المفكر الإقتصادي غازي أبو نحل يكتب: ديون العالم … أرقامٌ مخيفة ومبادرات للانقاذ

مدارات عربية – الأحد 10/10/2021 م …

كتب غازي أبو نحل* …




* رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D

* الرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية  …

امام الكونغرس الاميركي اقل من ثلاثة اسابيع لمعالجة سقف الديون وتجنّب كارثة اقتصادية شبه مؤكدة” رسالة وجهّتها وزيرة المال الاميركية جانيت يالين، التي كانت تشغل سابقاً منصب رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الامريكي نهاية شهر ايلول/ سبتمبر الماضي، حذّرت فيها من نفاذ التمويل للحكومة الفدرالية الاميركية منتصف شهر تشرين الاول/ اكتوبر الجاري، في حال لم يتم رفع سقف الدين العام الاميركي، وهذا ما حذرت منه أيضاً رئيسة المصرف المركزي الاوروبي كريستين لاغارد  التي كانت تشغل منصب رئيسة صندوق النقد الدولي سابقاً.

فكرة التيسير الكمّي، أي اعتماد المصارف المركزية والمؤسسات المالية على تملّك سندات إقراض للبلدان النامية أو أسهم في شركات قائمة كانت تبدو مهددة بالاقفال، توسعت وتعمقت بعد الازمة المالية العالمية نهاية العام ٢٠٠٨، وتبيُّن حاجات بعض الدول والشركات الكبرى لتمويل سريع مقابل فوائد معقولة ولفترات طويلة. وهي ظهرت بوضوح عام 2009 خلال تولي بن برنانكي حاكمية الاحتياطي الفيدرالي، وانقذت العديد من المصارف، بعد افلاس “ليمان براذرز” بخسارة بلغت اكثر من 60 مليار دولار،  ومكنت شركات كبرى من النفاذ من براثن الافلاس والاستمرار، مثل شركة كرايزلر لتصنيع السيارات وشركة التأمين العالمية AIG التي استوجب انقاذها أكثر من ١٨٠ مليار دولار وسيتي بنك الاميركي

هذه الفكرة التي انقذت دولاً أيضاً، مثل اليونان واسبانيا والبرتغال وايرلندا…. توسّعت وتعمّقت مع بدء انتشار جائحة كوفيد ١٩، التي اغلقت اقتصادات العالم في شكل كلي او جزئي، ممّا دفع الحكومات والمصارف المركزية للتوسع في مفهوم التيسير الكمّي، بحيث شمل تقديم مساعدات واعانات وقروض وتسديد رواتب للموظفين العاملين في منازلهم… لتوفير استمرارية الاعمال والحؤول دون حصول كوارث مالية واجتماعية عدة.

فكرة التيسير الكمّي التي انقذت دولاً وشركات وأفراداً باتت في مراحلها النهائية مبدئياً، الا في حال حصول مستجدات سلبية غير محسوبة، أدت الى بروز ازمة عالمية تتمثل بارتفاع حاد في الديون على المستويات العامة والخاصة.

أظهر تقرير حديث صدر عن معهد التمويل الدولي، ارتفاع حجم الديون العالمية إلى مستويات غير مسبوقة بلغت نحو 300 تريليون دولار، على الرغم من التراجع في نسبة الديون الى الناتج المحلي الاجمالي للمرة الأولى منذ بداية الجائحة، وذلك على خلفية ارتداد الاقتصاد العالمي إلى النمو. وبحسب التقرير، شهد إجمالي الدين الذي يمثل جميع مديونيات الحكومات والأسر والشركات والبنوك، زيادة بلغت 4.8 تريليون دولار، ليصل إلى 296 تریلیون دولار بنهاية الربع الثاني من عام 2021، بزيادة قدرها 36 تريليون دولار مقارنة بمستويات ما قبل الجائحة. وانخفضت نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي لتصل الى 353 في المئة نهاية حزيران/ يونيو الماضي، مع تزايد وتيرة تعافي الاقتصاد العالمية بعدما سجلت مستوى قياسياً عند 362 في المئة في الربع الأول.

من ناحية أخرى، ارتفع حجم ديون الأسواق الناشئة بأسرع وتيرة له، إذ زادت تلك الديون بمقدار 3.5 تريليون دولار في الربع الثاني من عام 2021 لتصل إلى حوالي 92 تريليون دولار، في حين بلغ حجم ديون الأسواق الناشئة، ما عدا الصين، مستوى قياسياً عند 36 تریلیون دولار مع ارتفاع حجم الاقتراض الحكومي في تلك الأسواق.

وفي تقرير سابق، قدر معهد التمويل الدولي أن الحكومات والشركات والأسر اقترضوا نحو 24 تريليون دولار خلال العام الماضي، لتخفيف آثار الدمار الاقتصادي الناتج عن الوباء، ما رفع اجمالي الديون العالمية إلى أعلى مستوى على الإطلاق عند 281 تريليون دولار مع نهاية 2020 أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 355 في المئة. وأشار التقرير إلى زيادة الحكومات، صاحبة العجوزات الكبيرة في الموازنات، الديون بحوالي 10 تريليونات دولار إضافية خلال العام الحالي، نظراً إلى أن الضغوط السياسية والاجتماعية التي تجعل من الصعب خفض الإنفاق، ما سيدفع عبء الديون لهذه الفئة الى ما يزيد على 92 تريليون دولار مع نهاية عام 2021.

لا شك في الأسواق الناشئة والمتقدمة على حد سواء ستبحث عن توازن مثالي، وفي حين قد يساعد التعافي الاقتصادي بعض الحكومات على وضع استراتيجيات لخفض المحفزات، فإن القيام بذلك في وقت مبكر للغاية يمكن أن يفاقم حالات التعثر والإفلاس، كما أن الانتظار طويلاً جداً يمكن أن يقود الى أعباء ديون خارجة عن السيطرة مع الاشارة الى ان الشركات المالية شهدت أكبر قفرة في مستويات الديون منذ أكثر من عشر سنوات. وفي الأسواق الناشئة، شهدت جنوب أفريقيا والهند أكبر زيادات في نسب الدين الحكومي العام الماضي، وكان اقتراض الشركات هو الأكبر في البيرو وروسيا. كما وقفت ديون العالم النامي المقومة بالعملات الأجنبية قرب 8.6 تريليون دولار في 2020، نتيجة تسبّب الخسائر الحادة في عملات الأسواق الناشئة بإحباط رغبة الشركات في الاقتراض بالعملات الأجنبية.

ولعل من المفيد الاشارة الى ان نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي قد تجاوزت بالأسعار الجارية، 150 في المائة لدى ثماني دول حول العالم بنهاية العام الماضي 2020، بينها ثلاث دول تفوق دیونها 250 في المائة إلى ناتجها المحلي.

وتتصدر فنزويلا الدول الثماني بنسبة دين إلى الناتج تبلغ 350 في المائة واليابان 266 في المائة والسودان 259 في المائة واليونان 206 في المائة ولبنان 172 في المائة وايطاليا 156 في المائة وليبيا 155 في المائة.

وتشير البيانات إلى أن قائمة أعلى دولة من حيث نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي تشمل ثلاث دول عربية هي السودان (قبل حصولها على اعفاء من بعض ديونها)، لبنان وليبيا. على الجانب الآخر، حلت دولتان عربیتان بین اقل عشر دول في العالم في نسبة الدين للناتج المحلي وهي الكويت 11.5 في المائة وفلسطين 16.4 في المائة من الناتج.

وجاءت السعودية بين اقل 30 دولة حول العالم في نسبة الدين الى الناتج المحلي بـ32.5 في المائة، بعد بلوغه 853.5 مليار ريال بنهاية عام 2020، فيما كان الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية في العام ذاته نحو 2.63 تريليون ريال.

خليجياً، جاءت الكويت الأقل ديوناً كنسبة من الناتج المحلي بـ11.5 في المائة ثم السعودية 32.5 في المائة والإمارات 36.9 في المائة وعمان 55.9 في المائة وقطر 71.8 في المائة والبحرين 128 في المائة.

وجاء ترتيب الدول العربية من حيث الأقل كالتالي: الكويت 11.5 في المائة، فلسطين 16.4 في المائة، جزر القمر 26.8 في المائة، السعودية 32.5 في المائة والإمارات 36.9 في المائة، خلفها جيبوتي 42.2 في المائة، موريتانيا 53.1 في المائة، عمان 55.9 في المائة، الجزائر 57.2 في المائة، العراق 68.3 في المائة، قطر 71.8 في المائة، المغرب 77.4 في المائة واليمن 81.7 في المائة. بينما مصر 88 في المائة، الأردن 92.4 في المائة، البحرين 128 في المائة، ليبيا 155 في المائة، لبنان 172 في المائة، والسودان 259 في المائة.

في المقابل، قدّر صندوق النقد الدولي، خسائر الناتج الإجمالي العالمي المتوقعة جراء جائحة كورونا، بنحو 15 تريليون دولار، خلال الفترة بين عامي 2020 و2024، بما يعادل نحو 2.8 في المئة من قيمة الناتج العالمي. وتوقعت دراسة أعدت لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد”، أن يخسر الناتج المحلي الإجمالي العالمي أكثر من 4 تريليونات دولار خلال عامي 2020 و2021، جراء انهيار السياحة الدولية، الناتج عن تداعيات جائحة فيروس كورونا. وخلال الفترة من 2022 وحتى 2025، ستخسر دول جنوب أفريقيا بسبب بطء حملات التطعيم فيها 2.9 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي مقارنة بالتوقعات السابقة، مقابل خسارة قدرها 0.1 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي التي ستتكبدها دول أوروبا الشرقية، مع توقعات بأن تكون منطقة آسيا والمحيط الهادي الأكثر تضرراً من بطء حملات التطعيم، لأنها ستخسر 1.7 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة الممتدة بين 2022 و2025.

من جهة أخرى، توقع البنك الدولي، أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 5.6 في المئة خلال عام 2021، مقابل انكماش في عام 2020 بنسبة 3.5 في المئة، وهو أعلى معدل للنمو في فترات ما بعد الركود منذ 80 عاماً، وكذلك في فترة ما بعد الجائحة، ورجح التقرير ألا يكون الانتعاش في معظم مناطق الأسواق الناشئة والبلدان النامية كافياً للتغلب على الضرر الناجم عن الجائحة.

وأوضح البنك الدولي أنه “بحلول عام 2022، يتوقع أن يظل الناتج في كل المناطق دون توقعات ما قبل الجائحة، بسبب استمرارها وتبعاتها، التي من بينها ارتفاع أعباء الديون، والأضرار التي لحقت بكثير من العوامل المحركة للناتج المحتمل”. ويضيف التقرير، “من المتوقع أن يكون الانتعاش في الاقتصادات الصغيرة التي تعتمد على السياحة ضعيفاً، ما دامت القيود المفروضة على السفر قائمة”. وهذا ما كنا أشرنا اليه في مقالنا الأخير تحت  عنوان “عودة النمو والتضخم”.

لا بد من الإشارة أخيراً، الى ان كل دول العالم لم تكن على استعداد لاستقبال جائحة كورونا التي عصفت بكل المؤشرات والبيانات، وتسببت بانكماش اقتصادي عنيف في غالبية الاقتصادات المتقدمة، كما أنهكت الاقتصادات الناشئة.

العام 2019 أعطى مؤشرات الى اقتراب العالم من أزمات اقتصادية، بخاصة مع زيادة حجم الإنفاق العالمي بنسب كبيرة خلال فترة ما قبل الوباء، إضافة إلى ظهور بوادر لارتفاع معدلات التضخم، وأيضاً ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، وهذه المؤشرات كانت تؤكد اقتراب حدوث أزمة، بخاصة وأن الأسواق كانت بحاجة لعمليات تصحيح، سواء كانت أسواق الأسهم أو العقارات على مستوى العالم. لكن جائحة كورونا وما تبعها من تداعيات سلبية خطيرة على الاقتصاد العالمي، دفعت كل الحكومات الى الاعلان عن خطط تحفيز كلّفتها مبالغ ضخمة، وكل الاقتصادات لم تكن مستعدة لتوفير هذه المخصصات إلا من خلال الاقتراض والديون علماً أن المبالغ التي أعلنت عنها المؤسسات الدولية في اطار الاقتصادات، لم تكن كافية للخروج من الأزمة التي تسببت بتضاعف الانفاق العام بخاصة في القطاع الصحي الذي استنرف مبالغ ضخمة خلال العامين الحالي والماضي.

أزمة الديون ليست وليدة اليوم، ولكن هناك تراكمات سابقة في ظل اعتماد عدد كبير من الدول على الاستدانة والاقتراض لتمويل العجوزات، وإذا كان الاقتصاد الأميركي وهو أكبر اقتصاد في العالم مثقلاً بالديون حتى من قبل ظهور جائحة كورونا وتداعياتها الخطيرة، فكيف سيكون الحال في الاقتصادات الناشئة والدول الفقيرة.

أعتقد أن الوضع أصعب بكثير مما يتخيله البعض وفي حاجة إلى أفكار ومبادرات خلّاقة.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.