من هي أم الجنود التي استشهدت في ريف اللاذقية ؟
الخميس 9/6/2016 م …
الأردن العربي … خلال خمس سنوات وهبت “أم خليل” وقتها وجهدها لجنود بلادها من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، حملت روحها على كفها وراحت تدور على الجبهات ومعها قبل كل شيء حنان الأم الذي لطالما افتقده الجنود نتيجة ظروف المعركة، فكانت لهم الأم الحقيقية فما كان منهم إلا أن حملوها لقب أم الجنود.
يعرفها أبناء دير الزور، والرقة، والحسكة، وحماه، وإدلب، ودرعا، وحلب، وكل المحافظات السورية، فقد كانت معهم في كل موقعة احتاجوا لها فيها، لم تكن تنتظر أن يقول لها أحدهم اذهبي، كانت من تلقاء نفسها تحمل روحها وتمضي إليهم.
على جبهات حماه قال لها جندي سوري من الرقة لا أعرف شيئاً عن أمي ولم أستطع التواصل معها منذ فترة طويلة، فردت عليه أنا أمك، وفي اليوم التالي طهت له طعاماً شهياً وذهبت إلى حيث يقف على المحرس وضعت السفرة على بعض الحجارة التي رتبتها ونادته تعال يا أمي لنأكل معاً وكانت الأرض مائدتهما، ومن ثم غمرته وجمعت له ثيابه التي تبللت بعرق الحرب وغسلتها بأيديها التي جبلت من تراب هذه الأرض الطيبة.
آلاف الجنود على مختلف الجبهات يعرفونها، هي “سهام الشبل” التي كانت سهام طيبها تغرس في القلب حياةً جديدة، وتضمد جراحاً أوقعتها حرب لاتعرف الرحمة، كانت كلماتها كافية لتمنح الجنود من المعنويات مايكفيهم ليقاتلوا بلا ذخيرة.
لم تكن “سهام” كغيرها من أولئك الذين أسسوا تجمعات وراحوا يركضون خلف الشاشات، فالشهرة لم تكن تعنيها والظهور كان آخر همها، جل اهتمامها كان منصباً على خدمة هذه البلاد، كل البلاد يقول المهندس “جبريل محمد” الذي عرفها خلال سنوات الحرب.
تعرضت “أم الجنود” للكثير من المخاطر التي لم تكن لتضعف من عزيمتها، جمعت من حولهاً أمهات الشهداء وأسسن معاً مطبخاً يطهى فيه الطعام الذي كانت تنقله بيديها إلى الجبهات التي كلما كانت تصل إحداها كانت تقلبها رأساً على عقب، يقول النقيب “يامن”:كان الجنود ينتظرون قدومها كل فترة وأخرى لكي تعوضهم عن غياب أمهاتهم، خصوصاً أولئك الجنود الذين وضعتهم الحرب في موقعة ووضعت ذويهم في موقعة جغرافية أخرى بعيدة ولا تواصل بينهم.
لم تسعى المناضلة كما يحلوا للإعلامية “صبا منصور” تسميتها لكي تأخذ دور أحد وإنما كانت تأخذ دورها على اعتبار أنها إمرأة سورية تقول “منصور” وتضيف:اهتمت بالجنود وبعوائلهم، بالنازحين وأحوالهم، بالجرحى والمختطفين، دون تمييز، حتى معارفها وأصدقاؤها كانت مهتمة تتابع أحوالهم وتسعى لمساعدتهم.
لم تغفل يوماً في عملها مشاعر الأشخاص الذين تستهدفهم في عملها، وكانت حريصة على أن يشعروا بأنهم يتعاملون مع أمهم تماماً، وهذا ماجعلها تبذل جهوداً مضاعفة، وعلى سبيل المثال كانت تجمع الثياب المستعملة التي تصلها من تبرعات الناس ومن ثم تقوم بغسلها وكيها ومن ثم توضيبها بشكل جيد وترتبها وفق مقاساتها، وبعد ذلك تنطلق لتوزيعها مع ابتسامة عريضة لم تكن تفارقها في أكثر الأوقات صعوبة، تقول “هند” وهي مهجرة من إدلب:زارتني في منزلي ومعها الكثير من الحاجيات لأطفالي ولزوجي المريض، لم تشعرني ولو للحظة بأنها قدمت لي شيئاً، وإنما كانت تشعرني بخجلها أمامي أنني أنا من قدمت لها المساعدة، إنها أم لا تتكرر.
أم الجنود التي أعطت السوريين جل وقتها لم تغفل ولديها “خليل، و وجد” وتابعت دراستهما ورعايتها، حتى أن نجلها “خليل من طلاب المركز الوطني للمتميزين، بينما كان “وجد” يرافقها كثيراً في عملها ويساعدها في تأديته.
لم تكن الأبواب مفتوحة في وجه “أم الجنود” لكنها بعزيمتها فتحت كل الأبواب الموصدة، واحتالت على الروتين والبيروقراطية، لكي تستمر في عملها الذي لم يتوقف طوال السنوات الماضية، وظل يتطور يوماً بعد يوم وإن كان محوره الأساسي تأمين احتياجات الجنود على الجبهات من اللباس إلى الطعام وليس انتهاءً بحنان الأم وطيبها.
خلال مسيرتها لم تخجل من الناس وهي تحضهم على مساعدة بعضهم بعضاً في هذه الأزمة، وإنما كان الناس يخجلون أمام شجاعتها وجرأتها والدور الذي تقوم به، في لقاء سابق معها كانت حريصة على التأكيد أن الدور الذي تقوم به هو دور المرأة السورية التي لم تكن على مر العصور إلا فاعلة في العمل الوطني، ولا تقف أمامها ظروف صعبة ولا عقول متحجرة.
كل الذين عرفوها أحبوها، يوماً ما زارها العداء الفرنسي “ستيفان” في أحد المطابخ التي أسستها في مدينة اللاذقية، وبعد حديث قصير معها (شمر عن زنوده) وبدأ العمل لمساعدتها، وفي النهاية قالت له لست من أصحاب الأموال لكي أدعوك إلى أحد مطاعم المدينة على الغداء، لكنني أدعوك لكي تأكل من الطعام الذي ساهمت في صنعه، كانت هذه الكلمات كفيلة بجعله ينحني أمامها ويعيد الزيارة إلى سورية من جديد بعد فترة من الزمن ويشارك في ماراتون مع عدد من الرياضيين السوريين داخل سورية ويقول “سهام الشبل” جعلتني أحب سورية أضعاف ما أحببتها من قبل.
“أم الجنود” لم يكن هاتفها يهدأ يومياً عشرات ومئات الاتصالات من مقاتلين من مختلف الجبهات يطلبون من أمهم تأمين حاجة لهم، بعضهم طلبوا منها أن تزوجهم، وفعلت، واحتفلت بأعراسهم وساهم في جعلهم يؤسسون بيتاً وأسرة، وآخرون أخرجتهم من أزمات نفسية بعد الإصابة، وشاركها في عملها أمهات الشهداء والجرحى.
في السابع من حزيران من عام2016 حملت “أم الجنود” طعام الإفطار لأبنائها الصائمين في ريف اللاذقية وحرصت كعادتها أن تقدم لكل جندي وجبته بأيديها، وبينما كانت تتنقل من جبهة إلى أخرى لتنقل الطعام للصائمين وقبل أن تتناول طعام إفطارها، استهدفت بصاروخ حراري أدى لاستشهادها مع عدد من الضباط الذين كانوا برفقتها، وأصيبت رفيقة دربها هيام خضر إصابة بليغة بترت ساقها على اثرها.
في وداعها حضر أبناؤها الجنود كانت عيونهم تحكي الكثير عن سهام التي صلوا لراحة روحها بعدما أمضت العمر وهي تعمل لراحتهم، لم يفارقوا التربة حتى بعد انتهاء التشييع، كانوا يريدون أن يبقوا بقربها كما كانت بقربهم.
رحلت المهندسة “سهام الشبل” وشارك الآلاف في تشييعها، رحلت بعد أن حفرت اسمها في قلوب وعقول كل من عرفوها، كانت سورية بكل ما للكلمة من معنى، عرفت بصبرها وحرصها على وحدة البلاد التي لم تميز بين أبنائها يوماً، كانت تصلي للسلم وتنشد الحياة للسوريين، لكنها لم تكن تقبل أن تجلس في المنزل وتندب، حملت حنانها وطيبها ومضت بالعمل الذي آمنت به وجعلت الآلاف يؤمنون بها وكانت محط ثقتهم ومحبتهم التي لايمكن لبعض السطور أن تلخصها تماماً مثلما لايمكن للمجلدات أن تحصي عطاءات المناضلة “سهام شبل”.
التعليقات مغلقة.