وداعاً أيّها الشهيد «الصحراوي» / رنده فرح*
رنده فرح* ( الثلاثاء ) 7/6/2016 م …
إنّه الشهيد محمد عبد العزيز، رئيس الجمهورية العربية الصحراوية، والأمين العام لجبهة البوليساريو (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب). رحل عن شعبه بعد صراع مع المرض، تاركاً وراءه سجلاً منيراً وسيرة المناضل الذي لم يساوم يوماً على القضايا العادلة والمبدئية، خاصة حق شعبه العادل والمشروع في تقرير مصيره.
إنّه الرجل الصحراوي الذي كرّس حياته أولاً ضد الاستعمار الإسباني الذي دام نحو قرن من الزمن، وعرف منذ حينها بشجاعته وصلابته في ساحات القتال، وثم ضد الاحتلال المغربي الذي طمع في الإقليم وخيراته، أهمها الفوسفات. واحتل جزءاً كبيراً من الصحراء الغربية بقوة السلاح وبدعم إمبريالي (خاصة فرنسا وأميركا).
والدولة المغربية وأجهزتها القمعية نكّلت ـ ولا تزال ـ بالشعب الصحراوي، وما زالت تحرمه أبسط حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى رأسها حقه في تقرير مستقبله السياسي، ومن ضمنها الاستقلال، كما تنص عليها قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي.
نبذة تاريخية
تقع الصحراء الغربية، التي كانت مستعمرة إسبانية من 1884- 1976، في أقصى الشمال الغربي للقارة الأفريقية. عند بدء انسحاب إسبانيا من مستعمرتها الأفريقية، أصدرت محكمه العدل الدولية (ICJ) بتاريخ 16 تشرين الأول 1975 قراراً يرفض رفضاً باتاً ادعاء المغرب وموريتانيا أنّ لهما حق السيادة على إقليم الصحراء الغربية. لا بل أكد القرار حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره حسب قرارات الأمم المتحدة، خاصة إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة في قرار الجمعية العامة 1514 من 14 كانون الأول 1960. ومن الجدير بالذكر أن هاتين الدولتين طلبتا من المحكمة النظر في هذا الموضوع، وقد زودتاها بكل ما لديهما من وثائق تاريخية في محاولة لكسب غطاء شرعي للسيطرة على الإقليم.
وما إن صدر القرار حتى خرج الملك الحسن الثاني يخاطب الشعب المغربي، زاعماً أنّ المحكمة أيدت سيادة المغرب على الإقليم. ومن ثم حشد الآلاف من «المتطوعين» في المسيرة الخضراء للتوجه والسير إلى الإقليم، مُدعياً أنها مسيرة سلمية تعبّر عن «التحرير والسيادة». لكن الخدعة كان معداً لها مسبقاً، فبينما كان الناس يتجمعون في طرفاية في جنوب شرق المغرب للسير إلى الإقليم، كانت وحدات من القوات المسلحة الملكية تتحرك بسرية من الشمال الشرقي لاحتلال مواقع أخلتها القوات الإسبانية. وكانت الضغوطات المغربية والفرنسية والأميركية على إسبانيا قد أسهمت في تبديل موقفها بالنسبة إلى الصحراء الغربية، بعد أن كانت قد وعدت بتسليم الإقليم لجبهة البوليساريو. وبالتالي صمتت إسبانيا عن الاحتلال المغربي ولم تفعل شيئاً لصده. لا بل كانت قد فاوضت بنحو خفي في اتفاقات مدريد «Madrid Accords»، التي لم تعترف الأمم المتحدة بها، والتي بموجبها قسمت الحكم الإداري في الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا.
أما جبهة البوليساريو التي تأسّست في 10 أيار 1973 للكفاح ضد الاستعمار الإسباني، فكانت تستعدّ مع الصحراويين للاحتفال بالاستقلال بعد انسحاب إسبانيا، لكنها سرعان ما اضطرت إلى متابعة النضال والكفاح المسلح… ولكن هذه المرة كان طعمه أكثر مرارة حيث المحتل الجديد هو الجار العربي الهوية. وكان هجوم المغرب العسكري من الشمال والموريتاني من الجنوب قد أرعب الصحراويين وأجبر الكثيرين منهم على الفرار شرقاً نحو الصحراء الجزائرية القاسية والقاحلة. وقد مات وجرح الكثيرون منهم وشوّه الآخرون بقنابل «النابالم».
لم تستطع موريتانيا الصمود ضد ضربات جبهة البوليساريو المتمرّسة في حرب العصابات، فانسحبت من المنطقة الجنوبية التي كانت قد احتلتها وأبرمت معاهدة صلح عام 1979 مع «الجمهورية العربية الديموقراطية الصحراوية» التي أنشأتها وأعلنتها البوليساريو في 27 شباط 1976 في المنفى في مخيمات اللاجئين عند انسحاب إسبانيا. لكن المغرب، بمساندة دول إمبريالية على رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي زوّدت المغرب بأسلحة فتاكة، استطاعت أن تمتد وتحتل الجزء الذي كانت موريتانيا قد احتلته. فباتت اليوم تحتل أكثر من ثلثي الصحراء الغربية، والباقي ما زال تحت سيطرة البوليساريو.
استمرت الحرب من عام 1975 إلى عام 1991. اتفق الطرفان بعدها على وقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة ليبدأ الاستعداد لاستفتاء شعبي يقرر بموجبه الشعب الصحراوي مصيره. وهنا أيضاً لجأ المغرب إلى الخديعة لتأجيل الاستفتاء وعرقلته، فمثلاً دعم مادياً وشجع العديد من المواطنين المغاربة لينتقلوا ويسكنوا في الصحراء الغربية، ليزداد عددهم بالنسبة إلى الصحراويين. كذلك اشترط لاحقاً أن يكون لهم حق التصويت في أي استفتاء يجري. احتجّ المغرب باستمرار على لوائح الصحراويين المسجلين للاستفتاء، وأرسل مغاربة ليسجلوا في هذه اللوائح، مدعين أنهم صحراويون، حتى مرت الأشهر والسنون ولم يجرِ أي استفتاء، ولم يستطع الشعب الصحراوي أن يصوّت على مصيره السياسي حتى يومنا هذا. ومع مرور السنين اتخذ المغرب موقفاً أكثر تصلباً وقمعاً ضد أي موقف يقرّ بحق الشعب الصحراوي بتقرير مصيره.
لكن هذا الشعب بقيادته الواعية حوّل مخيمات اللجوء إلى «ولايات»، وهو الاسم المتعارف عليه بين الصحراويين للدلالة على أنهم معنيون ببناء دولة مستقلة في المنفى إلى حين العودة وتحرير الأرض، فقد كان شعارهم الأساسي دائماً الاعتماد على الذات. وقد بذلت الحكومة الصحراوية جهداً جباراً في تحويل ساحات اللجوء إلى أماكن لبناء المواطن الثوري المتمسك بحقوقه والواعي سياسياً. وسعت بجدية والتزام منقطع النظير إلى محو الأمية ومناصرة قضايا المرأة، وبناء المؤسسات الديموقراطية التي تفسح للجميع مجال المشاركة في القرارات السياسية والمصيرية. كذلك نبذت القبائلية والعنصرية، ووقفت مع القضايا العادلة في العالم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. حتى إن الكثيرين منهم قالوا لي عندما زرتهم في المخيمات إن أختيار العلم وألوانه (الأحمر، والأبيض، والأخضر، والأسود) كان مستوحى من العلم الفلسطيني. لكن للأسف، القيادات الفلسطينية، ما عدا أقلية (خاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) التي ساندت القضية الصحراوية، لم تناصرهم، بل فضّلت تلك القيادة بناء علاقة مع المملكة المغربية مع أنها تعد أقدم حليف لأميركا في أفريقيا. أما القصر الملكي وملوكه فمعروفون بعلاقاتهم التاريخية والحميمة مع الكيان الصهيوني. أما الجمهورية العربية الصحراوية، فهي حليف لكوبا وجنوب أفريقيا وكل الدول التي تقف ضد الاستعمار والإمبريالية.
عبر ودروس من الصحراء الغربية
لا شك أن دور الجزائر في دعمه السياسي والمادي والمعنوي للشعب الصحراوي كان حاسماً في صموده وتمكينه في التحرك والتعبئة وبناء مجتمع مدني وديموقراطي في المنفى. مجتمع حافظ على أفضل مكونات ثقافته المحلية البدوية القديمة مثل العمل الجماعي، واحترام المرأة، ومساعدة المسنين واحترامهم. فتاريخ الجزائر هو تاريخ نضال طويل وشاق ضد الاستعمار الفرنسي، وكان له دور مهم في مساندة حركات التحرر الوطني في أفريقيا، ومن ضمنها دعم جنوب أفريقيا في نضالها ضد التفرقة العنصرية. وبالتالي ليس من المستغرب أن تقف الجزائر مع الشعب الصحراوي حيث أقرّت للجمهورية الصحراوية بالسلطة الكاملة والمؤقتة (حتى العودة إلى أرض الوطن) في المخيمات أو «الولايات» الصحراوية التي تقع في منطقة صحراوية قاحلة في جنوب غرب الجزائر. تطبّق الحكومة الصحراوية قوانينها الخاصة في المخيمات وتديرها على أنها ولايات تابعة لدولتها، ولو أنها تقع خارج أرضها. فللجمهورية الصحراوية في الجزائر وزارات ومؤسسات وفروع ومحاكم وجهاز أمن، وطبعاً جيش تحرير. كذلك بنت الحكومة من رمال الصحراء مراكز صحة ومدارس ابتدائية وأرسلت آلاف الطلاب لمتابعة دراساتهم الثانوية والجامعية في الجزائر وكوبا وليبيا وفنزويلا وغيرها من الدول.
إن الشعب الصحراوي ما زال يعاني من الاحتلال المغربي، وتدعي المملكة المغربية أن البوليساريو حركة انفصالية، وكأن الوحدة ممكنة بالقمع والتنكيل وبالتعدي على حقوق الشعوب المشروعة، وليست حركة تأتي من القاعدة الشعبية المبنية على العدل والسيادة الحقيقية واستقلال الشعوب من التبعية الإمبريالية – الشروط الأساسية للوحدة العربية. وهنا لا بد من استخلاص بعض العبر والمقارنة بالثورة الفلسطينية.
أولاً، في الحالتين لم يتحقق تقرير المصير، إلا أن البوليساريو تمسكت بالقانون الدولي وحق الشعب في تقرير مصيره، ولم توافق على حكم ذاتي كما فعلت السلطة الفلسطينية التي اعترفت بسيادة الكيان الصهيوني على 78% من الأرض الفلسطينية.
ثانياً، حظيت البوليساريو بدعم الجزائر، وهي دولة لم تستسلم كلياً للمحور الإمبريالي، وما زالت إلى حد كبير تعتبر دولة تقدمية إذا ما قورنت بالدول العربية الرجعية، وخاصة دول الخليج التي أغرقت الثورة الفلسطينية بالبترو ــ دولار… العامل الأهم الذي أسهم في انحراف الثورة الفلسطينية عن مسارها وجرّ العديد من قياداتها إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني، والتخلي عن الكفاح المسلح، وسلوك طريق المفاوضات العبثية التي أسهمت في انشقاقها وتشرذمها.
ثالثاً، أثبتت الحالتين أنّ «العملية السياسية» والمفاوضات لإيجاد حل سلمي هي أحد الأساليب التي تستغلها الدول المُعتدية والأقوى لترسيخ الاحتلال وتعميقه، وبالتالي لا بد من المقاومة بجميع أشكالها لقلب موازين القوى حتى لا يستطيع المحتل فرض شروطه في أي مفاوضات بين الطرفين.
رابعاً، إنّ الثقافة الثورية والتعبئة السياسية حول مشروع واضح يوحد الأغلبية الشعبية ويرسم معالم الثورة وأهدافه، يبدأ ببناء ثقافة وبنية المجتمع القادم في الحاضر، وتلك شروط للثورة التي تخطط للانتصار يوماً.
لا شك أنّ المجال للمقارنة أوسع من هذه النقاط الأربعة، إلا أنّ الهدف هنا كان فقط للتعريف الأولي بقضيـة الصحراء الغربية التي اختفت عن وسائل الإعلام العربية، وخاصة في الشرق العربي حيث طغت الرواية المغربية وغُيّب صوت الصحراويين. من أجل ذلك كله، يجب أن نقف ولو للحظة لنعزي الشعب الصحراوي بهذا المصاب الجلل، ونلقي التحية لمسيرة المناضل العربي الكبير محمد عبد العزيز الطويلة من أجل تحرير الأرض والإنسان. وداعاً أيها القائد العظيم، وداعاً أيها المناضل، أصبحت شعلة يقتدي بها كل من يرفض الذل والاحتلال والاستعمار… أصبحت في قافلة الشهداء العظماء تلحق برفيق دربك الشهيد والمؤسس الولي مصطفى السيد.
* أستاذة مشاركة في علم الإنسان في جامعة ويسترن ــ أونتاريو/كندا
التعليقات مغلقة.