر من 15 عاماً خلال شهر تموز/ يوليو الماضي، ويرجع ذلك الى نمو الانتاج الصناعي وتسارع وتيرة توسع نشاط قطاع الخدمات.

في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، لا بد من التوقف عند أمرين هامين:

الأول، التقرير الصادر عن البنك الدولي حول آخر المستجدات الاقتصادية لمنطقة الخليج، اذ توقع عودة اقتصادات مجلس التعاون الخليجي إلى تحقيق نمو كلي نسبته 2.2% في 2021 بعد عام من التعثر الاقتصادي. وجاء في التقرير الصادر تحت عنوان «جائحة كورونا والطريق إلى التنويع الاقتصادي» أن هذا النمو يدعمه تعافي الاقتصاد العالمي، وانتعاش الطلب العالمي على النفط وأسعاره العالمية.

وأشار التقرير إلى أن جائحة كورونا (كوفيد-19) وهبوط الطلب العالمي على النفط وأسعاره قد أصابا دول مجلس التعاون الخليجي بأزمة صحية وصدمة هزت أسواق السلع الأولية، مما أدى إلى انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة 4.8% في 2020.

ومن المتوقع أن يستمر عجز المالية العامة معظم فترة التقديرات، وأن تستمر الكويت والبحرين وعمان، وهي الدول التي سجلت أكبر عجز في الموازنات العامة في 2020 في تسجيل عجز طيلة السنوات ما بين 2021 و2023. ولكن بنسب من إجمالي الناتج المحلي أقل في 2023 مما كانت عليه في أثناء تراجع النشاط الاقتصادي في 2020.

لقد أدی تخفیض انتاج النفط وهبوط متوسط أسعاره إلى أدنى مستوى له في أربعة أعوام وهو 41.30 دولار للبرميل، إلى تقليص صادرات مجلس التعاون الخليجي من السلع والخدمات بنسبة 8.1% بالقيمة الحقيقية، وتحويل فائض الحساب الجاري البالغ 6.8% من إجمالي الناتج المحلي في 2019 الى عجز قدره 2.9% في 2020. ويعد إجمالي الناتج المحلي للقطاعات غير النفطية الآن أكبر نسبياً في كل دول مجلس التعاون مما كان عليه قبل عشر سنوات أو 20 سنة، ومع أن دول مجلس التعاون الخليجي فعلت الكثير العام الماضي لاحتواء أثار الجائحة على اقتصاداتها، فضلاً عن شراء اللقاحات في مرحلة مبكرة، فإنه ينبغي أن تستمر في إصلاح الأوضاع المالية لقطاعها العام. ويجب على المنطقة أن تقوّي سياساتها المتصلة بالمنافسة من أجل الاستفادة من مزايا الاتصالات السلكية واللاسلكية ورقمنة النشاط الاقتصادي.

يتعلق الأمر الثاني بتوقعات حول نمو أبرز اقتصادات المنطقة بالاستناد الى الأرقام المتوافرة والتقارير المنشودة.

في الامارات العربية المتحدة، من المتوقع ان يعود الاقتصاد الى مسار النمو في النصف الثاني من العام الجاري، ويقدّر أن يبلغ معدل النمو لكامل العام 2021، 1.2 في المائة،  قبل أن تتسارع وتيرته إلى 2.5 في المائة في 2022 و2023 بدعم من النفقات الحكومية واقامة معرض إكسبو 2020 في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.

وستستمر البحرين في الاعتماد على تدابير دعم المالية العامة في 2021 للتغلب على آثار الانكماش الاقتصادي الذي شهدته في 2020. ومن المتوقع أن يصل معدل النمو إلى 3.3 في المائة عام 2021، وأن يستمر على الوتيرة نفسها في الأمد المتوسط.

أما في الكويت، فستستمر الصادرات النفطية في تعزيز ديناميات النمو. ومن المتوقع أن ينتعش النمو الاقتصادي ليسجل مستوى معتدلا قدره 2.4 في المائة في 2021، قبل أن يرتفع في المتوسط إلى 3.2 في المائة عامي 2022 و2023.

وبالنسبة إلى عمان، توقع البنك الدولي أن يتعافى الاقتصاد في 2021 بمعدل نمو قدره 2.5 في المائة مع اشتداد زخم برنامج كبير للاستثمار في البنية التحتية. وفي الأمد المتوسط، من المتوقع أن يبلغ معدل النمو في المتوسط 5.3 في المائة خلال فترة التوقعات.

 

وفي المملكة العربية السعودية من المرجّح ان ينمو اجمالي الناتج المحلي بنسبة 2.4 في المئة على ان يرتفع الى ٣ في المئة في الاعوام المقبلة.

اما بالنسبة الى قطر، فمن المتوقع ان تشهد انتعاشاً قوياً لمعدل النمو، اذ أن الطلب على الغاز الطبيعي المسال في جنوب آسيا وشرقها يدعم آفاق الاقتصاد في الامد المتوسط. ومن المتوقع ان يسجّل الاقتصاد القطري معدل نمو قدره 3% العام الجاري قبل ان تتسارع وتيرته في الاعوام المقبلة.

في مواجهة هذه القراءة المتفائلة والمشرقة الى حد بعيد، بعد عامين من التراجع والانكماش والمعاناة، تبرز مشكلة التضخم التي بدأت تضرب اقتصادات العالم.

حين بدأت الحكومات  في الدول المتقدمة وعدد من الدول النامية، تعتمد سياسة التحفيز وتوزع مساعدات نقدية على مواطنيها منذ بداية الجائحة! حذّرنا من الوقوع في مطبّ التضخم، الذي بدأ يعاني منه الاقتصاد العالمي.

التضخم، كما هو معروف، أسوأ “عدو” للرأسمالية، ولهذا فإن البنوك المركزية الكبرى، مثل الاحتياطي الفيدرالي، تضعه على رأس أولوية أهداف مكافحتها، لأن ارتفاعه يعني انخفاض قيمة الأصول، وهو ما لا يريده المستثمرون ولا الدولة التي تستقطب وترعى الاستثمار والمستثمرين. ولما كانت مؤشرات أداء الاقتصاد الأمريكي، هي “ترمومتر” الاقتصاد العالمي، فإن أولى طلائع التضخم التي ظهرت في الولايات المتحدة، وصلت رسائل هواجسها بسرعة إلى بقية القائمين على السياسة النقدية في بقية أنحاء العالم. فوفقاً لمكتب احصاءات العمل الأميركي، ارتفعت الاسعار في شهر حزيران/ يونيو الفائت بنسبة ٥.٤٪ على أساس سنوي، وهو اکبر ارتفاع شهری يتم تسجيله منذ حزيران/ يونيو 2008 (الأزمة المالية)، حتى إذا استثنينا الغذاء والطاقة (حيث يتم استبعادهما تعسفياً من حساب التضخم بحجة سرعة تقلباتها) وأبقينا على ما يسمى بتضخم مؤشر فإن نسبة ارتفاع التضخم ستكون 4.5% على اساس سنوي، هي أكبر معدل ارتفاع لاسعار المستهلك الاساسي منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 1991. ومع ذلك يصر الاحتياطي الفيدرالي، الذي من أهم وظائفه، المحافظة على استقرار الأسعار، طمأنة الناس بأن ارتفاع التضخم على المدى القريب، هو مؤقت أملته عودة الاقتصاد إلى طبيعته، وأن هذا الاتجاه التضخمي سيتم تصحيحه على المدى الطويل. لكنه حذّر المواطنين الذين بدأوا يستشعرون وطأة غلاء بعض مشترياتهم، من أن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً قبل العودة إلى الحالة الاقتصادية الاعتيادية.

الجمهوريون وأنصار مدرسة شيكاغو النقدية وأقطاب الأعمال، يحمّلون سياسة التحفيز المالي (التوسع في الإنفاق الحكومي عبر خطة الإنقاذ الأميركية البالغة كلفتها 1.8 تريليون دولار، وخطة الإنفاق على البنية التحتية بقيمة 1.2 تريليون دولار، وتوزيع نحو تريليون دولار على العائلات الأميركية، المسؤولية عن زيادة إنفاق المستهلكين وزيادة التضخم بشكل أكبر، أي أن الطلب الاستهلاكي هو الآن في ارتفاع حاد.

لكن في الواقع، وبحسب بيانات مكتب الميزانية في الكونجرس، فإن حزمة التحفيز التي أنفقت وستنفق هذا العام، لا تتجاوز 800 مليار دولار (هو نفس مبلغ التحفيز الذي أقرته إدارة ترامب في 2020)، وإن بقية المبالغ لا تزال على الورق. إن مخصصات العائلات الأمريكية لن تذهب جميعها للإنفاق الاستهلاكي، أي لتشغيل دورة الاقتصاد، وإنما سيذهب معظمها لتسديد الديون التي تثقل كاهل معظم العائلات الأميركية.

التضخم أصاب أيضاً منطقة اليورو حيث وصل الى 2.2 في المائة في شهر تموز/ يوليو الماضي، وهو أعلى معدل في نحو ثلاث سنوات…. ومن المعروف ان التضخم حين يحدث في هاتين المنطقتين ينسحب على كل دول العالم.

رئيس مجلس إدارة الاحتياطي الفدرالي جيروم باول قال نهايه شهر آب/ اغسطس “ان ارتفاع التضخم ما زال نتيجة عوامل عابرة، مما يعني انه ليس خطراً وشيكاً” ونضيف ان عودة النمو الى الاقتصادات العالمية، وبنسب غير مسبوقة، من شأنه التخفيف من حدة التضخم وآثاره السلبية على المديين المتوسط والبعيد.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.