الحسين وآفاق المستقبل. رؤية معاصرة / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الجمعة 1/10/2021 م …




     إن أيّة ذكرى عظيمة في حياة أي شعب من الشعوب, تفقد دلالاتها عندما تتحول هذه الذكرى عند هذا الشعب أو ذاك إلى مجرد تَمَثْلٍ  سطحيٍّ لا يتجاوز حدود التذكير بها من خلال البكاء والندب عليها وتعذيب النفس والشعور بالذنب والتقصير من قبل مَنْ ارتبط بها تاريخيّا, أو عند مَنْ استمر مرتبطاً بها من الأجيال القادمة, هذا من جهة أولى. أو ربما أن هذا الارتباط ذاته يتحول إلى مواقف متعصبة ومتشنجة, تحمل في مضامينها الضغينة والحقد عند مَنْ ارتبط بها تجاه المختلف, وهنا تكمن خطورة هذه الذكرى على حياة الشعوب لاحقاً, حيث يُعتبر إحياؤها موقفاً سلبياً يعمل على تفتيت مكونات هذه الشعوب, وخلق صراعات دامية ذات طابع ثأريٍّ, أقل ما ينتج عنها حروب أهليّة لن تخدم إلا الأعداء وذوي المصالح الأنانيّة الضيقة من جهة ثانية.

     إذن, بعيداً عن هذا المنطلق المنهجيّ السلبيّ في التعامل مع الذكرى, تأتي مسألة إحياء ذكرى “عاشوراء الحسين” عندنا كموقف تاريخيّ وقيميّ, نستلهم منها ما يساهم في تأكيد ذاتنا وتنمية حياتنا بكل أنساقها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة.

    نقول: “عاشوراء الحسين”, هو اليوم العاشر من شهر مُحَرَّم في التقويم الهجريّ، ويسمى عند المسلمين بيوم “عاشوراء” وهو اليوم الذي استشهد فيه “الحسين بن علي” حفيد النبي محمد (ص) في معركة كربلاء، عندما كان يقاتل من أجل قضيّة كان يشعر ومن قاتل معه أنها قضيّة حق سياسيّ قد اغتصب, ولا بد من القتال حتى الموت من أجلها. بيد أن هذه القضيّة مع مرور الأيام راحت تأخذ أبعاداً ودلالات أكثر من سياسيّة أو حتى دينيّة عند بعد المفكرين الإسلاميين العقلانيين, بل وحتى عند المفكرين الوضعيين.

     بعيداً عن أسطرة هذه الذكرى عند محبي ومشايعيّ الحسين ماضياً وحاضراً, وما رافق هذه الأسطرة من تشويه قيميّ وسلوكيّ عند إحيائها, وخاصة في مسألة طقوس تعذيب الروح والجسد التي وجدوا في تأديتها عند كل ذكرى تقام سنوياً, بعداً تكفيرياً عن ذنب ارتكبه أجدادهم في حق الحسين عندما تخلوا عن مساعدته أثناء حربه مع يزيد, ولم يزل أحفادهم يحملون هذا الذنب معهم,  حتى تحول هذا الذنب ذاته إلى قضيّة سياسيّة لم تنته أبعادها حتى تاريخه بعد أن جير بعض الأحفاد قضيّة الحسين لهم وحدهم, أو أنها حق لهم دون غيرهم من المسلمين, ومن خلالها يجب أن يحوزوا على حقوق سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة في تاريخنا المعاصر, لم يستطع أجدادهم تحقيقها أو الحصول عليها عبر تاريخ صراعهم الطويل مع السلطات الحاكمة المخالفة لخطهم المذهبي, التي حرمتهم إياها حتى سموا أنفسهم بالمحرومين, ناسين أن هذه السلطات الحاكمة ذاتها لم تحرمهم هم فحسب من حق الحياة الكريمة, وحقوق المواطنة, بل حرمت كل المكونات الأخرى التي كانت خاضعة لسلطتها, مذهبيّة كانت أو طائفية أو عرقيّة

     من هذا التفرد المذهبيّ والطائفيّ بإحياء هذه الذكرى, ورسم طقوسها التي أصبحت أقرب في أدائها إلى عالم التقديس المشبع أحياناً بالخيال والوهم واللامعقول, حتى أن بعض محيي هذه الذكرى من المتنطعين حولوا “الحسين” نفسه من خلال هذه الطقوس, إلى شخصيّة أعلى في مقامها ودورها التاريخي من والده ومن جده النبي “محمد” نفسيهما. ولا نجافي حقيقة التوصيف هنا في هذا المقام الحسيني عند بعض المتطرفين جداً حيث جعلوا من شخصية الحسين أعلى مقاماً من الله نفسه.

     إذن من هذا المنطلق الأسطوري والخرافي في إحياء الذكرى عند من ادعوا أنهم وحدهم المحرومون, وهم الأحق بالحسين وحدهم وبقيمه النبيلة, وذلك من منطلق انتساب سلالي لا يمت لأورمة النسب المعترف بها تاريخيّاً, عند الشعوب كما يقول علي شريعتي في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي), وهو محق في ذلك برايي.

      نقول: إنّ الحسين اليوم تحت مظلة هذا البؤس والقهر والظلم والاستلاب والتشيىء والاغتراب الذي تعانيه أمتنا العربيّة والإسلاميّة بمجموعة مكوناتها الدينية والأثنية, أصبح ” الحسين” لنا كلنا في قيمه النبيلة (الإنسانيّة) هذه. وبالتالي فالمحرومون لم يعودوا أصحاب طائفة محددة أو مذهب محدد فحسب, بل المحروم هو كل مَنْ حرم مِنْ حق الحياة في هذا العالم اللامعقول.    

     نعم نحن – المحرومين في هذه الأرض- والمستضعفينَ عليها،  ونحن مَنْ نرى في موقف الحسين في كربلاء ثورةِ على الظلم, وهي ضرورةً – أي الثورة – وخيار تاريخي، تقرّ بأنَّ للشُّعوبِ دائمًا، الكلمة الأخيرة في تقرير مصيرها. وبالتالي تفرض علينا – أي الذكرى – أن نستلهم من قيم الحسين منحًاً آخر، باعتبارهِ أصبح يشكل في موقفه الكربلائي رمزًا للنضال ضد الظلم والطغيان. وأن مسيرةَ الحق طويلةٌ مهما كانَ حجمُ الاستبدادِ والظلم، وأنّ للظلمٍ نهاية،

ما هي دلالات عاشوراء الحسين في تاريخنا العربيّ المعاصر.

أولاً: الدلالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة:

     لقد كان الحسين ولم يزل شاهدا على كل شهداء الظلم والجور طول مسيرة تاريخ الظلم والقهر العربيّ منذ استشهاده في كربلاء إلى اليوم, بل شكل موقفه المقاوم واستشهاده رمزاً ثورياًّ لجميع محروميّ العالم العربيّ بشكل خاص والاسلاميّ بشكل عام, الذين ينادون بتحقيق العدالة والمساواة وإحقاق الحق أمام ظلمتهم من السلطات المستبدة… أي لم يزل رمزاً للشهادة ومظهراً لثورة الحق وبذل الدماء من أجله .

     نحن نعتبر موقف الحسين في مبدئيته اليوم, أو في تاريخنا المعاصر, يمثل لكل المحرومين موقفاً إنسانيّاً ضد الظلم, وغصب الحقوق, واضطهاد القوى الاجتماعيّة  المسحوقة, وترديّ الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة, وشيوع القمع الفكريّ, والتعصب الطائفيّ وتبعيّة سلاطين الدين لسلاطين الدنيا, وانتشار الفقر والفساد.

     إن ذكرى الحسين تزيدنا اليوم تحت مظلة هذه الظروف المزريّة, قوة وإيماناً على مقارعة الظالمين والمستبدين والفاسدين, مثلما تشكل في سياقها الثوريّ الإنسانيّ دعوةً إلى الحريّة والعدالة والمساوة والمحبّة بين مكونات الأمّة العربيّة الدينيّة منها والأثنيّة, والوقوف بوجه الاستعمار والتمييز العنصري وكل قوى الشر والرذيلة, وخاصة القوى التي تدعوا إلى تشرذم هذه الأمة وتفتيتها قطرياً وطائفيّاً ومذهبيّاً على مستوى الداخل والخارج.

ثانياً: الدلالات العروبيّة والقوميّة للذكرى:

     يظل الحسين بن علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله (ص) عربيّاً في نسبه وأورمته السلاليّة. وهذا ما أكده الرسول الكريم محمد بنفسه عن نسبه كما ورد في الحديث الشريف:

“أحب العرب لثلاث، لأني عربيّ، والقرآن عربيّ، وكلام أهل الجنة عربيّ” (1) .

      كما يؤكد عروبة الرسول القرآن نفسه الذي نزل بلسان عربيّ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.). (2).

     من هذا المنطلق يأتي التأكيد عندنا على عروبة الحسين بن عليّ, وأن كل المحاولات التي طُرحت منذ مئات السنين لتغييب هذا النسب العروبيّ عن الحسين وذريته, وربطه بسلسلة إنتسابات أخرى خارج التقويم الحقيقيّ للأنساب المعروف تاريخيّاً – كما بينا في موقع سابق بالنسبة لموقف الفكر الإسلامي عند “علي شريعتي” من هذه القوى الدينية المتنطعة والمتعصبة, – ماهي في الحقيقة إلا محاولات يراد منها تحقيق مشاريع سياسيّة مغرضة, أول ما تهدف إليه هو تشويه الدين نفسه من خلال إخراجه عن مقاصده الإنسانيّة أولاً. ثم العمل على تمييع وإقصاء فكرة العرب والعروبة ثانياً, وبالتالي إضعاف العرب كمكون قومي له جذره التاريخيّ ودوره الحضاري في بناء الدولة العربيّة الإسلاميّة, ومحاولة ربط تاريخ الإسلام نفسه بمكونات عرقيّة غير عربيّة, واعتبار التاريخ الإسلاميّ هو تاريخها هي بالمحصلة, ولها الحق في قيادة مشروعه والدفاع عنه وإعادة نشره وتعميمه وفق رؤى مذهبية لا تنتمي أساساً للإسلام في نصه المقدس من جهة, ولا للحسين نفسه, ولم يقرها لا الرسول ولا آل البيت أنفسهم من جهة ثانيّة, أما من جهة ثالثة, فإن محاولات بعض المتعصبين لمذهبيتهم أو لمواقفهم الأيديولوجيّة السياسيّة تغييب النسب العربي للحسين وذريته, ما هي بالتالي إلا محاولات لفصل العروبة ذاتها عن الإسلام نفسه أيضاً باسم العقيدة الإسلامية ذاتها بعد أن جردوها من خصوصيتها القوميّة العربيّة واعتبروها ديانة أمميّة لا فضل للعرب فيها على أحد كما يفعل الإخوان المسلمون, أو عند بعض المتعصبين لمذهبيهم كما بين ذلك علي شريعتي في كتابه المشار إليه أعلاه. وهنا تكمن الخطورة الحقيقة على العروبة والإسلام نفسه.

     نقول: من هذا المنطلق التخريبيّ التدميريّ للأمة العربيّة والإسلام نفسه, باسم الدين والحسين, الذي يرمي إليه أعداء الأمّة والدين والحسين نفسه, يأتي مشروع ربط العروبة بالإسلام له حضوره التاريخيّ بالنسبة للعرب أولاً. ومن هذا المنطلق ذاته تأتي مسألة التأكيد على عروبة الحسين وعلى ذكرى عاشوراء كرمز لهذه العروبة والعمل على التمسك بها وتنمية حضورها في وعي المواطن العربي ثانياً. فعاشوراء “الحسين” بالنسبة لنا نحن العرب المسلمين والمسيحين وكل مكونات عالمنا العربيّ, تحت مظلة هذه الظروف اللاعقلانيّة التي تعيشها أمتنا العربيّة هي قضيّة تشكل قوّة روحيّة ومعنويّة تغذي فينا روح التمسك بوطننا وأرضنا والدفاع عن مقومات حضارتنا ووجودنا. فعاشوراء إذن بالنسبة لنا كما بينا في موقع سابق, ليست طقوساً شكليّة تقوم على الندب وتعذيب الذات,  أو المغالاة في التركيز على شخصيّة الحسين وآل البيت من ذريّة الحسين من أجل طمس معالم أية شخصيّة إسلاميّة أو عربيّة كان لها دورها في التاريخ العربيّ والإسلاميّ, فالحسين نفسه في كل دلالات شخصية يرفض هذا التقديس لو كان على ظهرانينا, كونه بشر مثل بقيّة البشر الذين لم يختلف عنهم لا والده عليّ, ولا أمّه فاطمة, ولا جده الرسول الذي جاء قوله تعالى مؤكداً بشريته : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). (3). أو كما يقول الرسول ذاته عن نفسه: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة، فاتركوه.). (4). 

     نعم هكذا نفهم الحسين نحن العرب, على أنه سبط رسول الله, وهو إنسان يرفض المغالاة والتنطع متمسكا بتعاليم رسول الله الذي قال: (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ . قَالَهَا ثَلَاثًا ). (5).

     والحسين عندنا اليوم صاحب قيمٍ نبيلةٍ أكدها في مواقف حياته ومنها عاشوراء, حيث التزم الحق والدفاع عنه حتى ولو كان الثمن التضحية بنفسه. وهذا ما يؤكد عندنا هذه القيمة النبيلة من أجل الدفاع عن حقوقنا وعدالتنا ومساواتنا, فهذه وفق موقف الحسين تعتبر حقوقاً طبيعيّةً لا يُفرط بها, ومن يفرط بها يفرط بكرامته, ومن يفرط بكرامته سيفرط بكل شيء وفي المقدمة وطنه وعرضه.

ثالثاً: دلالات المقاومة في ذكرى عاشوراء:

     عندما حمل الحسين سلاحه لقتال من اغتصب حقه السياسيّ, كان يؤكد يومها في فعله هذا على مسألة أساس وهي, أن اغتصاب الحق, أي حق, وبأي شكل كان هذا الاغتصاب, فهو يفرض على صاحب الحق أن يدافع عن حقه دفاعاً مستميتاً, وأن لا يستسلم للظلم والقهر والاستعمار وسلبه أرضه أو ملكه, ومن يستسلم للظلم والقهر سيضيع حقه لا محال, وبضياعه يفقد الإنسان وجوده وكرامته وإنسانيته. لذلك لم يستسلم الحسين لظلم يزيد الذي سلبه حقه, فحمل السيف من أجل الدفاع عنه, مع معرفته أنّ إمكانيات قوّة استرجاع حقه ضعيفة أمام قوّة عدوه غاصب حقه, وبالرغم من وجود الكثير من صحبه الذين تخلوا عنه خوفاً أو جبناً أو مؤامرةً, إلا أنه لم يهرب من مواجهة عدوه, وقرر أنّ يخوض حرباً ضده مع معرفته المسبّقة بأنها مواجهة خاسرة.

    نعم من هذا الموقف المبدئي المقاوم للحسين في كربلاء, علينا أن نتعلم قيم المقاومة, فالمقاومة في تجربة الحسين عندنا, وفي تاريخنا المعاصر, ليست حمل سلاح ومواجهة وتضحية بالنفس من أجل استرجاع حق سياسي مغتصب أو أرض مغتصبة فحسب, بل هي أكثر من ذلك بكثير. المقاومة في رمزيتها هي مشروع حياة… هي عملية تأسيس وبناء عقلانيّ ثوريّ للروح والجسد معاً, من أجل الدفاع عن الحقوق وتنمية الواجبات, والحقوق والواجبات في فعل المقاومة هي بناء الإنسان أولا عقلاً وروحاً, وبالتالي هي بناء أمّة ووطن ثانياً, ومن يعمل على بناء الإنسان والأمّة والوطن, يجب أن يبني حياته ووطنه على أسس علميّة عقلانيّة, وإنّ أول ما تجذره عمليّة البناء هذه, هو التأكيد على المواطنة واحترام الرأي والرأي الآخر, والحد من فاعليّة المرجعيات التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب. أي هو بناء الدولة المدنيّة, دولة المؤسسات, هذا مع التأكيد بأن الدولة المدنيّة لا تبنى على العواطف والرغبات الذاتية أو على الشعاريّة, أو تمثل طقوس إحياء ذكرى ماضية لا تمت في طقوسها إلى العقل والمنطق العقلانيّ بصلة, بل هو بناء يقوم على اتباع المنهج العلميّ العقلانيّ, أي المنهج الذي يرفض المواقف الذاتيّة والإرادويّة والحدسيّة والتأمليّة في التفكير والممارسة, مثلما هو المنهج الذي يرفض الإطلاق والاستسلام والامتثال, كما يرفض الاقصاء للمختلف والتنطع والادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة… أي هو في المحصلة المنهج الذي يؤمن بالحركة والتطور والتبدل واحترام الرأي والرأي الاخر, وهو المنهج الذي يؤمن بنسبية الحقيقة, والطرح الدائم للأسئلة المعرفة العقلانيّة, وهو بالتالي المنهج الذي يؤمن بالإنسان سيد قدره ومصيره وأنه خليفة الله على هذه الأرض.

رابعاً: دلالات البعث في ذكرى عاشوراء.

     هناك فرق كبير بين أن يكون البعث استعادة للماضي بِعُجْرِهِ وَبُجْرِهِ, وبين أن يكون البعث استلهاماً للقيم الايجابيّة في هذا الماضي بما يخدم الحاضر والمستقبل. والاستلهام هنا يأتي موقفاً عقلانيّاً جدلياًّ بين ما يسمى الأصالة والمعاصرة. وعلى هذا التوجه العقلاني في الربط بين الماضي والحاضر, بين الأصالة والمعاصرة.. بين التراث والحداثة, تأتي ذكرى عاشوراء الحسين في رمزيتها. فموقفنا من هذه الرمزيّة لا يأتي موقفاً مسرحيّا تمثلياًّ يذكر بالحدث في شكلانيته كما بينا في موقع سابق, من جهة, كما أنه لا يأتي موقفا دوغمائياً يعتبر الحدث بحد ذاته هو الهدف في استرجاع تاريخيته والبناء عليه كموقف صراع سياسيّ على السلطة بين فئتين من المسلمين كل منهما كان يعتبر نفسه هو الفرقة الناجية, ومن حقه أن يحوز على الماضي والحاضر والمستقبل من جهة ثانيّة.

     إنّ هذه الموقف العقيدي البراغماتي من ذكرى عاشوراء الحسين اليوم, لدى بعض ممن يشايع الحسين ويعمل على مصادرته وإخراجه من عالم العموم إلى عالم الخصوص, من عالم الإنسانيّة إلى عالم الطائفيّة, ومن عالم البشريّة إلى عالم التقديس والأسطرة, ما هو في الحقيقة إلا موقفاً يكرس بعداً طائفيّا مقيتاً, مثلما يمثل حالات من الصراع الدامي الذي شغل حيزا كبيراً في تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة, لم نزل نَعِشْهُ حتى اليوم تحت ذرائع وأوهام كثيرة.

     إذن إن قضية البعث وفق فهمنا لرمزيّة عاشوراء الحسين, هي قضيّة استلهام لقضايا تراثنا العقلانيّة التي تدعو إلى المحبة والتسامح بين مكونات المجتمع العربيّ, واحترام الآخر في عقيدته وفكره, وهي قضيّة استلهام تاريخ أمّة استطاعت ان تبني حضارة إنسانيّة غذت الحضارات الأخرى وتغذت منها, وهي قضيّة أمّة كافرة  بالاستبداد والاستغلال وكل أنواع التمييز العنصري كما جاء في أدبيات البعث ذاته,. أي هي قضيّة (مبدأ) لا تفرق بين إنسان وإنسان, لا في لونه ولا في دينه ولا نسبه طالما هو يؤمن بهذه الأمّة ويعمل على تحقيق أمنها واستقرارها وتنميتها والدفاع عنها ضد أي غازي محتل, وهذا هو مفهوم رسالتنا الحضاريّة التي نحملها ونعمل على تكريسها. وهذا هو مفهوم المقاومة أيضاً في فكر وسلوك  من يؤمن ببعث الأمة العربية من كبوتها وفواتها الحضاري, و اتخاذ المقاومة أسلوباً وموقفاً حياتيّاً نضاليّا, إن كان تجاه المستعمر وفي مقدمته الحركة الصهيونيّة المحتلة لأرضنا, والمشردة لشعبنا, أو تجاه التخلف بكل أشكاله الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة.

ملاك القول:

     يظل البعد الإنسانيّ بكل دلالاته, هو جوهر تمثلنا لقيم الحسين, هذا الجوهر الذي يدعوا إلى الألفة والمحبة بين الناس جميعا, لا يميز بين الناس في دينهم أو طائفتهم أو مذهبهم أو عرقهم أو لونهم. مثلما تمثل لنا قيم الحسين موقفاً مقاوما عنيداً تجاه كل ظلم يقع على الإنسان ماديّاً كان أو قيمياًّ. ويأتي في مقدمة هذا الظلم ظلم المستعمر والمستبد.

     ملاحظة: هذه الدراسة نشرت مؤخراً في كتاب صدر عن جامعة دمشق بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب في سورية بعنوان: (الحسين وآفاق المستقبل)  وقد أقيمت له احتفالية رسمية في جامعة دمشق يوم الاثنين /27/ 9/ 2021

كاتب وباحث من سوريّة

[email protected]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) . أخرجه ‏الحاكم من حديث ابن عباس، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد.

(2) – {يوسف:2}.

(3)- (سورة الهف -110)

(4) – جامع بيان العلم وفضله (2\32).

(5) – رواه مسلم (2670) ,

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.