الإنسان من الضرورة الحكميّة إلى وعيها / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 14/10/2021 م …
في المفهوم:
الضرورة الحكميّة: هي حالة فرديّة واجتماعيّة تقيدنا بها الظروف الحياتية التي تفرضها علينا الطبيعة بقوانينها العمياء، وقد يكون سببها أيضاً الإنسان نفسه الذي يصنع قيوده بيده ويكبل نفسه بها حتى يصل هذا التكبيل إلى مرحلة التحكم في سيرورة وصيرورة حياته ذاتها.
أو بتعبير آخر الضرورة في حياتنا كالقيد الذي يمنعنا عن القيام بأشياء تعبر عن إنسانيتنا بشكل عقلانيّ، ولذلك علينا الخلاص من هذا القيد أولًا، لكي تستطيع المُضي قدما نحو تحسيد إنسانيتنا وإثبات ذواتنا. من هنا نقول إن درجة “وعينا” للضرورة الحكميّة, أي للظروف المادية والفكريّة التي تتحكم بسيرورة وصيرورة حياتنا, هي من ينقلنا من الإنسان اللاتاريخيّ , أي الإنسان المشيء والمستلب والمغرب, إلى الإنسان التاريخي الذي وصل إلى مرحلة الخلافة على هذه الأرض.
على العموم نقول في هذا الاتجاه: يُعرّف الإنسان علميّاً, بأنه الكائن الحي العاقل الوحيد المالك لدماغٍ عالي التطوّر الذي حقق تطوره هذا عبر (العمل) الذي امتد لآلاف السنين، بحيث منحه هذا العمل القدرة على خلق علاقات اجتماعيّة أنتجت بالضرورة وسائل التواصل بينه وبين محيطه الاجتماعيّ, مثلما منحه هذا العمل, أو النشاط المادي, القدرة على التفكير المجرد والنطق واستخدام اللغة والتفكير الذاتيّ الداخليّ، وإيجاد حلولٍ للصعاب التي تعترضه أثناء انتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة. وعلى هذا الأساس تكونت رؤاه ومواقفه الفكريّة والأيديولوجيّة تجاه الكون والطبيعة والمجتمع واتجاه حياته الخاصة.
إذن إن الإنسان الذي راح عبر نشاطه الماديّ يكون علاقاته الاجتماعيّة, أخذ يفكر أيضاً في طبيعة هذه العلاقات التي فرضت عليه نفسها, مثلما فرضت عليه قيماً وسلوكيات أوصلته هو ذاته إلى حالات ضياع فقد عبرها معرفة الظروف التي يعيشها وأسباب مشاكله فيها, لذلك راح يتخبط معرفيّاً في إجاد الحلول لمشاكله بعد أن ضاع في منتجاته الماديّة والروحيّة من جهة, وبسبب جهله للقوانين الطبيعيّة والاجتماعيّة التي تتحكم في مسيرة حياته أيضاً دون إرادته والتي فرضت نفسها عليه وجعلته يفكر بطريقة بعيدة كل البعد عن واقعه وكأن هناك قوى أخرى تتحكم بمصيره من خارج تاريخه من جهة ثانية. وعلى هذا الأساس من الضياع والتشتت المعرفيّ تأتي مسألة التمييز بين الإنسان التاريخيّ الذي أخذ يعي ذاته والمحيط الذي يعيش فيه, وبين الإنسان اللاتاريخيّ الذي ظل تائها في جملة الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة التي انتجها هو بنفسه.
إذن هناك فرق شاسع بين الإنسان التاريخيّ والإنسان اللاتاريخيّ. فالأول إنسان عقلانيّ, يؤمن بالعيانيّ والملموس, والنسبي, وأن الظواهر في بعديها الماديّ والفكريّ, هي في حالة حركة وتطور وتبدل بشكل دائم. والعقل لديه هو مجموع معارفه التي اكتسبها من خلال نشاطه وكدحه عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع تاريخيّاً, وبالتالي راحت هذه المعارف المكتسبة تشكل ذاكرته وتراثه وثقافته ومقومات وجوده ومرتكز انطلاقته نحو المستقبل. والإنسان التاريخيّ, لا يتكئ كثيراً على الماضي إلا بما يخدم حاضره ومستقبله ومستقبل أجياله القادمة, لذلك هو يعمل دائما على استلهام هذا الماضي, أي هو يستمد من أحداثه كل ما هو ايجابيّ وقادر على المساهمة في تجذير وجوده وتنمية هذا الوجود, وفتح أفاق المستقبل المشرق والمضيء واسعاً أمامه. والإنسان التاريخيّ هو من يؤمن أيضاً بأن سعادته في تحرير عقله وحواسه وجسده من كل المعوقات التي تَحُولُ دون هذا التحرير, سياسيّة كانت أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة, أي عتقه من كل ما يكبل عالمه الإنسانيّ ويحول دون تحقيق ما يطمح إلى تحقيقه من قيم إيجابيّة, أو ما يشعره أنه سيد نفسه وقدره ومصيره. أما فردوسه فهو واقعه الذي يعش فيه الآن, أو ما يحلم بإقامته مستقبلاً. ليس لدى هذا الإنسان التاريخيّ رموز أو طقوس أسطوريّة ينتمي إليها ويقيد حياته بها كي تعمل على فصله عن حاضره المعيوش, وإشعاره بتمايزه واختلافه عن الآخر, وليس لديه انتماءات ضيقة يشعر أن خلاصه فيها. (عشيرة قبيلة مذهب طائفة). فرموزه هي وطنه ومكونات هذا الوطن.. مثلما هي ما يحققه من إبداع يفجر عبره كوامن عوالم إنسانيته وكشف أسرار مجاهيلها التي توصله إلى جوهر إنسانيته ورفعة وطنه وتعميق حس المواطنة لديه. إن انتماءاته الحقيقية هي وطنه أولاَ, وعقله الحر المبدع ثانياً, وإرادته الحرة في صنع مستقبله ومستقبل وطنه ثالثاً. وإن عالمه الذي يجد فيه ذاته أخيراً, هو عالم الإنسانيّة الرحب الذي ليس له حدود إلا حدود الابداع والمحبة والعدل والسعادة للجميع.
إن الإنسان التاريخيّ هو من ينظر دائماً إلى الماضي من خلال ما يخدم الحاضر والمستقبل… وهو من يبحث عن قوس قزح يجد في تعدد ألوانه سر جماليّة حياته وحياة الآخرين.
أما الإنسان اللاتاريخيّ أو الجموديّ, أو الماضويّ, فهو إنسان لاعقلانيّ, يرفض قبول العيانيّ والملموس على أنه عالمه الحقيقي الذي ينتمي إليه, وأنه سر وجوده, ليتمسك بعالم افتراضيّ .. عالم من الوهم والخيال الذي رسمت له ملامحه في ذهنه أيديولوجيّا صماء مفوته تاريخيّاً, أو مصالح أنانيّة ضيقة. إن الإنسان اللا تاريخيّ, هو من يؤمن بالمطلق المشبع بالسكون والجمود, وهو الرافض بالضرورة للنسبي المشبع بقوانين الحركة والتطور والتبدل. أما العقل لديه فهو ظاهرة فيزيائيّة تتحرك بقدرة من خارج التاريخ, أو من داخل عقله المعزول عن محيطه, أي هو عقل يحمل معارفه المنجزة والعالمة بتابوت من خارج التاريخ أو من عالمه الذاتي الديكارتي, وبهذا العقل الفيزيائيّ والديكارتيّ اللاواقعي واللاجدلي, يمارس نشاطه لكسب الماضي والحوز على أسراره الأبديّة, وكسب أوهام سعادته التي يجدها فقط في استعادة ماضيه, حيث يكمن فردوسه الذي لا يتوانى عن قتال وسفك دماء كل من يحول بينه وبين رغبته في هذه الاستعادة. وهو الذي تكثر لديه الرموز والطقوس في حديثه ولباسه وسلوكه كي يشعر الآخرين المختلفين عنه, بتمايزه عنهم, وتعاليه عليهم … الإنسان اللاتاريخيّ, لا يرى كل ما حوله إلا من خلال أيديولوجيته الماضويّة الجموديّة المفوّته تاريخيّاً, أو من خلال مصالحه هو ذاته, وأن هذه الرموز والطقوس والأيديولوجيا, هي التي تشكل بالوقت ذاته انتماءاته, وتجعله شارداً أو مغرباً عن حياته الدنيويّة ومندمجاً في عالم الروح والقداسة وكل ما هو متعال على الواقع والعقل. إنه ينظر إلى الأسفل من خلال الأعلى, وإلى الحاضر من خلال الماضي, ويقيس الشاهد على الغائب. ويبدي النقل على العقل, وهو من يبحث دائماً عن لون رمادي يعتقد أنه صالح لكل زمان ومكان.
كاتب وباحث من سورية
التعليقات مغلقة.