أفلاطون الصغير و مستقبل البشرية / سلمى بالحاج مبروك خويلدي




سلمى بالحاج مبروك خويلدي ( باحثة تونسية ) – الثلاثاء 28/9/2021 م
تمهيد :
إن فكرة تدريس الفلسفة للأطفال تبدو فكرة مجنونة لدى البعض باعتبار الأحكام المسبقة التي يحملها غالبية الناس عن الفلسفة و التفلسف بما هي أحد التخصصات المعقدة التي يصعب استيعابها من قبل الراشدين فما بالك إذا تعلق الأمر بالأطفال . إذ يزعم البعض أن الأطفال ليس لهم القدرة سوى على ترديد ما يخرج من أفواه آبائهم و أمهاتهم و غيرهم من الكبار غير أن مثل هذا الإدعاء لا يلبث أن ينهار أمام تصورات أخرى مناقضة لها ترى أن الأطفال هم فلاسفة بالفطرة و لهم استعداد فطري لممارسة فن طرح السؤال الذي هو جوهر الفكر الفلسفي ، زيادة على ذلك إذا كانت ” الفلسفة هي التي تعلمنا الحياة و أن للطفولة نصيبها من التعلم كما بقية الأعمار الأخرى فلماذا لا نجعلها تتواصل معها ” ( أي الفلسفة ) . بدل أن ننصرف إلى تعلّم ” تعلم الحياة ” بعد أن تكون قد شارفت على الانتهاء . عندها لن تكون هناك أية فائدة نجنيها من طائر “منيرفا ” فلسفة لا يحلّ إلا عند مساء الوعي و غروب شمس العقل خلف بديهيات الحياة اليومية و أحكامها المسبقة . من هنا تأتي أهمية التبكير بتدريب الأطفال على ممارسة فن التفكير حياة لخلق أطفال قادرين على الإبداع و التفكير من خلال تنمية قدراتهم على التواصل و الإصغاء للآخرين و جعلهم أكثر عقلانية و تعليمهم التفكير ليس فقط بأنفسهم و لكن أيضا مع الآخرين لإنشاء مواطنين أحرارا في ديمقراطية تداولية ، و تأسيس لجيل جديد يؤمن بثقافة ” السلم الدائم” و مقاومة العنف ، حينما يبلغ الطفل في مرحلة مبكرة الفكر النقدي و استقلالية التفكير و الحكم بنفسه على العالم و الأشياء بما يحميه من التوظيف الإيديولوجي بمختلف درجاته و يهيئه لأخذ ناصية مصيره بيده خاصة و أن أطفال اليوم هم أكثر ضحايا العبودية المعاصرة فإذا أخذنا المدرسة بوصفها فضاء بنيويا حيث تسلسل الأحداث يخضع لقوانين صارمة و حيث اللغة واحدة ، فإنها تفرغ الطفل من رأسماله الأساسي من قدرته على التفكير ، و تسلبه قدرته على الحكم و التحليل بدل أن تساهم في تطوير الفكر النقدي بإعطاء الفرصة للأطفال لكي يكونوا ريبيين عوضا عن حشو رؤوسهم الصغير بيقينيات لايقينية . أليس من حق ” أفلاطون الصّغير ” بوصفه كائن حي ممتلئ بالخيال و التساؤل أن يسلك دروب الفلسفة ؟ لكن أي فلسفة هي تلك التي تكون قابلة لأن يتعلمها الأطفال ؟ هل نعلمهم الفلسفة أم التفلسف ؟ و ما هي الرهانات المنتظرة من مثل هكذا تجربة ؟ هل يقتصر الأمر على الدربة النظرية على حسن استخدام العقل أم يتجاوز الأمر إلى مستوى عملي و اجتماعي يتحول بمقتضاها ” أفلاطون الصغير ” إلى مواطن عالمي مساهم في بناء القيم الجماعية و مبشرا بمستقبل واعد للبشرية ؟ حيث يرى كارل ياسبرس ” أننا نهمل في الحقيقة نوعا من العبقرية يمتلكها الأطفال التي تضيع منهم حين يصبحون بالغين . ” فإنه لن يبقى لنا من حجة لحرمان الأطفال من حقهم في ممارسة الفلسفة بوصفها مشروعا يضمن مستقبلهم في حياة أفضل مع أغيارهم داخل عالم يقدر ذواتهم و يحترم إنسانيتهم .
1) لماذا تدريس الفلسفة للأطفال ؟
إذا انطلقنا من واقعنا المعاصر الذي تضخمت فيه مقولات أفول القيم و انعدام المعنى من جهة و دعوات بعض الفلاسفة إلى أن تملأ الفلسفة هذا الفراغ القيمي بأن تتحول ذاتها إلى إيتيقا تساعد الإنسان المعاصر على تجاوز أزماته القيمية المتراكمة سواء في مستوى أخلاقي أو سياسي أو معرفي أو جمالي و حتى اقتصادي ، فإن الفلسفة تصبح بهذا المعنى ضرورة حياتية و تعليمها أو التدرب على منهجها العقلاني منذ الطفولة حاجة إنسانية إستراتيجية بما أنها قد تمثل عقلانيتها النقدية الوصفة الطبية الناجعة لمعالجة أغلب أمراض العقل الإنساني الذي أصابته تشوهات الحضارة التقنية المعاصرة .
فالفلسفة و ما تتضمنه من قيم إنسانية كونية تبدو هي الأجدر على الاضطلاع بحاضر الإنسان و مستقبله ، ذلك المستقبل الذي لن يكون على النحو الذي نطمح له إلا بفعل التربية إذا ما أردنا تغيير مجتمع ما في البداية ثم تغيير مستقبل البشرية جمعاء ، لا يتعلق الأمر الاعتقاد في تحقيق ذلك بمعجزة بل في تربية النّاشئة بطريقة تغرس فيهم هذه القيم الإنسانية المشتركة . صحيح أن الأمر ليس سهلا و لكن أيضا ليس مستحيلا .
حيث تساعد القيم الفلسفية الأفراد على ضمان حياة مزدهرة و العيش معا بطريقة أكثر أخوية ، فهي تمنحنا إيتيقا بمعنى قيما كما تمنحنا وسائل داخلية لقبول التنوع و مساعدة الآخر . إنها تسمح بتنمية قوة أخلاقية و تأقلما قبالة تغيرات الحياة . كما تساعدنا على تهذيب قيم التعاون و الإبداع و تعلمنا رؤية العالم بطريقة إيجابية و نقدية بناءة تمكن من وجود حلول للمشاكل التي تطرح علينا . و هذا دلالة على أهمية و جدوى الفلسفة بوصفها فنا في الحياة من هنا تتأتى أهمية تدريس الفلسفة للأطفال بوصفهم مواطنو المستقبل و باعتبارها تمتلك الأدوات اللازمة لإنجاح مشروع الإنسان الكوني .
فإذا كانت الفلسفة هي رهاننا في التحرر من الظلام و الظلم فلما نحتفظ بها لأشخاص معينين و نقصرها على مرحلة عمرية محددة ؟ أليست هي ملكا شائعا للعقل البشري في مختلف مراحل نموه و تطوره ؟ أليس علينا أن نتبع طريقة دريدا الديمقراطية في ممارسة ” الحق في الفلسفة ” ضدا عن التوجه و الخيار الديكارتي اللاديمقراطي الذي يرى حسب تصوره الخاص للطفولة كمكان و زمان للأحكام المسبقة و الخطأ فإذا أردنا التفلسف فعلينا أن نبدأ أولا بمغادرة مرحلة الطفولة . فكيف تشكلت فكرة تدريس الفلسفة للأطفال ؟
2) أصل فكرة تدريس الفلسفة للأطفال :
و لرسم بداية إبداع مشروع يهتم بتدريس الفلسفة للأطفال يجب العودة إلى سنة 1969 مع أستاذ الفلسفة بجامعة كولومبيا متيو ليبمان (Lipman (Matthew الذي لم يكن راضي عن طلبته في قسم الفلسفة حيث لاحظ عدم قدرتهم الكافية على التحليل سواء قبل الدرس أو بعده فهم قد حفظوا الكلمات و قواعد التفكير ، لكن هذا التعليم لم يعطي نتائجه في مستوى خياراتهم و قراراتهم و طريقتهم في الحياة . لذلك افترض أن السبب يعود إلى تأخر في تعلم الفلسفة و خاصة مهارة التفكير . و لتجاوز هذا المأزق تخيل منهجا بيداغوجيا يتعلق بطلبه تحويل القسم إلى ” وحدة بحث ” لخصها في الاجتماع حول ” طاولة مستديرة ” و انطلاقا من نص يتم قراءته من قصة ذات بعد فلسفي يقوم الأطفال بتحديد السؤال المطروح في القصة و مناقشته . هذا النقاش يخضع لقواعد حيث يطلب المنشط من الأطفال كمثال على ذلك :
– أن يستمعوا للغير ،
– أن لا يسخروا من بعضهم البعض ،
– أن لا يقاطعوا بعضهم البعض .
أما المربي فعليه أن يأخذ على محمل الجد كل المشاركات المتداولة في ” وحدة البحث ” هذه بوصفها عنصر مساعد يشجع الأطفال على المشاركة في الحوار و تداول الكلمة و الأفكار و يقوم هو بتنظيم و إدارة هذا النقاش الفلسفي بضمان التمشي العادل و المنصف للجميع .
في نفس الوقت كان لمبو يتابع عن قرب جهود مبذولة من قبل مربية قريبة من أطفال يعانون من صعوبات تعلم القراءة فجاءته فكرة مدها بتمارين صغيرة ذات مرجعية منطقية مكنتهم من تحقيق بعض الإيجابيات المشجعة وهو ما أقنعه بأنه يمكن بداية دراسة المنطق قبل المرحلة الجامعية و الثانوية في سنوات مبكرة من مرحلة التعلم . لقد قاده تفكيره إلى أن الطريقة الناجعة لإدخال الأطفال في دراسة المنطق هي توجيههم نحو الفلسفة . فهو يعتقد بوجود تحالف طبيعي بين الفلسفة و الأطفال ، لأن النظرة التي يلقيها الطفل على العالم تنغرس في الدهشة . لذلك تساءل لما لا يقع الرجوع إلى تقاليد الأفكار الفلسفية و إدماجها في القصص الموجهة للأطفال يستطيعون الذهاب من خلالها إلى ما وراء الدهشة و الوصول بطريقة تفكّرية و الإحساس بمختلف الأبعاد المنطقية و الإستطيقية و الإيتيقية لتجربتهم الحياتية . بحيث يصبح لنا أطفال قادرين على الإبداع و التفكير من خلال تنمية قدراتهم التواصلية المبنية على جدل الإصغاء و الحوار و جعل سلوكياتهم أكثر عقلانية .
إن الهدف من هذه الممارسة ليس نقل ما فكر فيه الكبار بلغتهم إلى الأطفال ، و إنما تشجيع الأطفال على التفكير الفلسفي أي التفكير بطريقة صارمة ، جزئية و موضوعية و احترام العلل و الأسباب كما يفعل الفلاسفة و لكن مع لغة و مراكز اهتمام متناسبة مع الأطفال . و إذا أردنا مساعدة الأطفال على بلوغ المسافة التي تفصل الدهشة عن التفكير و التفكير عن الحوار و الحوار عن التجربة يجب أن تكون هذه التجربة مقدمة في سياق على هيئة ما يعيشوه في الواقع بصفة يومية . فما هي الميتودولوجيا التي يمكن اتباعها لمساعدة ” أفلاطون الصغير” على ممارسة التفكير الفلسفي بطريقة سلسة ؟
3) ميتودولوجيا تدريب الأطفال على التفكير الفلسفي : يمكن تقسيم ميتودولوجيا تعليم الفلسفة للأطفال إلى ثلاث لحظات : فالأطفال مدعوون إلى التعايش مع القصص ذات البعد الفلسفي ثم يحددون الموضوع و الأسئلة التي يعتبرونها مهمة بالنسبة لهم و في الأخير يلتزمون باختبار المشكلات التي تطرحها هذه العناصر .
إذن في المرحلة الأولى يقرأ طفل ما بصوت مرتفع حسب دوره فقرات محددة من قصة مختارة و هذه القراءة الموزعة حسب الأدوار تسمح لكل طفل التعرف على النص . في هذه القراءة المشتركة تتجلى الخطوة الأولى نحو تنمية الشعور بالانتماء إلى المجموعة ، فمثلما يتم تقاسم و مشاركة قراءة قصة سيتعود الأطفال فيما بعد على مشاركة الأفكار و وجهات النظر .
في مرحلة ثانية نطلب من الطفل أن يكشف الأفكار و الأسئلة التي لاحظها إبان القراءة ، هذه المرحلة تطمح أساسا إلى وضع بداهة الأفكار التي تم الاحتفاظ بها من قبل الأطفال حسب أهميتها و خصائصها الهامة الجزئية . لا يتعلق الأمر بسباق نحو أفضل الأفكار الفلسفية و لكن يتعلق الأمر بالسماح لكل واحد لملاحظة فكرة واحدة أو متعددة تم اختبارها و محاكمتها و الحكم عليها بالصلاحية .
في مرحلة ثالثة و أخيرة ينخرط الأطفال في نقاش موضوع أو عدة مواضيع و أسئلة و مشكلات يختارون البحث فيها .
ما يمكن استنتاجه أن ممارسة الفلسفة مع الأطفال يتيح توسيع عادات التفكير لديهم ، فهي تهديهم إمكانية التفكير فلسفيا في أفكار تهمهم في إطار بحث مشترك مؤسس على التعاون و الحوار . لكن هذا المسار لا يتلخص فقط في ممارسة تمرين العادات الذهنية إذ أن الحوار يقتضي ديناميكية يتيح خلق ” وحدة بحث” تبجل تنامي الحسية إلى العلاقات بين شخصية و بلوغ معنى دقيق للقضايا التي تقود لصنع من الأشياء تتراوح ما بين حاجياتهم الخاصة و طموحات الآخرين . فالحوار هو مكان حيث تندمج التعلّمات التي هي من نظام المعرفة ( موضوع النقاش )و فعل المعرفة ( عادات التفكير) و معرفة الوجود ( الآراء التي تتيح انبثاق الجزئية الموضوعية و الإصغاء الفاعل ) . فما هو الدور الذي يجب أن يؤديه المنشط لبلوغ أهداف تعليم الفلسفة للأطفال ؟
4) دور المنشط الفلسفي في تعليم الأطفال الفلسفة : لا يتمثل دور المنشط الفلسفي في بذل المعلومة و لا انتاج رأي حتى و إن كان مثاليا و جيدا و لا حتى في انتاج تأويلات متعلقة بالمسألة المثارة . هذا اللاتوجه و الحيادية في اختيار و تداول الأفكار مع الأطفال و حثهم على مناقشة محتواها يرمي إلى تأمين أن المواضيع المختارة متوافقة تماما مع اهتمامات الأطفال و ليس مع اهتمامات الأشخاص الذين ينشطون وحدة البحث ، إنها تهدف إلى حماية الأطفال من كل محاولة لمذهبتهم و الاستحواذ على تفكيرهم و خيالهم من قبل الكبار.
غير أن النقاش الفلسفي بين الأطفال لا يجب أن يلخص ببساطة في مجرد تبادل الآراء ، لأنه يهدف بالدرجة الأولى إلى إثراء الآراء المعبر عنها للحصول على وجهات نظر متكاملة ، و اكتشاف الأفكار التي تختفي خلف بعض العبارات وتوضيح معنى محاولة فاشلة التي لا يجب أن تأخذ على معنى الفشل المطلق بل بوصفها تأسيسا لنجاح قادم بإبراز أهمية الخطأ في بناء معارفنا و اعتباره جزء من الحقيقة ، وامتحان تعبيرات الفكر المتقاربة و المتباعدة و تأسيس تمثّلاتنا . فالأمر كله متروك للمنشط لتحمل المسؤولية في نهاية المطاف لتحديد الترتيبات التي من شأنها توجيه الطفل و إعطائه بعض النصائح للبحث بطريقة منطقية تكون أكثر انتاجية و تصحيحية لذاته السائرة في طريق السؤال و البحث .
في هذا السياق هناك عدد من الاستراتيجيات البيداغوجية و التي هي في الحقيقة منهجية فلسفية يمكن استخدامها من قبل أشخاص يسهلون النقاش الفلسفي في وحدة البحث ، هذه الإستراتيجيات يتم اختبارها و تطبيقها و اكتسابها تدريجيا أثناء التكوين و التدريب .
و مثلما تمثل القصص الفلسفية المكتوبة للأطفال أهمية في تنمية القدرات العقلية للطفل و توفر له نموذج جيد للبحث الفلسفي بمساعدته على كشف ما هو رمزي في حياتهم ، كذلك فإن دور المنشط مهما جدا إذ عليه من جانبه أن يخلق مكانا حيث يتوفر محيط للحوار الفلسفي المثمر بين الأطفال .
إن تأطير و إدارة نقاش فلسفي هو فن يقتضي معرفة متى نتدخل و متى لا نتدخل في النقاش ، و هذا يتطلب مهارات لإخراج وجهات النظر و آراء الأطفال و توليدها من عقول الأطفال كما كان يفعل سقراط حين يولد الأفكار من عقول محاوريه ،و مساعدتهم على اكتشاف الآثار المنطقية المترتبة عن وجهات نظرهم التي يتبنوها .
من هنا يجب على الشخص المنشط الذي يمارس الفلسفة مع الأطفال أن يكون بمثابة الحكم و القائد الدليل الذي يدفعهم للمخاطرة وتحمل نتائجها ، و يساعدهم على اكتشاف ما هو ضمني و دعمهم في بحثهم عن الحلول الأكثر فهما ، إذ مهمة المنشط هنا ليس تقديم الحلول الجاهزة و إنما تشجيع ” أفلاطون الصّغير” على التفكير بواسطة ذاته المستقلة و من أجلها .
لذلك يجب تدريب الأطفال أنه لا أحد يمكن أن يقوم بمهمة التفكير بدلا عنه . كما أن تعليما يسعى فقط إلى إحالة نتائج المعرفة و نقلها عنوة و ينسى إشراك الأطفال في العملية التي تؤدي إلى هذه النتائج هي جهد عقيم و معارف مسقطة لا تستطيع العقول المستهدفة هضمها و تمثلها ، فالطفل ليس مزهرية نملؤها و إنما نارا نوقدها بروح الفكرة الفلسفية و كل إدعاء بأن الفلسفة من المواد التي يصعب إيصالها لعقول الأطفال هو حكم مسبق فكما يقول مونتيني : ” فنحن نخطأ كثيرا حين نصور الفلسفة بعيدة عن متناول الأطفال ” .
فإذا كانت فكرة تدريس الفلسفة للأطفال هي بهذه الأهمية و إذا كانت هي ذات جذور غربية فهل يمنع ذلك من تأصيلها في المناهج التربوية العربية ؟
5) في ضرورة تأصيل تجربة تدريس الفلسفة للأطفال في التعليم العربي و رهاناته :
تبدو الحاجة إلى الفلسفة في المجتمعات العربية ضرورة حياتية و إيتيقية لا غنى عنها في ظل واقعنا العربي المأزوم الذي يكاد يغرق في وحل الهمجية ، لاسيما و أن الفلسفة كما علمنا فيلسوف الحداثة و العقلانية ديكارت هي التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين . و حتى تصبح الفلسفة عندنا قناعة راسخة لا بدّ من تأصيل تدريسها منذ الصغر . ليس لأننا نرغب في استنساخ ما تنتجه الثقافة الغربية و إنما هناك بديهيات كلية مشتركة بين الإنسانية جمعاء عندما يتم تشاركها بين البشرية قاطبة تساهم في رقيهم و تقدهم المعرفي و الأخلاقي و تدفعهم للتقارب و التضامن مع بعضهم البعض على أساس هذا الخير و المصير المشترك .
و إذا كانت فكرة تدريس الفلسفة للأطفال قد انطلقت من قناعة الحاجة إلى بناء المعنى بطريقة إنسانية ، و لئن كان استدعاء هذه التجربة في العالم الغربي نتيجة إيمانهم بضرورة بناء معنى لعالم خال من المعنى و خال من التعالي الإلهي ، فإن الأمر عندنا لا يختلف و إن بشكل مقلوب مع الانتهاء إلى نفس النتائج ، فنحن قد نشكو من تضخّم في المعنى يصل إلى حدّ الحشو و المبالغة و الخروج عن السياق الإنساني و الابتذال لتتحول القيم و المعاني إلى قيود و سجون خانقة يختلط فيها العقلاني باللاعقلاني و العامي و السطحي ، هذا في مستوى المعنى ، أما في المستوى الديني فنحن لا نفعل سوى أننا نحطّ من شأن إلهنا و نسلبه تعاليه من فرط استعمالنا له لنحشره في زاوية الخرافة و اللامعقول لننتهي كما انتهوا إلى عالم هو أيضا خاليا من المعنى و خال من تعالي الإلهي .
من هنا حاجتنا للفلسفة كحاجتنا للهواء و الغذاء و خاصة ضرورة تدريسها للأطفال لتعويدهم على تقاليدها الفكرية الحرة المتمثلة في إيقاظ الفكر من سباته الدغمائي و تحريره عبر إيقاظ نزعة الشك و السؤال و التفكير و الحوار البناء الذي يهيؤنا للتخلص من العنف اللفظي و المادي الناتج عن نقص في الحوار .
ففي العالم العربي تزدحم الأساطير في عقول الكبار كما الصغار و يتجاور المعقول مع اللامعقول دون الشعور بأدنى حرج من هذه التناقضات التي تشق التفكير و الواقع و تتقاطع في ذهن المثقف كما في ذهن غير المثقف ، مع غياب أي ثقافة عقلانية نقدية في نظام تعليمي لا رهان له سوى حشو الأدمغة بكم هائل من معارف منقولة دون المراهنة على الكيف ، هذا إضافة لما يمارسه الكبار من وصاية فكرية و دينية على عقول الصغار فيتم التحكم فيها و توجيهها وفق ما تشتهيه نوازع الكبار و معتقداتهم و إيديولوجياتهم ، فبدل أن يكون الكبار عنصرا توجيهيا يدفع في اتجاه إنضاج الوعي النقدي لدى الطفل بتعليمه فنون التفكير بالاعتماد على الذات و مساعدته على حرية التفكير و الاختلاف و الحكم النقدي و تنبيهه إلى أن كل فعل تسبقه عملية تفكير فإنهم يعتمدون فقط على عنصر تخزين الذاكرة و تعبئتها بأحكام مسبقة لا تستند سوى لمنهج الحفظ عن ظهر قلب و الحال أن ” أن تعرف عن ظهر قلب معناه أن لا تعرف شيئا ” . لذلك لا بد من خلخلة هذا الواقع المريض بالتفكير في مصير الناشئة عبر إعدادهم نفسيا و عقليا لممارسة الفلسفة بوصفها فنا في الحياة و مشروع خلاص من كل أخطار الدغمائية العنيفة و الانغلاق المتعصب على الذات و رفض الآخر المختلف و المتعدد ، خاصة و أن المجتمعات العربية هي مجتمعات دينية بالأساس و نحن نعلم خطورة أن يتحول الدين إلى لعبة في أيدي الجهلاء و المتعصبين حينها سيتحول القتل باسم الله امتيازا نستحق عليه ثواب الجنة .
وهو ما يجعل من تدريس الفلسفة للأطفال ضرورة حياتية و ليس مجرد ترف فكري إذا ما رمنا خلاصا حقيقيا و مستقبلا إنسانيا أكثر إشراقا يمحو ما خلفه الجهل و التعصب و التفكير الدغمائي من آثار ثقافية و أخلاقية كارثية .
إن حصر الفلسفة و جعلها مقتصرة على عدد محدود و أعمار متقدمة – هذا إذا نالها أصلا شرف أن تكون من بين إحدى المواد المعترف بها في عدد من الدول العربية – تحرم عددا كبيرا على التعود على التفكير التأملي النقدي المتحرر من كل أشكال التعصب و الوثوقية في وقت مبكر حيث تكون استعدادات الإنسان المتعلم للتعلم أكبر و رغبته في المعرفة و فضوله لا حدود له فنحن نترك “حقل العقل في أجمل مراحله استعدادا للإنعطاء و الخصوبة و عوضا أن نستغل هذا ” الحقل ” لزرعه ببذور العقلانية المستنيرة المبشرة بالإبداع و التقدم نتركه قاحلا و مرتعا لعبث القوى الظلامية و الرجعية لتحشوه بديناميت الخرافة و الجهل و اللاعقلانية . مثل هذه المخاطر التي تهدد النّاشئة بنسف مستقبلهم هي التي تضعنا أمام خيار وحيد هو التسريع بالخروج من حالة القصور الذاتي التي تتهدد الأجيال عبر رفع تحدي العقل و العقلانية و التنوير التي هي شريان المعرفة الفلسفية ” إذ لا يتعلق الأمر بإخضاع كل جيل إلى آراء و إرادة السّابقين و لكن بتنويرهم أكثر فأكثر للاهتداء بواسطة عقلهم الخاص ” .
وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الرهانات المنتظرة و المكاسب التي يمكن جنيها من مشروع تدريس الفلسفة للأطفال ؟
6) رهانات تدريس الفلسفة للأطفال : حين نعلم الفلسفة للأطفال يجب أن نضع نصب أعيننا أننا لن نقوم بتلقينه النظريات الكبرى للفلاسفة و استعراض كل المدارس الفلسفية و إنما نقصد بها بناء علاقة غير دغمائية مع المعرفة بواسطة أولوية التمشي المعتمد على السؤال و خاصة تلك الأسئلة التي تمس الطفل في حياته المباشرة و في مشاعره و رغباته و علاقاته من خلال تموضعه في مجتمع الآباء و الأصدقاء و الأقرباء عبر إيتيقا تواصلية مبنية على الجدل و الحوار و النقاش و تبادل الآراء و الأفكار في ظل احترام متبادل ،من هنا يأتي الرهان على تدريس الفلسفة للأطفال الذي يمكن تلخيصه في ثلاث رهانات أساسية :
الرهان الأول : رهان تفكيري و لغوي : حيث يرتبط التفكير باللغة فإن كل الحوار داخل المجموعة لن يكون مجرد نقاش عشوائي بلا مضامين و لا منهج و لا أهداف و إنما عملية مركبة تنطلق من التعبير عما يفكر فيه الطفل بصفة مستقلة و ذاتية داخلية إلى عملية مشاركة هذا التفكير مع الآخرين من خلال الحوار و النقاش مع أقرانه حيث يسمح النقاش الفلسفي فيما بينهم بتنمية المهارات اللغوية و قدرات التواصل و التعبير من خلال التبادل الشفوي للأفكار و التدرب على استعمال لغة دقيقة و واضحة بما يسمح السيطرة على اللغة التي هي أساس الوصول لكل المعارف ، وهو ما يسمح بفتح آفاق متعددة للطفل و يضمن موقعه المستقبلي بوصفه مواطنا .
يتعلق الأمر إذن بتدريب الأطفال الجرأة على الكلام ، و خوض مغامرة المخاطرة أمام الآخر الذي يسأله و يتناقض معه و الذي عليه في نفس الوقت أن يستوعب فكره و كلامه مهما بلغت درجة اختلافه معه و تعديل كلامه كلما اقتضى الأمر ذلك و ذلك بقبول و احترام قواعد التبادل و قواعد العيش المشترك .
فالتبادل الشفوي اللغوي الممهد بالنقاش يسمح بتنمية القدرة التواصلية الحوارية التي تتم بواسطة اللغة و تشجيع الأطفال المتحاورين على التعبير و إبداء الرأي بكل حرية و مسؤولية و شجاعة و تفسير مواقفه للآخرين ، و يتعلم ضرورة أن يكون واضحا في لغته و عرض أفكاره لتبليغها و إفهامها لأصدقائه و شركائه في الحوار من خلال ثلاثي التفلسف وهي المفهمة ، الأشكلة و الحجاج . وهو ما يعني أن فعل التفكير ليس فعلا يتم بشكل معزول عن الآخر و إنما يكون بالتفكير مع الذات و مع المجموعة وهو ما يساهم في تحويل الطفل من التمركز حول ذاته و تخليصه من أنانيته و نرجسيته في اتجاه مصالحته مع العالم الذي يسكن فيه حيث تتاح له فرصة التعرف على ذاته من خلال الآخرين ، و ينتبه إلى قدرته على تغيير الآخر و عل التغيّر من قبل الآخر بمعنى القدرة على التأثر و التأثير .
الرهان الثاني: هو رهان ديمقراطي : على ضوء النقاشات الجماعية ، يجب أن يكون الطفل في هذا الإطار قادرا على الإصغاء للغير ، مع المطالبة بتوضيحات كلما اقتضى الأمر ذلك و قبول بتوجيه المعلم للنقاش و عرض آرائه و تفاعلاته و ردة أفعاله في الحوار أو النقاش مع البقاء في مستوى التبادل المنظم لتجنب الفوضى و وضع نقاش منظم يدمج كل المتحاورين لذلك لا بد من تأسيس قواعد و إلزامات ضرورية تسمح بضمان الحقوق و الحريات لكل واحد في مستوى الكلام و التعبير و تضمن حسن التواصل البيني بين الأطفال و منشطهم . هذا الاحترام للعقد الديمقراطي يجعل الطفل أكثر وعيا بانتمائه إلى مجموعة و مجتمع يتطلب العيش فيه القبول بقيم القواعد التشاركية و قواعد الحياة . وهو ما يتيح للأطفال بصفة مبكرة ممارسة عقولهم من منظور مواطني ، من هنا تتجدد العلاقة الأصلية بين الفلسفة و الديمقراطية ، فالتدرب على المناقشة فلسفيا في المدرسة و منذ الطفولة ، معناه توفير إطار و بيئة تعليمية لإيقاظ التفكير التأملي , التكلم لا من أجل التكلم ( الذهاب إلى ما بعد السيطرة على الشفاهي ) و لكن للتفكير فيما نقوله و ليس فقط قول ما نفكر فيه . التكلم لمعرفة عما نتحدث عنه و إذا ما كنا بصدد قوله حقيقيا مع وظيفة و آداء ديمقراطي للتعبير و الكلام ، و استعمال مستنير للعقل بما يعد لفهم الرهانات الثقافية و الاجتماعية و الإيتيقية في عالم مركب و المساهمة بشكل صارم في النقاش العام الضروري و اللازم لخيارات سياسية حاسمة . فالمدرسة لديها مسؤولية خاصة في تعليم المواطنة و يبدو النقاش الفلسفي من هذا المنظور كضمانة لجودة النقاش الديمقراطي بما أنه يحافظ عليه من التلاعب الديماغوجي و الدوكسولوجيا ( منطق الوهم ) التي تكتفي بالتعبير عن الظنون و الآراء دون شرط التحقق من صحتها العقلانية .
الرهان الثالث : رهان إيتيقي : لا يمكن أن يكون هناك نقاش فلسفي دون الخضوع لبعض القواعد ( فعلى سبيل المثال لا يمكن الحديث جميعا في نفس الوقت و إلا لا يمكن أن نسمع بعضنا البعض كما لا يمكن أن يحتكر شخص واحد الكلام و إلا لن يكون هناك تبادل للأفكار ، لكي يتمكن كل واحد من التعبير عن أفكاره يجب أن نلتزم بعدم مقاطعته عند الكلام و تجنب السخرية منه ) إنها أخلاقية تتجاوز الغائية الديمقراطية الخالصة لأنها تلزمهم بإقامة علاقات مع بعضهم البعض بصفة شخصية و ليس مع الآراء فقط . إنهم يتعلمون أن احترام المواطن معناه احترام فرد له حقوق . و احترام شخص معناه اعتبار كرامته ككائن انساني . إنها نوع من الإيتيقا النّقاشية تحترم الشخص فيما وراء أفكاره إننا نبحث معه و لا نقاتل ضدّه ، فالآخر ليس خصما بل شريكا وهو ما يقلص من إرادة العنف و يزيد من التسامح و نشر السلام و ثقافة الحوار . إنها تطور إيتيقا ذات حس إنساني كلي عند الأطفال بوصفهم مستقبل البشرية وهي تمثل أساس الروابط الاجتماعية و بالتالي السياسية داخل المجتمعات المعنية بتكريس الفلسفة كثقافة حياتية تبدأ ممارستها منذ الطفولة .
الخاتمة : خلاصة القول يبدو مشروع تدريس الفلسفة للأطفال في وقت مبكر مشروعا مغريا يعد بمستقبل واعد للمجتمعات التي تراهن على مستقبل مشرق تبنيه عقول حرة . ذلك أن الفلسفة و ما يميزها من مناهج متعددة تتراوح بين الشك و النقد و المساءلة و الفهم و التأويل و القدرة على الانفتاح على شتى العلوم و المعارف الإنسانية المتنوعة قادرة على تكوين عقول جيدة تنبذ الإقصاء و العنف و تجنح لبناء القيم الإنسانية المشتركة المبنية على حسن الجوار مع الآخر الذي يشاركنا الاقامة في العالم عبر الحوار و حل الصراعات و النزاعات بصفة سلمية و التسامح مع الثقافات المختلفة و التواصل الفاعل معها . وهو ما يبشر بمواطنين منغرسين في الشأن الإنساني العام و ليس مجرد أفراد أنانيين .
ولا شكّ أيضا أن أكثر المهارات التي ننتظرها من مواطنين مستقبليين تربوا منذ طفولتهم على حب الفلسفة و تعلموا منهجها العقلاني المنطقي هي القدرة على التفكير بمسؤولية أمام وضع إشكالي للوصول إلى أفضل الحلول سواء على مستوى النجاعة أو على مستوى الأخلاقية . لذلك فإن خيار تعليم الفلسفة باكرا يهدف الاستجابة لمقتضيات تنمية العقلانية الفكرية و الحوارية بما يسمح تحقيق اجتماعية الأطفال و تنمية الشعور لديهم بالانتماء للمجموعة الاجتماعية التي يعيشون داخلها و المجموعة الانسانية بصفة عامة و الشعور نحوها بالمسؤولية . عندها فقط يمكن أن نقول أن مستقبل البشرية الذي نطمح أن يكون مشرقا يبدأ من ” أفلاطون الصغير” .
فهل يمكن لنا نحن العرب أن نأمل قريبا في تأسيس هكذا مشروع ؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.